أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

{فأما الزَّبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}- سورة الرعد، الآية 17

الجمعة، سبتمبر 19، 2025

العصرنة كغيبوبة جماعية: حين يُستبدل المعنى بالعرض


جمال الهمالي اللافي

هل تبحث عن تصاميم عصرية؟

لمساكن، مباني تجارية، إدارية، مطابخ، صالونات، نوم، معيشة؟

سؤال استغفالي، استدراجي... وفخ العصرنة!

وما أدراك ما العصرنة؟

استبدال السمين بالغث، والطيب بالخبيث، والصالح بالطالح.

استبدال المناسب بالمتعارض، والوعي بالغيبوبة.

والغائب عن وعيه، لا يُخاطَب بمنطق.

لن يسمع، لن يعقل

أيقِظه أولًا، ثم حدّثه بما تشاء.

قبل ذلك، أنت تخاطب أمواتًا يمشون.

هذا هو الواقع.

العصرنة كقناع لغوي

في الخطاب المعماري والإعلاني، تُستخدم مفردات مثل "حديث"، "راقي"، "مودرن" كأقنعة لغوية تُخفي وراءها تغييبًا للهوية، وتفريغًا للفضاء من روحه. لا تُقاس جودة التصميم بمدى صدقه أو ارتباطه بالبيئة، بل بمدى مطابقته لمعايير خارجية، مستوردة، لا تُراعي السياق المحلي ولا الذاكرة الجمعية.

الذوق الجماعي كمنتَج إعلامي

الذوق العام لم يعد نابعًا من التجربة أو الحاجة، بل من الصورة. الإعلام لا يعرض فقط، بل يُملي. يُكرّر النموذج حتى يتحول إلى معيار، ويُغرق المتلقي في رغبة لا يملكها أصلًا. وهنا، يصبح الذوق الجماعي غيبوبة جماعية، لا وعيًا مشتركًا.

العمارة كخطاب مفرغ من المعنى

في المدن العربية، تُبنى مساكن لا تُشبه أهلها، وتُصمم مبانٍ لا تُراعي وظيفتها، وتُستورد أنماط لا تُحاكي المناخ ولا الثقافة. يُستبدل الصدق بالزخرفة، والبساطة بالاستعراض، والوظيفة بالعرض. ويُهمّش المعماري الواعي لصالح المقاول السريع، ويُقصى النقد لصالح الترويج.

في الحاجة إلى يقظة قبل الحوار

حين يغيب الإدراك، لا يُجدي الخطاب. لا يمكن إقناع من لا يرى، ولا يمكن محاورة من لا يسمع. لذلك، فإن أول خطوة في مقاومة هذا الواقع ليست في تقديم البديل، بل في فضح الزيف، وفي استعادة القدرة على التمييز. الوعي، حتى لو كان عاجزًا عن التغيير، هو فعل مقاومة في ذاته.

في زمن العرض، يبقى الوعي هو الفعل الوحيد الممكن

ليست الأزمة في غياب التصاميم الصادقة، بل في غياب من يطلبها. ليست المشكلة في المعماري، بل في الذوق الذي أُعيد تشكيله خارج الوعي. وحين يتحول الذوق إلى غيبوبة، يصبح الخطاب عبثًا، والنقد ترفًا، والبديل غير مرئي. لكن حتى في هذا الزمن، يبقى الوعي فعلًا مقاومًا، ولو كان عاجزًا عن التغيير. يبقى التمييز بين الغث والسمين، بين الطيب والخبيث، هو أول خطوة نحو استعادة المعنى. والمعنى، حين يُستعاد، لا يحتاج إلى زخرفة. يكفيه الصدق.

الثلاثاء، سبتمبر 16، 2025

من التنظير إلى التحقق: تحديات المعمار في غياب التنفيذ


جمال الهمالي اللافي

ليس الإنسان كائنًا نظريًا، بل هو ابن ما يراه ويختبره. الفكرة، مهما بلغت منطقها، تبقى معلّقة في الفراغ ما لم تجد أرضًا تُزرع فيها. وفي حقل العمارة، حيث تتقاطع الرؤية مع المادة، يصبح الحرمان من التنفيذ ضربًا من الإقصاء المعرفي، لا المهني فقط.

