أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

{فأما الزَّبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}- سورة الرعد، الآية 17

السبت، سبتمبر 13، 2025

من رسومات الكهوف إلى الإزميل والماوس: هل تغيّرت الأداة أم تغيّر المعنى؟



تربط هذه الصورة بين الإدراك الحسي والتفكير الإبداعي والتنفيذ اليدوي، وتُظهر كيف تتفاعل الحواس والعقل مع الفعل المعماري. الصورة تُجسد أن المعمار ليس فعلًا تقنيًا فقط، بل مسارًا إدراكيًا متكاملًا، مهما تطورت أدواته.


جمال الهمالي اللافي

في كل مرحلة من مراحل تطور أدوات المعماري، كان هناك من يرفع راية الدفاع عن "الأصالة"، وكأنها حكر على الوسيط اليدوي. من رسومات الكهوف الأولى، إلى الإزميل الذي حفر على الصخور، ثم قلم الرصاص والحبر، وصولًا إلى الماوس والشاشة، ظلّ الخطاب المعماري يتأرجح بين تقديس الأداة ومساءلة الفكرة. واليوم، حين يستعين المعماري ببرامج الرسم الحديثة، يُتهم أحيانًا بالتخلي عن "الروح"، وكأن الإبداع لا يتحقق إلا عبر الورقة والقلم.

لكن هذا النقد، وإن بدا حريصًا على جوهر المهنة، يغفل عن أن جوهر المعمار لا يكمن في الأداة، بل في الفكرة، وفي القدرة على تجسيدها بدقة وصدق. الرسم اليدوي ليس معيارًا للإبداع، بل وسيلة من وسائل التعبير. ومن يجيد التعبير عبر الماوس أو الشاشة لا يقل صدقًا عن من يرسم بالقلم. بل إن البرامج الحديثة، من أوتوكاد إلى سكيتش أب، منحت المعماريين أدوات أكثر توافقًا مع تسارع الأفكار، وحررتهم من عناء التكرار اليدوي، ومن الملل الذي يرافق إعادة تعديل الاسكتشات بعد اكتشاف خلل ما.

لقد رسم بعض النقاد المعماريين صورة شهيرة تُظهر كيف تنتقل الفكرة من الرأس إلى العين إلى اليد، في سلسلة إدراك لا تنكسر. هذه الصورة لا تُدين التحول من الورقة إلى الشاشة، بل تُذكّرنا بأن جوهر العملية التصميمية لم يتغير. الرأس لا يزال يفكر، والعين لا تزال ترى، واليد لا تزال تُنفّذ. ما تغيّر هو القلم والورقة، من رصاص إلى ماوس، ومن ورقة إلى شاشة. ولا ندري ما الجديد الذي سيأتي، لكننا نعلم أن المعماري الصادق سيظل يبحث عن أداة تُجسّد فكرته بأوضح صورة، لا عن وسيلة تُرضي الحنين.

إن الانتقال من الرسم اليدوي إلى الرقمي ليس تخليًا عن الحرفة، بل هو انسجام مع طبيعة المعماري نفسه، ومع حاجته إلى آلية تنفيذ تتفق مع إيقاعه الذهني. فلكل معماري آلية ينفذ بها رسوماته، وليس بالضرورة أن تكون يدوية. وما دامت البرامج تساعده على تحقيق فكرته وتوصيلها بأوضح صورة لزبائنه، فإن التشكيك في مشروعيتها لا يعدو أن يكون حنينًا غير مبرر، أو مقاومة لتغير لا يمكن إيقافه.

الأصالة لا تُقاس بنوع القلم، بل بصدق الفكرة، وبقدرة المعماري على أن يكون مرآة لذاته، لا نسخة من ماضٍ لا يعود. وما يهم في النهاية، ليس كيف رُسمت الفكرة، بل كيف وصلت، وكيف أثّرت، وكيف بقيت.

