أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

{فأما الزَّبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}- سورة الرعد، الآية 17

الاثنين، يوليو 14، 2008

جدلية الساكن والمسكون




جمال الهمالي اللافي


 }ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين(12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) {- سورة المؤمنون

هذه الآيات الكريمة من سورة المؤمنين ستكون بإذن الله منطلقي للخوض في جدلية الساكن والمسكون، وعليها سأستند في تحليلي للعلاقة بين الإنسان ومسكنه ذلك ليقيني بأن الله سبحانه وتعالى قد جعل في القرآن الكريم مفتاح كل معضلة تواجه الإنسان وتقف حجر عثرة أمام بناء ذاته السوية، أو تعوقه عن أداء مهمته التي خلق لأجلها.

فقد أصبح المسكن في عصرنا هذا يمثل إحدى أهم المعضلات التي واجهت الإنسان وعانت منها المجتمعات البشرية عامة بتعدد مذاهبها ومعتقداتها وباختلاف مواقعها وتضاريس بلدانها، خلّفها ذلك الغموض الذي أصبح يخيم على طبيعة العلاقة بين الإنسان ومسكنه، وما تمخض عن ذلك من أزمات طالت عدة جوانب من حياته الاجتماعية والصحية والاقتصادية والثقافية والسياسية، بل إنها تجاوزت ذلك لتؤثر على نظرته الفلسفية للحياة والكون.

ومرجع ذلك يعود لتعدد المذاهب الفلسفية والنظريات المعمارية والاتجاهات الفكرية التي أفرزتها حضارة القرن العشرين والتي تبحث في أبعاد هذه العلاقة. والتي تضاربت جميعها في تحديد مفهومها للمسكن. فمنها من اعتنقت مذهب الوظيفية والقواعد الإنشائية وحددت مفهومها للبيت على أنه" آلة للسكن" ومنهم من اعتنق مذهب العضوية وفسر مفهومه للبيت على أنه تكامل العلاقة بين الفراغات الداخلية والمحيط الخارجي واعتبر المبنى جزء لا يتجزأ من الطبيعة وهي التي تشكل صورته النهائية. كما اعتنق مذهب آخر القيم الفراغية والتشكيلية فأصبح البيت في مفهومهم عبارة عن قطعة نحتية يتم من خلالها إبراز قدرات المعماري في السيطرة على الفراغ في أبعاده الثلاثة لخلق رؤية بصرية جمالية، كما انطلقت مذاهب أخرى إلى الآفاق المستقبلية وأخرى قلبت دفاتر الماضي لتستطلع من خلالها رؤية جديدة لعمارة الحاضر.

وفي خضم هذا الصراع الفكري بين هذه النظريات، أغفل جوهر القضية، فلم يتم البحث في علاقة الإنسان بمسكنه رغم اتفاقها جميعها في البحث عن العلاقة بين المبنى بتعدد استخداماته بمواد البناء وطرق الإنشاء، واشتد تنافسها حول استنباط حلول جديدة في هذا الاتجاه فأغرقت الأسواق بالخرسانة المسلحة والحديد الصلب والزجاج. وذلك تلبية لطموح رجال الاقتصاد في التوجه بالعمارة نحو الشمولية- والتي لا تعني استعمال معين أو مبنى معين لأداء وظيفة محددة بالذات- وهو ما يحقق لهم استثمار أمثل للفراغات من الناحية الاقتصادية.