حين تُحرم المشاريع من التحقق، لا يعود للخطاب المعماري ما يسنده سوى الكلمات. والكلمات، مهما صيغت بإتقان، لا تُقنع من اعتاد أن يصدّق ما يُبنى لا ما يُقال. وهكذا، تتآكل الحجة، ويبهت المنهج، ويُختزل المعماري في دور المتأمل لا الفاعل.

الخبرة لا تُكتسب من التأمل وحده، بل من الاحتكاك بالواقع، من التجريب، من الخطأ والصواب. وكل فرصة ضائعة للتنفيذ، هي خصم من رصيد الخبرة، وجرح في جسد الممارسة. وبين النظرية والتطبيق، هوّة لا تُردم بالشرح، بل بالعمل.

حين تُخيفنا الفخامة وتُطمئننا البساطة


جمال الهمالي اللافي

عندما تتصادم الفخامة مع البساطة، ينحاز الناس للفخامة، حتى وهم مقتنعون بأن البساطة أصدق.
ذلك لأن البساطة، في ثقافة البشر، تُقرن غالبًا بالضعف، بينما تُقرن الفخامة بالقوة والهيبة.
والناس، بطبيعتهم، يميلون إلى الاحتماء بالقوة، لأنها تمنحهم شعورًا بالأمان، وتغطي على عجزهم عن صناعة قيمة نابعة من ذواتهم.

لكن التاريخ لا يُنصف هذا الميل. فالغلبة، في أحداثه، كانت دائمًا للبساطة. لأن الفخامة تفرض نفسها بالخوف، بينما تفرض البساطة حضورها بالاحترام. ومشاعر الأمن الحقيقي لا تنبع من الهيبة، بل من الطمأنينة التي تولدها البساطة في النفوس.

وفي المعمار، تتجلى هذه المفارقة بوضوح. المدن التي تأسست على الفخامة والهيبة، لتُرهب وتُبهر، صارت مجرد أثر بعد عين. بينما المدن الشعبية، التي نشأت من الناس ولهم، ما زالت تواصل تجذرها في مسارب التاريخ حتى يومنا هذا. لا لأنها أفخم، بل لأنها أبسط، وأصدق، وأكثر قدرة على البقاء.

الاثنين، سبتمبر 15، 2025

العمارة بذرة لا قالبًا .

 العمارة بذرة لا قالبًا . ليست فعلًا يُفرض على الأرض، بل نبتة تنمو من تربتها، وتتشكل وفق مزاجها ومناخها وذاكرتها. كل مشروع حقيقي يبدأ من الإصغاء للمكان، لا من استدعاء شكل مسبق. البيئة ليست خلفية، بل هي الحاضنة، والمجتمع ليس مستخدمًا، بل هو الشريك.

لهذا، لا أُسقط تصميمًا على موقع، بل أستنطقه حتى يبوح بما يستحق أن يُبنى فيه. فالعمارة التي لا تنمو من بيئتها، تبقى دخيلة مهما تجمّلت.

جمال الهمالي اللافي

من رغيف الخبز إلى عمارة البيت: كيف يُقاس تراجع الإبداع في تفاصيلنا اليومية؟

  

جمال الهمالي اللافي

ما يحدث لفردة الخبز، يحدث لجدار البيت، ولتفصيل الباب، ولتوزيع الضوء في المسكن. غياب الشغف في صناعة الخبز هو ذاته غيابه في تصميم البيت الليبي المعاصر، حين يُستبدل الحس بالمخطط، والضمير بالمقاول، والهوية بالاستيراد البصري. هذا الربط ليس مجازًا بل واقعًا، يُظهر كيف أن الرداءة لم تعد استثناءً، بل نمطًا معمّمًا في تفاصيل الحياة اليومية.

1.      الشغف كشرط للإبداع

في زمنٍ غير بعيد، كانت الحرف تُنجز بشغف، من فردة الخبز التي تُخبز بحب، إلى زخرفة الأبواب التي تُنقش بصبر. كان الصانع، والمعماري، والحرفي، والفنان، ينهلون من معين التأني، ويُقبلون على الصنعة كمن يُقبل على عبادة، لا كمن يُؤدي وظيفة. الشغف لم يكن ترفًا، بل شرطًا للإبداع، وكان الصبر بوابته، والاتقان ذروته. أما اليوم، فقد تحولت الحرفة إلى أداء وظيفي مجرد، تُنجز على عجل، وتُفرغ من معناها، وتُباع بلا روح.