من الفكرة إلى الواقع: هل تحقق المشروع أم أُضيف إلى التشويه؟

الرسم المعماري، في جوهره، ليس لوحة تشكيلية تُعلّق على الجدار، بل أداة توضيح دقيقة تُوجّه العمالة المنفذة على أرض الواقع. بعد أن يقتنع الزبون بأن هذا هو المشروع الذي يريده، تبدأ مرحلة الاختبار الحقيقي: هل ينجح التصميم في تحقيق معايير الكفاءة والملاءمة؟ أم يتحول إلى كتلة جديدة تُضاف إلى مشهد عمراني مشوّه، تساهم في تفاقمه رغم دقة خطوطها اليدوية ورقيّ إخراجها على الورق؟

العبرة ليست في جمال الرسم، بل في صدق التنفيذ. فكم من مشروع رُسم بإتقان، لكنه عند التنفيذ أضحى جزءًا من العشوائية، لا من الحل. وهنا يتضح أن الأداة، سواء كانت قلمًا أو ماوسًا، ليست هي الحكم، بل النتيجة التي تترك أثرها في الواقع، وتُعيد تشكيله أو تُشوّهه.

النافذة التي لا تُطل

 


جمال الهمالي اللافي

تأملات في التوتر المعماري بين الرغبة والرهبة

في تصميم الاستراحات، يطلب الزبائن نوافذ واسعة، يطمعون في إطلالة على الطبيعة، كأنهم في بلادٍ لا تُقلقهم الهواجس. وحين تُنفذ، لا يطيلون النظر إلى الخارج، بل يطيلون التحديق في احتمالات التعدي على خصوصيتهم. تبدأ المطالبات: حديد حماية لا يمنع ولا يسمح، زجاج لا يكشف ولا يعزل، إطلالة لا تُرى ولا تُراقب.

النافذة، التي كانت وعدًا بالانفتاح، تتحول إلى مصدر قلق. تصبح سببًا لرفض المبيت، خصوصًا لمن يبيت بمفرده. يتراجع الزبون عن رغبته الأولى، ويطلب ما يناقضها، لأن الواقع لا يشبه الصور.

من معايشتي، لا أحد ينظر للخارج حين يكون داخل الاستراحة. الحديث، الأكل، النوم، كلها تشغلهم عن الإطلالة. النافذة إذًا ليست للمنظر، بل للضوء، وربما للشعور بأن الخارج ممكن، دون أن يكون حاضرًا.

الصورة النمطية كدافع تصميمي

في كثير من الطلبات، لا ينبع الذوق من الحاجة، بل من الصورة. الزبون لا يطلب نافذة واسعة لأنه يحتاجها، بل لأنه رآها في مكانٍ آخر، في منزلٍ أنيق، في لقطةٍ عابرة على شاشة. يريد أن "يكون مثلهم"، دون أن يسأل نفسه: هل نحن مثلهم فعلًا؟

هذه الرغبة في التشبّه لا تقتصر على النوافذ، بل تمتد إلى تفاصيل كثيرة: الألوان، الأثاث، توزيع الفراغات. لكنها في النوافذ تأخذ شكلًا أكثر حدة، لأنها تمسّ العلاقة بين الداخل والخارج، بين الأمان والانكشاف.

الزبون يطلب نافذة واسعة، ثم يطالب بحماية مشددة. يريد إطلالة، ثم يخاف منها. هذا التناقض يكشف أن الطلب لم يكن نابعًا من وعي بالبيئة، بل من انبهار بصورة. وحين تصطدم الصورة بالواقع، يبدأ التراجع، ويظهر الخوف، وتُعاد صياغة الرغبة.

الإطلالة على الهواجس

النافذة هنا ليست مجرد فتحة معمارية، بل مرآة لهواجس الداخل. كلما اتسعت، اتسعت معها المخاوف. فهي تطل على الخارج، لكنها تفضح الداخل. وتُذكّر الساكن بما لا يريد أن يُكشف.

الزبون يريد نافذة "مثلهم"، لكنه يعيش في واقع لا يشبههم. يطلب الانفتاح، ثم يطالب بالحماية. يريد أن يرى، دون أن يُرى. وهذه الازدواجية تكشف عن أثر الصورة النمطية في تشكيل الطلب، دون وعي بالبيئة المحلية.