ومع تضارب هذه الاتجاهات في تحديد مفهومها للعلاقة بين الإنسان ومسكنه، هذا إن تجاوزنا عن اتهامها بالإغفال عن البحث في هذه العلاقة، أصبح من العسير جدا الارتكاز إلى إحداها واعتمادها كمرجع يحدد لنا ماهية هذه العلاقة بمفهومها الصحيح، والذي قد يساعد على وضع حلول جادة للمشاكل التي انبثقت عن القصور الناتج عن الفهم الخاطئ لهذه العلاقة وما ترتب عنها من أزمات أخلاقية واجتماعية واقتصادية وثقافية، والتي تفاقمت حدثها حتى أصبحت تشكل أزمة حضارية وضعت عدة علامات استفهامية حول ما حملته إلينا حضارة القرن العشرين من قيم ومفاهيم فكرية أنتجتها الثورة الصناعية، التي رفضت في مجملها مبدأ التبعية لتراث الماضي الثقافي وانفصلت عنه بكل معطياته الإنسانية بدعوى أنه لا يواكب تطلعات هذه الحضارة النامية، التي اعتنقت مذهب العقلانية- وذلك بالاحتكام إلى العقل وحده في تفسير كل الظواهر الطبيعية وتحليل معطياتها، واعتبار الجوانب الروحية في الإنسان مجرد أوهام اختلقتها الخرافة والأسطورة الشعبية لمجتمعات موغلة في البداوة- فأصبح الله في نظرها وَهْمٌ والروح والبعث وَهْمٌ وكتب السابقين وعلومهم كلها أوهام وما جادت به نظريات وفلسفات معتنقيها فقط هو عين الحقيقة.

فغابت عن هذه الحضارة قيم الروح وطغت المادة، فأصبح الإنسان يدفع لهذه الحضارة ثمن اعتناقه لها حروب استخدمت فيها أسلحة الدمار الشامل وكوارث طبيعية ومجاعات وعزلة قاتلة داخل صناديق الكبريت التي تناطح السحاب، إلى جانب الأزمات الاقتصادية وما ترتب عنها من بطالة مكشوفة وأخرى مقنعة أدت إلى تعرض الإنسان للأمراض والانحرافات السلوكية وغياب عن الوعي والذات وفقدان للهوية، وآخرها غياب السكينة عن مسكن الإنسان. وهذه الإشكالية الأخيرة هي الخيط الذي أمسكنا به وجعلناه محور بحثنا هذا ليقيننا بأنها كانت البداية التي انطلقت منها أزمات الإنسان الأخرى والقُمع الذي احتضن بداخله نتائجها.

فحضارة القرن العشرين اعتمدت لضمان انتشار مذهبها على مبدأ " فرّق تسد " وذلك بإخراج الإنسان من مسكن العائلة والانفراد به داخل وحدة سكنية تعزله قدر المستطاع عن محيطه الاجتماعي ليكون أكثر استعدادا وتقبلا وتأثرا باعتناق فلسفاتها المادية التي تنادي بها. أي بمعنى آخر أن المسكن كان أداتها الأولى التي اعتمدت عليها في تحديد علاقة الإنسان بخالقه أولا ومن تمّ بمحيطه الاجتماعي والثقافي والاقتصادي وذلك من خلال رسم علاقة جديدة بين الإنسان ومسكنه عبر نظريات وفلسفات ومناهج فكرية طالت مجالات العمارة والتخطيط العمراني والتصميم الحضري مثلما طالت غيرها من المجالات.

من المعطيات السابقة ومن الدور الذي تضطلع به العمارة باعتبارها أحدى العلوم الإنسانية والتطبيقية التي تجعل من أولويات أهدافها السعي إلى إيجاد بيئة صالحة لمعيشة الإنسان تخرج به من دائرة العزلة عن ذاته ومحيطه إلى آفاق أرحب ينمي من خلالها علاقاته الإنسانية مع بني جنسه، بما يكفل له المحافظة على توازنه النفسي والسلوكي والروحي إلى جانب إشباعه لرغباته المادية.

وكان لابد لتحقيق هذه الغاية أن يتم إعادة تصحيح للمفاهيم المطروحة وإعادة رسم الصورة الحقيقية للمسكن والذي بدوره سيعيد للإنسان علاقته السوية بخالقه ومن تمّ مع ذاته ومحيطه الاجتماعي. وهذا قاد بطبيعة الحال إلى طرح عدة تساؤلات تهدف إلى تلمس بدايات الطريق للوصول إلى تحديد المفهوم الصحيح للمسكن وعلاقته بالإنسان تحت ظروف تؤكد حاجة كل منهما للآخر، فلا يمكن عمارة مسكن بلا إنسان، والذي في غيابه يتغير المصطلح إلى خرابه، كما أن حاجة الإنسان للمسكن من الضروريات التي تدعم استمرارية وجوده وممارسته لحياته الطبيعية من خلال إحاطته بجدار أمني يضمن له الاستقرار ويوفر له الخصوصية ويحميه من التقلبات البيئية ويعينه على ممارسة أنشطته الاجتماعية، شأنه في ذلك شأن الماء الذي يشربه أو الهواء الذي يتنفس، إضافة إلى الطعام الذي يسد به رمقه والكســاء الذي يستر به نفسه ويحمي به جسده من حر الصيف وبرد الشتاء والتي تنتهي حياة الإنسان بحرمانه من إحداها أو منها جميعا.