2.      الخبز كمجاز حضاري

فردة الخبز التي تباع اليوم في المخابز، ليست مجرد منتج رديء، بل هي مجاز حضاري لانهيار المعايير. نعلم جميعًا كيف صار حالها، مثلما نعلم كيف كانت حين كان الشغف مغلفًا بالإبداع، ومخافة الله تسبق اليد إلى العجين. هذا التدهور لا يمس الخبز وحده، بل يمتد إلى العمارة، واللباس، والفنون، وكل ما يُفترض أن يُصنع ليُكرّم الإنسان، لا ليُهين ذائقته. حين يُفقد الحس الجمالي والمهني، يُفقد المعنى، ويُفقد الإحساس بالكرامة في تفاصيل الحياة اليومية.

تنويه واجب: الخبز ليس مجرد صنعة

إن امتهان صناعة الخبز بالتحديد، ورفع سعره رغم رداءة صنعته، هو امتهان مباشر لكرامة المواطن في أبسط حقوقه المعيشية. فالمسألة هنا تتجاوز الإهمال في إتقان الصنعة، لتُلامس جوهر الحق في الغذاء الكريم، وفي الحد الأدنى من الاحترام لاحتياجات الإنسان اليومية. لكنها لا تقف عند حدود الرغيف، بل تمتد إلى جدار البيت، وسقف المسكن، وتفصيل الباب، وتوزيع الضوء. فما يُمارس على الخبز من رداءة في التصنيع وغلاء في السعر، يُمارس أيضًا على المباني وموادها، حيث ترتفع الكلفة وتنهار الجودة، ويُقدّم للمواطن منتج معماري لا يراعي بيئته، ولا يُكرّم ذائقته، ولا يُحترم فيه حقه في السكن الكريم. حين يُباع الرديء بسعر مرتفع، يُصبح المواطن ضحية مرتين: مرة في جسده، ومرة في كرامته، سواء أكان ذلك في رغيفه أو في سقف بيته. وهذا ليس خللًا في السوق فحسب، بل خلل في منظومة القيم، حيث يُستباح ما لا يُستباح، ويُهان ما لا يُهان، ويُختزل الإنسان في مستهلك لا يستحق إلا ما يُلقى إليه.

3.      المواطن كطرف في المعادلة

المواطن الليبي يتحمل المسؤولية الكاملة في الرضى بقبول ما خالف أصول الصنعة. يدفع الثمن مرتين: مرة في سعرها المرصود، ومرة في صحته، وراحة باله، ونفسيته، ومتعة النظر، وجمال المنظر في مخبره قبل مظهره. القبول بالرداءة ليس مجرد ضعف، بل هو تواطؤ صامت، يُكرّس الرداءة ويمنحها شرعية الاستمرار. ولا يُطلب من المواطن أن يثور، بل أن يستعيد وعيه، لا من باب التوبيخ، بل من باب المقاومة الصامتة، التي تبدأ برفض الرديء، والمطالبة بالأجود، والامتناع عن تمويل الرداءة.

الإبداع لا يُستورد، بل يُستعاد حين نُعيد الاعتبار للشغف، ونُعيد الصنعة إلى أهلها.

الأحد، سبتمبر 14، 2025

بيان البلاغ: من عبيد الوهم إلى وعي التصميم



جمال الهمالي اللافي

يتردد في الذهن سؤالٌ ملحّ: من هم "عبيد الوهم"؟

هم أولئك الذين يكتبون أو يقرأون لا طلبًا للمعرفة، بل لتأكيد ما يعتقدونه مسبقًا، ولإثبات قناعاتهم مهما كانت هشاشتها. لا يقرؤون ليتحرروا، بل ليزدادوا قيدًا. يتعاملون مع النصوص كمرآة لأنفسهم، لا كنافذة على العالم. يرفضون مساءلة الفكرة، ويخشون أن تهتزّ الصورة التي رسموها لأنفسهم.