الوظيفة الفعلية مقابل المتخيلة

من خلال المعايشة، يتضح أن الإطلالة ليست ممارسة فعلية، بل فكرة متخيلة. حين يدخل الزبون إلى الاستراحة، ينشغل بالحديث، بالأكل، بالنوم. لا أحد ينظر إلى الخارج. النافذة لا تُستخدم كما يُظن، بل تُترك كخلفية صامتة.

وهذا يعيد تعريف وظيفتها: ليست للإطلالة، بل للضوء والتهوية، وربما للشعور بأن الخارج موجود، دون أن يكون حاضرًا. النافذة إذًا ليست عينًا على الطبيعة، بل فتحة رمزية على الاحتمال.

تناقض مجتمعي بين الرغبة والرهبة

هذا التوتر لا يخص الزبون وحده، بل يعكس حالة مجتمعية أوسع: رغبة في الانفتاح على الآخر، وفي الوقت ذاته خوف من انكشاف الذات. يسعى المجتمع إلى صورة منفتحة، لكنه يرتد إلى الانغلاق حين يقترب التنفيذ. يريد أن يُشبه "الآخر"، لكنه لا يحتمل تبعات التشابه.

النافذة، في هذا السياق، ليست تفصيلًا معماريًا، بل تعبير عن صراع داخلي بين التطلع والارتداد، بين الرغبة والرهبة، بين ما يُطلب وما يُراد حقًا.

خاتمة

لهذا، لا أساير الزبون في اتساع النوافذ. أحكي له عن تجارب سابقة، لا لأقنعه، بل لأحميه من نفسه. فالنافذة التي لا تُطل، قد تكون أصدق من تلك التي تُطل على قلقٍ لا يُحتمل.

في النهاية، المعمار لا يرضي الرغبات فقط، بل يكشفها. وما يُطلب في لحظة انبهار، قد يُرفض في لحظة مواجهة. والنافذة، حين تُصمم بوعي، لا تُطل على الخارج فقط، بل تُطل على الداخل أيضًا.

في الذكرى المئوية لتأسيس مدرسة الباوهاوس: بين الانتشار والانفصال

 


جمال الهمالي اللافي

في الذكرى المئوية لتأسيس مدرسة الباوهاوس الألمانية (1919–2019)، استوقفتني إشارة في منشور للدكتور عبدالمجيد عبد الرحمن، أحد خريجي هذه المدرسة العريقة والمقيم في ألمانيا، إلى هذه المناسبة. وإن جاءت مقالته متأخرة عن الذكرى بعدة أعوام، إلا أنها أعادت فتح باب التأمل في أثر الباوهاوس العميق على العمارة الحديثة، وفي المفارقة بين انتشارها العالمي، وبين مشاريع العمارة المحلية التي كثيرًا ما تُنتكس في بيئتها الأصلية رغم صدقها.

هذا التمهيد يفتح باب المقارنة بين تجربة الباوهاوس، التي انتشرت لأنها أرادت أن تكون عالمية، وتجارب محلية مثل مشروع حسن فتحي، الذي انتكس في موطنه ثم تبنّاه الآخرون كتحفة لا كفعل اجتماعي حيّ.

بين الباوهاوس وفتحي: حين يُنتزع المعنى من جذره

في العمارة، لا يُقاس النجاح بمدى الانتشار، بل بمدى الانسجام بين الفكرة وسياقها. مدرسة الباوهاوس الألمانية نشأت برؤية حداثية تسعى لتوحيد الفنون والصناعة، وانتقلت إلى أمريكا وأوروبا حيث وجدت بيئة صناعية حديثة تتبناها وتعيد إنتاجها. لم تُعامل كتحفة، بل كمنهج تصميمي يُمارس ويُطوّر. انتصرت لأنها أرادت أن تكون عالمية، فكان انتشارها خارج حدودها تأكيدًا لغايتها.

أما مشاريع العمارة المحلية، حين تكون غايتها تحسين الواقع الاجتماعي والبيئي في موطنها، فإن عدم تبنيها محليًا يُعد انتكاسة لا يمكن تجميلها. تجربة حسن فتحي مثال صارخ: رؤيته كانت موجهة للفلاح المصري، لبناء بيئة عمرانية متسقة مع احتياجاته وموروثه. لكنها لم تجد دعمًا في بيئتها الأصلية، فانتقلت إلى الخليج، حيث تبناها الأثرياء لا كفعل اجتماعي، بل كرمز زخرفي. تحولت "عمارة الفقراء" إلى قصور فارهة، فاُنتزعت من معناها، وعلّقت كتحفة في بيتٍ غريب، لا لتُمارس كفعلٍ حيّ.