وانطلاقا من هذه الروابط الوثيقة بين الإنسان ومسكنه، اعتمد مسار البحث على المنهج التحليلي لكل طرف على حده، وذلك بالتقصي عن أصول نشأته والمراحل الطبيعية التي يمر بها كل طرف حتى يصبح كائنا مكتمل الهيئة قادرا على ممارسة دوره الطبيعي. فتعذر ذلك بالنسبة للمسكن وذلك لتعدد المذاهب واختلاف تفسيراتها لمفهوم المسكن والاعتبارات والمراحل التي تتطلبها العملية التصميمية. في حين كان الباب مفتوحا على مصراعيه فيما يختص بمسألة خلق الإنسان والأطوار التي تمر بها عملية الخلق هذه، مدّنا بها المرجع الإلهي العظيم" القرآن الكريم" في الآيات التي استفتحنا بها هذا المقال، والتي يصف فيها الله سبحانه وتعالى منهج خلقه لصنعته" الإنسان" والتي مرت عبر سبعة أطوار بدأت بخلق الإنسان من سلالة من طين ثم جعله نطفة في قرار مكين" رحم الأم" لتمر عملية الخلق بعدها بطور العلقة فالمضغة فالعظام وانتهاء بكسوة هذه العظام باللحم، وكل إنسان في هذا الوجود لابد أن يمر بها حتى يخرج إلى الحياة سوي الخلقة وقادرا على ممارسة وظائفه العضوية دون عائق يذكر. ثم بعد ذلك يدخل هذا الإنسان في طور آخر يتعلق بنشأته وإعداده ليمارس دوره كعنصر صالح وفاعل داخل محيطه الاجتماعي. فماذا يحدث لو أن خللا ما طرأ على تسلسل هذه المراحل، أو أن إحداها قد تم تجاهلها أو أن طفرة ما تدخلت عليها؟ حتما سيكون الجواب خروج الجنين من بطن أمه إما ميتا أو مسخا مشوها أو أبله معتوها.

وهذا يقودنا إلى استخلاص نتيجة واحدة وهي أن لهذا الكون نظاما محددا ومراحل ثابتة يمر بها كل عنصر يحتويه هذا الفضاء الهائل من حولنا، والذي أحكمت صنعته بحيث يؤدي كل كائن فيه دوره المخلوق لأجله بما يحفظ للحياة توازنها، سواء كان هذا الكــائن" إنسانا أو *****ا أو نباتا أو جمادا". وبالتالي فإن الخروج بهذا النظام عن سياقه الطبيعي يصيبه بالخلل أو يعيقه عن أداء مهمته وربما ينحرف به نحو نهج طريق الإفساد بدلا من الإصلاح. فإذا كان هذا منهج الله في خلقه، فلماذا لا نعتمد هذا المبدأ في عملية تشكيل الصورة النهائية للمسكن باعتباره يحتوى بداخله إنسانا يحتاج لعنصر النظام حتى تتكامل حياته مع محيطه. ونعتمد مراحل ثابتة تنطلق منها العملية التصميمية للمسكن حتى يأخذ شكله النهائي تبدأ بمرحلة وتنتهي بأخرى يؤدي الإخلال بتسلسلها إلى الخروج به عن أداء دوره كمحتوى لتفاعل مجموعة من العلاقات الإنسانية تتسم بالتوافق مع النظام الكوني وتنسجم مع الفطرة السليمة التي فطر الله عليها الإنسان.