هذا النص وُلد من مساءلة هذا النمط، لا من الرغبة في مهاجمته. جاء ليعيد الاعتبار لفعل القراءة بوصفه بحثًا عن الحقيقة، لا إثباتًا للهوى. وليؤكد أن المرجعية القرآنية، حين تُستعاد سلطتها، تُعيد ترتيب المفاهيم، وتمنح الإنسان ميزانًا لا يختل، مهما تبدّلت النظريات أو تعاقبت الأهواء.

في زمنٍ تتكاثر فيه الأصوات وتقلّ فيه البصائر، يظلّ الرجوع إلى المصدر فعلًا مقاومًا لا ترفًا فكريًا. فالقرآن الكريم، المرجعية التي لا يعتريها الخلل، لا يُستدعى لتأكيد القناعات، بل لتفكيكها، ومساءلتها، وإعادة ترتيب الواقع حولها لا العكس.

الذين يكتبون ليؤكدوا ما آمنوا به مسبقًا، لا ليختبروا صدقه، هم عبيدٌ لوهمٍ يتزيّاً بثوب المعرفة. أما من يقرأ ليقارن، ويفهم، ويزن الأمور بميزان لا يختل، فهو شاهدٌ على الطريق، ولو كان وحده.

الواقع المفروض لا يعفي من مسؤولية الكلمة. والبلاغ لا يُقاس بمدى الاستجابة، بل بصدق النية، ووضوح الاتجاه. فحين يُعاد الاعتبار للنص القرآني، لا بوصفه أداة جدل، بل مرجعية جامعة، يحدث التغيير في الاتجاه الصحيح، الذي يخدم البشرية جمعاء.

ليس في القرآن تصادم، بل تحذير من الزلل، ودعوة للتعارف، وتكريم للتقوى. وما جلب الشر على الناس إلا حين تخلّوا عن هذا الميزان، واستبدلوه بنظريات تهدم بعضها بعضًا، وتُفصّل الحق حسب الأهواء.

القرآن الكريم رسم الطريق، وبيّن الثوابت، وترك للإنسان مساحة الاجتهاد في المتغيرات، دون أن يخلط بينهما. من هنا، لا خوف من الزلل، ولا تقوقع على حال، ما دام الميزان حاضرًا، والنية صادقة، والمرجعية محفوظة.

ما علينا إلا البلاغ.

والبلاغ، حين يُفهم بوصفه مسؤولية لا تنفصل عن الفعل، يمتد أثره إلى كل حقل من حقول التعبير، بما في ذلك التصميم المعماري.

بين البلاغ والتصميم: بيان المسار

هذا النص ليس معزولًا عن اشتغالي المعماري، بل هو امتداد له في الجوهر والمنهج. فكما أن البلاغ لا يُؤجل، فإن التصميم أيضًا لا يُفصل عن الوعي. ما أكتبه في نقد العمارة المحلية، وما أصممه من مشاريع غير استعراضية، ينطلق من المرجعية ذاتها: القرآن الكريم، بوصفه ميزانًا لا يختل، ومن الفهم النقدي الذي يفرّق بين الثابت والمتغير، ويعيد الاعتبار للبساطة والصدق في التعبير.

الخط الذي أسير عليه في صياغة منشوراتي المعمارية ليس تقنيًا فقط، بل فكري أيضًا. أرفض فيه الانبهار، وأقاوم فيه الاستلاب البصري، وأعيد فيه بناء المفاهيم على أساسٍ من التواضع المعرفي والوعي بالبيئة والهوية. كل تصميم عندي هو بلاغ، وكل بلاغ هو مسؤولية. وهذا النص، بما يحمله من مساءلة وتوضيح، هو بيانٌ لما قبل التصميم، وما بعده؛ هو مرآة للنية التي تسبق كل مشروع، ولكلمة الحق التي تسبق كل شكل.