الفرق هنا ليس في جودة الفكرة، بل في طبيعة الغاية. فحين تكون الرؤية محلية، فإن انتشارها خارج حدودها لا يُعد انتصارًا، بل قد يكون تشويهًا. العمارة ليست شكلًا، بل خطاب اجتماعي وثقافي، لا يكتمل إلا بانسجامه مع بيئته. وما يُنتزع من بيئته ليُعرض كتحفة، يفقد روحه، حتى لو حاز الإعجاب.

الجمعة، سبتمبر 12، 2025

المدينة لا تربي، بل البيت الذي تعفف

 حين يُختزل الانتماء في الجغرافيا ويُغفل جوهر التربية

جمال الهمالي اللافي

هل تصنع المدينة الإنسان؟ أم أن الإنسان هو من يمنح المدينة معناها؟
سؤالٌ يتكرر كلما رأينا من يُحسبون على أهل المدن، وقد صدرت عنهم سلوكيات لا تمت للحضارة بصلة، ولا تعكس أي انتماء حقيقي لقيم المكان الذي نشأوا فيه. فليس الانتماء الجغرافي كافيًا لتشكيل الوعي، ولا يكفي أن يولد الإنسان في قلب المدينة أو يعيش بين أحيائها ردحًا من الزمن ليكون من أهلها حقًا.

في المدن الليبية... حين يغيب السلوك وتبقى الواجهة

في طرابلس وبنغازي وترهونة وزليتن ومصراتة وغدامس وسبها، كما في سائر المدن الليبية، لا تزال المفارقة قائمة بين من يسكن المدينة، ومن ينتمي إليها حقًا. فالمشهد الحضري، رغم ما فيه من عمران وتاريخ، لا يعكس بالضرورة سلوكًا حضاريًا متجذرًا. كثيرًا ما نرى من يُحسبون على أهل المدن، وقد صدرت عنهم تصرفات تُخالف روح المكان، وتُخدش نسيجه الاجتماعي.  هذا التناقض لا يعود إلى المدينة نفسها، بل إلى البيوت التي لم تُربِّ، وإلى قيمٍ غابت في زحمة التحولات، فصار الانتماء مجرد عنوان، لا مضمونًا.

التربية أولًا... لا الجغرافيا

الرقي الأخلاقي لا يُكتسب من الشوارع ولا من المعالم، بل يُغرس في البيوت التي تعففت، وتربّت على شيوع الخير في النفوس، وصون الكرامة في التعامل. البيوت التي لا تكتفي بتعليم الأبجديات، بل تزرع في أبنائها حسًّا بالمسؤولية، ووعيًا بالآخر، واحترامًا للمكان.

في المقابل، حين تغيب هذه التربية، لا يعود للمدينة معنى. بل تتحول إلى مسرحٍ مشوّه، تُمارس فيه الخسّة والنذالة تحت لافتة الانتماء المكاني، بينما الحقيقة أن السلوك لا يعكس إلا ما تربّى عليه صاحبه، لا ما يحيط به من عمران.

المفارقة بين الانتماء المكاني والانتماء القيمي

المدينة، في جوهرها، ليست مجرد تجمع عمراني، بل منظومة قيم وسلوكيات. من يمنحها روحها هم أهلها الحقيقيون، الذين يلتزمون بآدابها، ويحترمون نسيجها، ويصونون علاقتها بالزمن والناس. أما من نشأوا في بيئات خالية من القيم، فمهما تظاهروا بالانتماء، يظلون غرباء عن روح المدينة، حتى لو عاشوا فيها عمرًا.