ولتحقيق هذه الغاية تم وضع فرضية محتواها يعتمد على اعتبار المسكن كائن حي وليس جمادا:
• يبدأ رحلته نحو النشوء والارتقاء بالخروج من صلب رغبة ساكنه ليزرع في رحم ذاكرة المصمم المعماري، حيث تختمر فكرة نموه المكونة من حصيلة اجتماع جينات وراثية تحمل الخصائص والصفات التي سيئول إليها هذا المسكن متضمنة احتياجات الساكن العاطفية والمادية، مع طبيعة المنطقة والمؤثرات المناخية عليها والطراز المعماري السائد والذي يشكل الهوية الثقافية للمحيط الاجتماعي والمتمثل في العادات والتقاليد والأعراف، إضافة للقوانين والتشريعات واللوائح التي تتحكم في مسار العملية التصميمية للمسكن في شكله النهائي، فيأتي بذلك معبرا عن ذات ساكنه وملبيا لمتطلباته ومراعيا لظروف البيئة المحيطة بكل معطياتها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، وقد أسمينا هذه المرحلة " طور النطفة ".
• لتنتقل بعدها الفكرة إلى مرحلتها الثانية حيث تأخذ لنفسها شكلها المبدئي على صفحات الورق تتراءى فيها ملامح فراغات المسكن وعلاقتها ببعضها دون أن يكون لها شكل واضح أو مساحات محددة، ولنسمي هذه المرحلة" طور العلقة".
• بعد ذلك يبدأ كل فراغ يتضح بمساحاته النهائية وتفاصيله المعمارية، ويأخذ موقعه المحدد له حسب وظيفته التي سيؤديها داخل هذا المسكن وعلاقته بالفراغات الأخرى وتوجيهه المناسب، محققا بذلك اكتمال المرحلة الثالثة والتي سنسميها" طور المضغة".
• وفي المرحلة الرابعة يتم اختيار النظام الإنشائي الذي سيقام على أساساته المسكن بحيث يأتي متماسكا في بنيانه ومتجانسا مع روح الفكرة ومعبرا عن مضمونها، وهذه المرحلة أطلقنا عليها" طور خلق العظام".
• ثم بعد ذلك تأتي المرحلة الخامسة والتي يتم فيها دراسة واجهات المسكن من زواياه المختلفة دراسة وافية يُراعى فيها أن تعبر في مجملها عن الاحتياج الفعلي للمستعمل في تحقيق عاملي الأمان والخصوصية إلى جانب توفير الإضاءة والتهوية الطبيعية، وأن تراعي كذلك ظروف البيئة المناخية المحيطة بالموقع، إضافة إلى تحقيق عامل البساطة والاقتصاد دون إغفال للجانب الجمالي الذي يعتبر إكليل الغار الذي يتوج هذا الجهد المضني بالنجاح في الوصول بأطوار الخلق إلى مرحلتها النهائية وهي " كسوة العظام باللحم".
وأي محاولات للمعالجات المفتعلة تفقد هذه الواجهات قيمتها الوظيفية والجمالية وتصبح مثلها في ذلك مثل العجوز المتصابية التي تلطخ وجهها بالأصباغ لتقنعنا بأنها صبية حسناء، فلا نزيد على أن نمر من أمامها ونحن نخفي ابتسامة السخرية، وفي أسوأ الحالات نصاب بالأسى على العقل المفقود في هذه العملية.

وبانتهاء هذه المرحلة يدخل المسكن مرحلة جديدة وهي طور الإنشاء) " ثم أنشأنـاه خلقا آخر" ( أو ما يعرف بالعملية التنفيذية على أرض الموقع التي تبدأ بحفر الأساسات وتنتهي بتسليم المفتاح إلى ساكنه. وفي هذه المرحلة قد يتعرض المسكن لبعض التعديلات التي تهدف إلى إعداده ليكون صالحا لأداء وظيفته كسكن، مصداقا لقوله سبحانه وتعالى في سورة النحل: ( الله جعل لكم من بيوتكم سكنا). وقد فسر سبحانه وتعالى معنى السكن في سورة الروم وذلك في قوله سبحانه وتعالى في حق الزوجة: ( من آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون). فجاءت السكينة هنا بمعنى الرجوع إليها طلبا لراحة النفس والطمأنينة التي تساعد على توثيق العلاقة ودوامها، وخلق عامل الانسجام والتآلف.

