الجمعة، سبتمبر 12، 2025

المدينة لا تربي، بل البيت الذي تعفف

 حين يُختزل الانتماء في الجغرافيا ويُغفل جوهر التربية

جمال الهمالي اللافي

هل تصنع المدينة الإنسان؟ أم أن الإنسان هو من يمنح المدينة معناها؟
سؤالٌ يتكرر كلما رأينا من يُحسبون على أهل المدن، وقد صدرت عنهم سلوكيات لا تمت للحضارة بصلة، ولا تعكس أي انتماء حقيقي لقيم المكان الذي نشأوا فيه. فليس الانتماء الجغرافي كافيًا لتشكيل الوعي، ولا يكفي أن يولد الإنسان في قلب المدينة أو يعيش بين أحيائها ردحًا من الزمن ليكون من أهلها حقًا.

في المدن الليبية... حين يغيب السلوك وتبقى الواجهة

في طرابلس وبنغازي وترهونة وزليتن ومصراتة وغدامس وسبها، كما في سائر المدن الليبية، لا تزال المفارقة قائمة بين من يسكن المدينة، ومن ينتمي إليها حقًا. فالمشهد الحضري، رغم ما فيه من عمران وتاريخ، لا يعكس بالضرورة سلوكًا حضاريًا متجذرًا. كثيرًا ما نرى من يُحسبون على أهل المدن، وقد صدرت عنهم تصرفات تُخالف روح المكان، وتُخدش نسيجه الاجتماعي.  هذا التناقض لا يعود إلى المدينة نفسها، بل إلى البيوت التي لم تُربِّ، وإلى قيمٍ غابت في زحمة التحولات، فصار الانتماء مجرد عنوان، لا مضمونًا.

التربية أولًا... لا الجغرافيا

الرقي الأخلاقي لا يُكتسب من الشوارع ولا من المعالم، بل يُغرس في البيوت التي تعففت، وتربّت على شيوع الخير في النفوس، وصون الكرامة في التعامل. البيوت التي لا تكتفي بتعليم الأبجديات، بل تزرع في أبنائها حسًّا بالمسؤولية، ووعيًا بالآخر، واحترامًا للمكان.

في المقابل، حين تغيب هذه التربية، لا يعود للمدينة معنى. بل تتحول إلى مسرحٍ مشوّه، تُمارس فيه الخسّة والنذالة تحت لافتة الانتماء المكاني، بينما الحقيقة أن السلوك لا يعكس إلا ما تربّى عليه صاحبه، لا ما يحيط به من عمران.

المفارقة بين الانتماء المكاني والانتماء القيمي

المدينة، في جوهرها، ليست مجرد تجمع عمراني، بل منظومة قيم وسلوكيات. من يمنحها روحها هم أهلها الحقيقيون، الذين يلتزمون بآدابها، ويحترمون نسيجها، ويصونون علاقتها بالزمن والناس. أما من نشأوا في بيئات خالية من القيم، فمهما تظاهروا بالانتماء، يظلون غرباء عن روح المدينة، حتى لو عاشوا فيها عمرًا.

هذه المفارقة تطرح سؤالًا أعمق: هل نحن نُخطئ حين نربط بين السكنى والانتماء؟ وهل آن الأوان لإعادة تعريف من يُحسب على المدينة، لا بالبطاقة الشخصية، بل بالسلوك اليومي؟

المدينة ككائن حي... والإنسان روحها

حين يُفسد الإنسان المدينة بسلوكه، لا تتشوه معالمها فقط، بل يتصدّع معناها. فالمكان لا يصنع الإنسان، بل الإنسان هو من يمنح المكان روحه، أو يسلبه إياها. ولهذا، فإن إصلاح المدن لا يبدأ من الحجر، بل من البشر. من إعادة الاعتبار للتربية، ومن ترميم القيم التي تهدمت في بعض البيوت، لا في بعض الشوارع.

خاتمة

المدن لا تُختزل في معمارها، بل في أخلاق من يسكنها. وإن أردنا أن نعيد لها وجهها الحقيقي، فعلينا أن نعيد النظر في ما يُغرس في البيوت، لا في ما يُبنى في الساحات. فالحضارة تبدأ من الداخل، من التربية، من الصدق، من التعفف، ومن الإيمان بأن الانتماء لا يُقاس بالمكان، بل بما نمنحه له من معنى.

الخميس، سبتمبر 11، 2025

العمارة كملاذ: حين يصبح الفضاء شريكًا في التوازن النفسي

 

جمال الهمال اللافي

في عالم يزداد توترًا، وتضيق فيه المساحات النفسية، تبرز العمارة كأحد آخر الحقول التي لا تزال تحتفظ بقدرتها على الاحتواء. ليست العمارة مجرد بناء، ولا المصمم مجرد موزّع للكتل والفراغات. العمارة، حين تُمارس بصدق، هي فعل رعاية. هي استجابة صامتة لحاجات لا تُقال، وملاذٌ لمن أنهكته الحياة ولم يعد يطلب سوى مساحة لا تُحاكمه، ولا تُرهقه، ولا تُذكّره بما فاته.

الفضاء كامتداد للذات المنهكة

حين يدخل الإنسان إلى فضائه الخاص، لا يبحث عن ترف بصري، بل عن توازن داخلي. الغرفة ليست مجرد أربعة جدران، بل مرآة لحالته النفسية، وامتداد لهشاشته أو صلابته. الضوء، التوزيع، الملمس، وحتى الصمت، كلها عناصر تُسهم في صناعة الراحة، أو في تعميق التوتر. العمارة لا تُداوي الجسد، لكنها تُهيّئ له شروط التعافي.