هذه المفارقة تطرح سؤالًا أعمق: هل نحن نُخطئ حين نربط بين السكنى والانتماء؟ وهل آن الأوان لإعادة تعريف من يُحسب على المدينة، لا بالبطاقة الشخصية، بل بالسلوك اليومي؟

المدينة ككائن حي... والإنسان روحها

حين يُفسد الإنسان المدينة بسلوكه، لا تتشوه معالمها فقط، بل يتصدّع معناها. فالمكان لا يصنع الإنسان، بل الإنسان هو من يمنح المكان روحه، أو يسلبه إياها. ولهذا، فإن إصلاح المدن لا يبدأ من الحجر، بل من البشر. من إعادة الاعتبار للتربية، ومن ترميم القيم التي تهدمت في بعض البيوت، لا في بعض الشوارع.

خاتمة

المدن لا تُختزل في معمارها، بل في أخلاق من يسكنها. وإن أردنا أن نعيد لها وجهها الحقيقي، فعلينا أن نعيد النظر في ما يُغرس في البيوت، لا في ما يُبنى في الساحات. فالحضارة تبدأ من الداخل، من التربية، من الصدق، من التعفف، ومن الإيمان بأن الانتماء لا يُقاس بالمكان، بل بما نمنحه له من معنى.

الخميس، سبتمبر 11، 2025

العمارة كملاذ: حين يصبح الفضاء شريكًا في التوازن النفسي

 

جمال الهمال اللافي

في عالم يزداد توترًا، وتضيق فيه المساحات النفسية، تبرز العمارة كأحد آخر الحقول التي لا تزال تحتفظ بقدرتها على الاحتواء. ليست العمارة مجرد بناء، ولا المصمم مجرد موزّع للكتل والفراغات. العمارة، حين تُمارس بصدق، هي فعل رعاية. هي استجابة صامتة لحاجات لا تُقال، وملاذٌ لمن أنهكته الحياة ولم يعد يطلب سوى مساحة لا تُحاكمه، ولا تُرهقه، ولا تُذكّره بما فاته.

الفضاء كامتداد للذات المنهكة

حين يدخل الإنسان إلى فضائه الخاص، لا يبحث عن ترف بصري، بل عن توازن داخلي. الغرفة ليست مجرد أربعة جدران، بل مرآة لحالته النفسية، وامتداد لهشاشته أو صلابته. الضوء، التوزيع، الملمس، وحتى الصمت، كلها عناصر تُسهم في صناعة الراحة، أو في تعميق التوتر. العمارة لا تُداوي الجسد، لكنها تُهيّئ له شروط التعافي.

تجربة حية: حين ينصت التصميم لما لا يُقال

في أحد البرامج المعمارية، طُلب من مصممة داخلية تعديل غرفة نوم لطبيبين جراحيين، يقفان لساعات طويلة في غرفة العمليات. لم يكن طلبهما متعلقًا بالذوق أو الترف، بل بالحاجة إلى ملاذ يعيد لهما توازنهما النفسي والجسدي بعد أيام مرهقة.

عندما اكتملت الغرفة، ودُعيت الزوجة لرؤيتها، اغرورقت عيناها بالدموع. لم يكن ذلك بكاءً على جمال التصميم، بل انفعالًا نابعًا من شعور عميق بأن أحدًا أخيرًا أنصت لحاجتها الداخلية، واحتضن هشاشتها دون أن يطلب منها الصلابة.

هذه اللحظة، العابرة في ظاهرها، تكشف جوهر العمارة حين تُمارس بصدق: لا كاستعراض بصري، بل كفعل إنصات لما لا يُقال، واحتواء لما لا يُعبّر عنه بالكلمات. العمارة، حين تنجح، لا تُجمّل المكان فقط، بل تُداوي ما لا يُداوى بالقول.

المعماري كمنصت قبل أن يكون موجّهًا

المعماري الحقيقي لا يبدأ من الهوية، بل من الإنسان. إنه يُنصت أولًا للحاجات النفسية والجسدية لمن يقصده، ويستوعب ظروفه وتوتراته وهشاشته، قبل أن يخوض في مسائل الهوية المعمارية، أو يختار مواد البناء، أو يقرر أساليب الإنشاء. فالمطلب الإنساني هو نقطة الانطلاق، وما يأتي بعده من خيارات تصميمية يجب أن يُبنى عليه، لا أن يسبقه أو يطغى عليه.