هذا الربط بين علاقة الإنسان بزوجه وعلاقته ببيته عند نقطة" السكينة" يحدد لنا أن غاية الإنسان من إيجاد العلاقة معهما هو سعيه للظفر بعامل السكينة والتي بغيابها تنتفي دوافع العلاقة وأهدافها. كما أن خلق وجه الشبه بين المرأة ككائن حي والبيت كجماد هو الذي دفعنا إلى اعتماد فرضيتنا واعتبار المسكن كائن حي يتفاعل معه ساكنه ويتأثر بما يبثه فيه من عوامل السكينة والاستقرار. وبالتالي فكلما كانت التعديلات التي تُجرى على المسكن في مرحلة التنفيذ مدروسة دراسة جيدة، كلما كان البيت صالحا للسكن والعكس ينافي ذلك، وهذا تماما يشبه مرحلة إعداد الطفل ليكون رجلا صالحا يعتمد عليه مجتمعه.
كما أسلفنا فإن أي تدخل في تسلسل المراحل السابقة، سواء كان ذلك أثناء العملية التصميمية والتي توافق مرحلة نمو الجنين في بطن أمه، أو أثناء العملية التنفيذية التي تليها والتي توافق مرحلة إعداد الطفل ليصبح رجلا فاعلا، حتما سيؤدي إلى حدوث خلل في المسكن ناتجا إما عن عدم التزام المصمم بالتسلسل المنطقي لمراحل التصميم، أو بالانحراف بالفكرة الأساسية عن مسارها الصحيح وذلك بعدم احترام رغبات الساكن الطبيعية والمادية أو تغييب دوره أو حضــــوره- كما يحدث في المشاريع الإسكانية التي تتبناها الجهات العامة أو الخاصة والتي يتكرر فيها نموذج الوحدة السكنية في اتجاه أفقي أو رأسي تحت دعوى تلبية احتياجات مستعجلة واقتصادية لحل أزمة سكن- أو بعدم مراعاة الاعتبارات التصميمية التي تفرضها طبيعة الموقع وتجاوزها تحت طائلة العجز عن التوفيق بين جميع هذه المتطلبات أو رغبة في الكسب السريع أو سعيا وراء نظريات وفلسفات يهدف أصحابها من خلال طرحها إلى تحقيق الشهرة أو النيل من آدمية الإنسان وصولا إلى تحقيق أغراض سياسية أو اقتصادية أو ثقافية. كما إن عدم متابعة العملية التنفيذية من قبل المصمم المعماري وترك المهمة للساكن أو المقاول أو العامل ليجري التعديلات التي توافق هواه أو تسهّل مهمته على التصميم الأصلي، حتما سيعرض المسكن للاختلال في وظائفه أو هيئته المعمارية مثله في ذلك مثل الطفل الذي يهمل والديه العناية بتربيته تاركين أمره للشارع وما يترتب عليه من احتكاك برفاق السوء، مما يعرضه للانحراف في سلوكياته والتي قد تقوده إلى احتراف الجريمة أو تعاطي المحرمات.

إن ما قمنا باستعراضه يجرنا إلى تفهم أكبر لأبعاد العلاقة بين الإنسان ومسكنه إلى الحد الذي يجعلنا نستلهم من حديث نبينا محمد صلى الله عليه وسلم:" تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس" معياراً آخر نستند عليه لتنظيم هذه العلاقة ووضعها في مسارها الصحيح، فكما أن دور الزوجة لا يقتصر على كونها مبعث السكينة للزوج بل تتعداه لتمثل الوعاء الذي يحتوي بداخله إنسان المستقبل والذي يرتجى أن يأتي سليم الخلقة، سوي النشأة، كذلك يكون الحال بالنسبة للمسكن الذي لا يقتصر دوره على اعتباره منبع السكينة للإنسان بقدر ما هو وعاء آخر يحتضن بداخله مجتمعا إنسانيا أكبر يسمى" العائلة أو الأسرة" والتي يرتجي منها محيطها الاجتماعي الممثل في القبيلة أو الدولة أن ينشئوا أسوياء أصحاء يمكن الاعتماد عليهم في تسيير دفة الأمور نحو مسارها الصحيح.