الموروث الحرفي بين الإثراء والتشويه


جمال الهمالي اللافي

في كثير من الأحيان، لا يكون الخلل في غياب الإبداع، بل في توجيهه نحو التشويه بدلًا من الإثراء. يحدث ذلك حين يُعاد إنتاج عناصر الموروث الثقافي- من عمارة وحرف فنية وملبوس وأكل وعادات وتقاليد- دون دراسة عميقة لمفرداته وتفاصيله، أو فهمٍ لجمالياته التي انطلقت من بيئته المحلية ومصادره الأصلية، أو حتى مؤثراته الخارجية التي امتزجت معه تاريخيًا دون أن تبتلعه.

إن العناصر الزخرفية والتفاصيل التي تدخل في تشكيل جماليات المنتج المحلي المعاصر، قد تكون مدخلًا للإثراء حين تُستعاد بوعي، لكنها تتحول إلى أدوات للتشويه حين تُستبدل بعناصر دخيلة لا تنتمي إلى السياق الثقافي أو البيئي. فتغدو العمارة، والصناعات الحرفية، والزي التقليدي، وحتى المأكولات، مجرد نسخ متقنة لما يبدعه الآخر، لا امتدادًا لما أبدعه الحرفي الليبي في لحظة صدق مع بيئته.

لقد طال هذا التشويه الزي التقليدي للرجال والنساء، حيث بات يُعاد إنتاجه وفق أذواق مستوردة، تُفرغ الملبوس من رمزيته وتحوّله إلى زينة سطحية. كما أصابت العدوى صناعة الفخار في موطنه الأصلي بغريان، حيث تُستبدل تقنيات الصنع اليدوية بمنتجات شبه صناعية لا تحمل روح المكان ولا ذاكرته. أما المدينة القديمة، فتعاني من موجة "صيانة" لا تراعي أصول الترميم، حيث يُستبدل الطين بالحجر، والحجر بالإسمنت، فتُطمس المعالم تحت ادعاءات التحديث، ويُمحى التاريخ باسم الحفاظ عليه.

وواقعنا اليوم يشهد على حرب شعواء تُشنّ على الموروث الثقافي، لا من الخارج، بل من الداخل، حين يُنسب إلى مؤثرات دخيلة، ويُعاد إنتاجه بمنطق الاستلاب لا بمنطق الاستيعاب. ويبدو ذلك جليًا في الخطاب السائد حول العمارة المحلية، التي تُختزل في قوالب مستوردة، وتُحاكم بمعايير لا تنتمي إلى تربتها.

في ضوء ما سبق، يتضح أن الإشكالية لا تكمن في مجرد تغيّر الشكل أو تطوّر الوسائل، بل في غياب الوعي النقدي الذي يميّز بين الإثراء الواعي والتشويه المقنّع. فحين يُستبدل الموروث الحرفي بعناصر دخيلة دون فهمٍ لجذوره أو احترامٍ لخصوصيته، لا نكون بصدد تحديث أو تطوير، بل نكون أمام فعل محوٍ تدريجي للذاكرة الجمعية، يُنفّذ بأدوات محلية وبأيدٍ تظن أنها تُحسن صنعًا.

إن ما يحدث في غريان من تراجع في صناعة الفخار، وما يُرتكب بحق المدينة القديمة تحت شعار "الترميم"، وما يُعاد إنتاجه من زيّ تقليدي منزوع الدلالة، ليست حالات معزولة، بل مؤشرات على خلل أعمق في فهم العلاقة بين الهوية والممارسة. فالموروث ليس مادة خامًا تُعاد صياغتها حسب الذوق، بل هو خطاب بصري وثقافي يحمل في طياته طبقات من التاريخ والرمزية والانتماء.

ولذلك، فإن الدفاع عن الموروث لا يعني تجميده أو تقديسه، بل يعني مساءلة كل تدخل فيه: هل يُعيد الاعتبار لما كان؟ أم يُعيد إنتاج ما لا يجب أن يكون؟ وهل نحن نُعيد بناء الذاكرة، أم نُعيد إنتاج النسيان؟ هذه الأسئلة وحدها كفيلة بأن تضع كل ممارسة حرفية أو تصميمية أمام امتحان الصدق، لا أمام استعراض الإتقان.

أنماط البيوت التقليدية في ليبيا

المسكن الطرابلسي التقليدي المنزل ذو الفناء " الحوش " جمال الهمالي اللافي مقدمة / يعتبر(...