الهوية المعمارية ليست فرضًا، بل استجابة واعية تنبع من فهم عميق للإنسان في سياقه، وتُصاغ بما يليق براحته وكرامته، لا بما يُرضي الذوق العام أو يُجاري السوق.

العمارة في مواجهة التوتر اليومي

في زمن التسرّع، تصبح العمارة فعل مقاومة. مقاومة للضجيج، للتشظي، للانفصال عن الذات. حين يُصمم الفضاء ليكون مأوى، لا مجرد مكان، فإنه يُعيد للإنسان شيئًا من توازنه المفقود. العمارة، في هذه الحالة، لا تُقدّم حلولًا جاهزة، بل تُتيح للساكن أن يستعيد نفسه، أن يتنفس، أن يهدأ.

خاتمة

العمارة ليست استجابة لطلب وظيفي، بل لحاجة إنسانية عميقة: أن يجد الإنسان مكانًا لا يُطالبه بشيء، ولا يُحمّله أكثر مما يحتمل. حين يُصمم المعماري بوعي، لا يخلق مكانًا فحسب، بل يخلق لحظة تنفس. وفي زمن التوتر، تصبح العمارة فعل رحمة.

الأربعاء، سبتمبر 10، 2025

حين يُحتفى بمن يهدم ويُقصى من يبني: قراءة في واقع العمارة العربية

 


جمال الهمالي اللافي

في المشهد المعماري العراقي، تبرز مفارقة لافتة بين نماذج مختلفة من المعماريين الذين عملوا في بيئات غربية، لكنهم اتخذوا مسارات فكرية متباينة. فالمعمارية زها حديد، التي تبنّت الجنسية البريطانية ويعمل مكتبها من لندن، اختارت أن تنخرط في تيار التفكيكية المعمارية، وهو تيار فلسفي نشأ في سياق نقدي غربي يهدف إلى تقويض البنى المستقرة، سواء كانت معمارية أو معرفية. هذا التبني جعلها محط إعجاب المؤسسات الغربية، التي تحتفي غالبًا بمن يزعزع الثوابت، خاصة حين يصدر ذلك من "آخر" عربي أو مسلم، فيُمنح صفة التنوير والتجاوز.

في المقابل، نجد المعماريين محمد صالح مكية (رحمه الله) ورفعت الجادرجي، اللذين حافظا على جنسيتهم العراقية، واشتغلوا على تأصيل العمارة الإسلامية والعراقية، لا بوصفها فولكلورًا، بل كمشروع حضاري متكامل. مكية، الذي نال جائزتي الآغا خان والعواصم والمدن الإسلامية، قدّم مشاريع معمارية تنهل من التراث الإسلامي وتعيد صياغته بلغة معاصرة، بينما سعى الجادرجي إلى بناء خطاب بصري عراقي مستقل، ناقدًا للحداثة الغربية، ومؤمنًا بضرورة استعادة الذات الثقافية في التصميم.

ورغم القيمة المعرفية والجمالية التي يحملها هذا التيار التأصيلي، ظل حضوره الأكاديمي والإعلامي محدودًا، مقارنةً بالاحتفاء الواسع بزها حديد. ويعود ذلك إلى هيمنة المنظومة الغربية على معايير التقدير والنجاح، حيث تُمنح الجوائز الغربية هالة رمزية تجعلها معيارًا للتفوق، بينما تُهمّش الجوائز التي تصدر عن مؤسسات إسلامية أو عربية، رغم عمقها وارتباطها بالبيئة والسياق.

إن هذا التفاوت في التقدير لا يعكس فقط اختلالًا في سلم الجوائز، بل يكشف عن أزمة أعمق في مناهج التعليم المعماري في الجامعات العربية، حيث يُدرّس المنهج الحداثي والتفكيكي بوصفه "علمًا"، بينما يُنظر إلى العمارة الإسلامية بوصفها "تراثًا" أو "ماضٍ"، ما يؤدي إلى تغييبها عن الحاضر والمستقبل، ويكرّس نمطًا من التغريب المعرفي والبصري.