لهذا أصبحت الدقة في اختيار موضع الفكرة أمرا مهما وحاسما بالنسبة للإنسان الراغب في إرساء قواعد مسكنه. هذا المسكن الذي أكدت مجموعة من الدراسات والأبحاث الاجتماعية والنفسية ضلوعه وبشكل كبير في انتشار الجريمة والانحرافات السلوكية واعتبره علماء النفس أحد أهم العوامل المساعدة على تولّد الكثير من الأمراض النفسية مثل الاكتئاب النفسي والتوتر العصبي والقلق والتي أدت إلى تزايد حالات الانتحار وخصوصا في المجتمعات الصناعية، كذلك اعتبرته مسئولا عن بث روح العدوان داخل المجتمعات الفقيرة التي يكثر فيها الازدحام وتنعدم الهوية . وقد أثبتت إحدى هذه الدراسات" أن الطفل الذي يولد ويعيش في الأدوار العليا من المباني المرتفعة لا تتاح له الفرصة لممارسة حياته الطبيعية واكتساب الخبرة في التعامل مع الآخرين والاحتكـاك بهم وكذلك يفتقر إلى الإحساس بالطبيعة وجمالها والتي عزلته عنها الارتفاعات الشاهقة للعمارات السكنية. مما يولد لديه الإحساس بالانعزال عنها وعن الآخرين، فينمو بذلك نموا غير سوي وخصوصا مع تحذيرات الأهل المتكررة له بعدم الاقتراب من النوافذ والأبواب والشرفات خوفا عليه من السقوط أو الخطر، وبالتالي يتولد معه الإحساس إما بالانطواء أو بالميول العدوانية تجاه الآخرين الذين لديهم ظروف معيشية أفضل".

" كما اضطرت سلطات مدينة سنت لويس، ميزوري في أمريكيا إلى تدمير مشروع برويتايخوي للإسكان وذلك بنسفه بعد إخلائه من سكانه اللذين انتشرت بينهم الجريمة واستفحل داؤها للدرجة التي لم تفلح معها الإجراءات الأمنية المشددة في التخفيف من حدتها أو القضاء على عناصرها، وذلك بعد أن توصلت نتائج الأبحاث التي أجراها علماء النفس والاجتماع، إلى أن المحرك الرئيسي للجريمة في هذا الحي هو النظام التخطيطي وأسلوب توزيع فراغاته وشكل واجهاته التي اعتمدها المصمم المعماري لهذا الحي السكني وهو ما دفع بسكانه إلى امتهان حرفة الإجرام وذلك بما يهيئه لهم من فراغات تحرك نوازع الشر في نفوسهم" .
ويمثل هذا المشروع المدى الذي يمكن أن تصل إليه العمارة الحديثة الدولية في لا إنسانيتها بما تعكسه من رتابة وتكرار يدفع إلى السأم والملل وبالتالي يؤدي إلى حالة من الكآبة والارتباك الاجتماعي، الذي يؤدي بدوره إلى انتشار الأمراض النفسية والانحرافات السلوكية داخل المجتمعات التي اعتمدت عمارة الحداثة في مخططاتها العمرانية ومشاريعها المعمارية. وهذا ما يدعم الاتجاه القائل بأن المبنى يبدأ متأثرا في تشكيل هيئته وفراغاته بفكر وفلسفة مصممه، ثم يتحول بعد ذلك إلى مؤثر في العلاقات الإنسانية التي تدور بداخله إما سلبا أو إيجابا.

هذا الاستعراض للعلاقة بين الإنسان ومسكنه والتي تضاربت في تفسير مفهومها جميع النظريات والفلسفات والمناهج الفكرية المطروحة على الساحة المعمارية والتي حتى وإن نجحت في تغطية جوانب منها فإنها عجزت عن تغطية جوانب أخرى لا تستقيم حياة الإنسان بدونها. يدفعنا إلى طرح رؤية جديدة ومعاصرة لمفهوم البيت الاقتصادي، تستقي من القرآن الكريم منهجها الفلسفي الذي تعبر به عن طموح الإنسان وسعيه لتحقيق السعادة له ولبني جنسه بمختلف مذاهبهم ومعتقداتهم واختلاف مواقعهم وأجناسهم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المواضيع الأكثر مشاهدة

بحث هذه المدونة الإلكترونية