ومن هنا، لا غرابة أن يتهافت طلاب العمارة على مشاريع زها حديد، ويعتبرونها نموذجًا يُحتذى، بينما يُقصى مكية والجادرجي من دائرة القدوة، رغم أن مشاريعهم أكثر صدقًا في التعبير عن الهوية، وأكثر عمقًا في فهم البيئة والسياق. وهذا لا ينطبق على العراق وحده، بل على جميع المعماريين العرب الذين كرّمتهم جوائز الآغا خان ومنظمات المدن الإسلامية، فهؤلاء جميعًا لا يرتقون – في نظر المؤسسات الأكاديمية العربية – إلى مرتبة زها حديد التغريبية.

إنه واقع يعكس أزمة وعي، لا أزمة كفاءة. أزمة مناهج، لا أزمة إبداع. فحين يُدرّس المنهج المعماري الإلحادي جيلاً بعد جيل، لا غرابة أن يُستبدل الصالح بالطالح، وأن يُحتفى بمن يهدم، ويُقصى من يبني.

مدونة الميراث: نحو خطاب معماري صادق

من الجذور إلى الحاضر: هذا هو الميراث


جمال الهمالي اللافي

في زمنٍ تتكاثر فيه الأصوات وتتشابه فيه الصور، تنشأ الحاجة إلى خطاب معماري نقدي لا يُجامل، ولا يُبهر، ولا يُستعرض. مدونة الميراث هي محاولة واعية لإعادة الاعتبار للهوية المحلية، وتفكيك الغفلة، ومقاومة الاستلاب البصري والثقافي، عبر نصوص تأملية ونقدية تستند إلى تجربة طويلة، وتُخاطب العقل دون أن تتنازل عن العمق.

لماذا "الميراث"؟

الاسم ليس ترفًا لغويًا، بل اختيارٌ واعٍ يعكس جوهر المشروع: إعادة بناء الذاكرة المعمارية والثقافية، لا بوصفها ماضياً يُحنّ إليه، بل كرصيد حيّ يُعاد توظيفه في الحاضر، ويُستثمر في المستقبل. الميراث هو ما يبقى حين تختفي الزينة، وما يُنتفع به حين تُهمل الموضة.

لماذا العمارة؟ ولماذا النقد؟

العمارة ليست جدرانًا، بل خطابٌ بصري واجتماعي وثقافي. والنقد هنا ليس ترفًا فكريًا، بل مسؤولية مهنية وأخلاقية، تُعيد تقييم ما يُبنى، وتُسائل ما يُهمل، وتُعيد الاعتبار لما يُقصى. في السياق الليبي، حيث تتداخل العوامل البيئية والاجتماعية والاقتصادية، يصبح النقد ضرورة لا خيارًا.

كيف نكتب؟

نكتب من باب الالتزام لا الاستعراض. لا نُجامل، ولا نُداهن، ولا نُبهر. نكتب بوعيٍ يحترم الجذور، وينفتح على العصر دون انبهار. نكتب نصوصًا لا تُغرق القارئ في الاحتمالات، ولا تُربكه بالتكثيف، بل تُقدّم له فكرة واضحة، بلغة دقيقة، ونبرة صادقة.

من هو القارئ الذي نخاطبه؟

نخاطب المعماري الليبي أولًا، والمهتم بالشأن الثقافي والمعماري ثانيًا، وعامة القراء الذين يبحثون عن وعيٍ لا يُقصيهم، ولا يُعقّد عليهم الفهم. كل نص في الميراث مكتوب بلغة توازن بين التخصص والوضوح، وبين العمق والبساطة، دون أن تُفرّط في أيٍّ منهما.

كيف نقيّم المعمار؟

نقيّمه وفق خمسة محاور نقدية واضحة:

  1. الخصوصية السمعية والبصرية
  2. الملاءمة المناخية والبيئية
  3. واقعية المواد وتقنيات الإنشاء
  4. كفاءة الاستعمال والوظيفة
  5. الانتماء للهوية المحلية والثقافة الإسلامية

هذه المحاور ليست شروطًا شكلية، بل أدوات لفهم ما يُبنى، وتحديد ما يستحق البقاء، وما يُبنى على وهم المعاصرة وثقافة الهدم.

أنماط البيوت التقليدية في ليبيا

المسكن الطرابلسي التقليدي المنزل ذو الفناء " الحوش " جمال الهمالي اللافي مقدمة / يعتبر(...