تجربة حية: حين ينصت التصميم لما لا يُقال

في أحد البرامج المعمارية، طُلب من مصممة داخلية تعديل غرفة نوم لطبيبين جراحيين، يقفان لساعات طويلة في غرفة العمليات. لم يكن طلبهما متعلقًا بالذوق أو الترف، بل بالحاجة إلى ملاذ يعيد لهما توازنهما النفسي والجسدي بعد أيام مرهقة.

عندما اكتملت الغرفة، ودُعيت الزوجة لرؤيتها، اغرورقت عيناها بالدموع. لم يكن ذلك بكاءً على جمال التصميم، بل انفعالًا نابعًا من شعور عميق بأن أحدًا أخيرًا أنصت لحاجتها الداخلية، واحتضن هشاشتها دون أن يطلب منها الصلابة.

هذه اللحظة، العابرة في ظاهرها، تكشف جوهر العمارة حين تُمارس بصدق: لا كاستعراض بصري، بل كفعل إنصات لما لا يُقال، واحتواء لما لا يُعبّر عنه بالكلمات. العمارة، حين تنجح، لا تُجمّل المكان فقط، بل تُداوي ما لا يُداوى بالقول.

المعماري كمنصت قبل أن يكون موجّهًا

المعماري الحقيقي لا يبدأ من الهوية، بل من الإنسان. إنه يُنصت أولًا للحاجات النفسية والجسدية لمن يقصده، ويستوعب ظروفه وتوتراته وهشاشته، قبل أن يخوض في مسائل الهوية المعمارية، أو يختار مواد البناء، أو يقرر أساليب الإنشاء. فالمطلب الإنساني هو نقطة الانطلاق، وما يأتي بعده من خيارات تصميمية يجب أن يُبنى عليه، لا أن يسبقه أو يطغى عليه.

الهوية المعمارية ليست فرضًا، بل استجابة واعية تنبع من فهم عميق للإنسان في سياقه، وتُصاغ بما يليق براحته وكرامته، لا بما يُرضي الذوق العام أو يُجاري السوق.

العمارة في مواجهة التوتر اليومي

في زمن التسرّع، تصبح العمارة فعل مقاومة. مقاومة للضجيج، للتشظي، للانفصال عن الذات. حين يُصمم الفضاء ليكون مأوى، لا مجرد مكان، فإنه يُعيد للإنسان شيئًا من توازنه المفقود. العمارة، في هذه الحالة، لا تُقدّم حلولًا جاهزة، بل تُتيح للساكن أن يستعيد نفسه، أن يتنفس، أن يهدأ.

خاتمة

العمارة ليست استجابة لطلب وظيفي، بل لحاجة إنسانية عميقة: أن يجد الإنسان مكانًا لا يُطالبه بشيء، ولا يُحمّله أكثر مما يحتمل. حين يُصمم المعماري بوعي، لا يخلق مكانًا فحسب، بل يخلق لحظة تنفس. وفي زمن التوتر، تصبح العمارة فعل رحمة.

الأربعاء، سبتمبر 10، 2025

حين يُحتفى بمن يهدم ويُقصى من يبني: قراءة في واقع العمارة العربية

 


جمال الهمالي اللافي

في المشهد المعماري العراقي، تبرز مفارقة لافتة بين نماذج مختلفة من المعماريين الذين عملوا في بيئات غربية، لكنهم اتخذوا مسارات فكرية متباينة. فالمعمارية زها حديد، التي تبنّت الجنسية البريطانية ويعمل مكتبها من لندن، اختارت أن تنخرط في تيار التفكيكية المعمارية، وهو تيار فلسفي نشأ في سياق نقدي غربي يهدف إلى تقويض البنى المستقرة، سواء كانت معمارية أو معرفية. هذا التبني جعلها محط إعجاب المؤسسات الغربية، التي تحتفي غالبًا بمن يزعزع الثوابت، خاصة حين يصدر ذلك من "آخر" عربي أو مسلم، فيُمنح صفة التنوير والتجاوز.

في المقابل، نجد المعماريين محمد صالح مكية (رحمه الله) ورفعت الجادرجي، اللذين حافظا على جنسيتهم العراقية، واشتغلوا على تأصيل العمارة الإسلامية والعراقية، لا بوصفها فولكلورًا، بل كمشروع حضاري متكامل. مكية، الذي نال جائزتي الآغا خان والعواصم والمدن الإسلامية، قدّم مشاريع معمارية تنهل من التراث الإسلامي وتعيد صياغته بلغة معاصرة، بينما سعى الجادرجي إلى بناء خطاب بصري عراقي مستقل، ناقدًا للحداثة الغربية، ومؤمنًا بضرورة استعادة الذات الثقافية في التصميم.

ورغم القيمة المعرفية والجمالية التي يحملها هذا التيار التأصيلي، ظل حضوره الأكاديمي والإعلامي محدودًا، مقارنةً بالاحتفاء الواسع بزها حديد. ويعود ذلك إلى هيمنة المنظومة الغربية على معايير التقدير والنجاح، حيث تُمنح الجوائز الغربية هالة رمزية تجعلها معيارًا للتفوق، بينما تُهمّش الجوائز التي تصدر عن مؤسسات إسلامية أو عربية، رغم عمقها وارتباطها بالبيئة والسياق.

إن هذا التفاوت في التقدير لا يعكس فقط اختلالًا في سلم الجوائز، بل يكشف عن أزمة أعمق في مناهج التعليم المعماري في الجامعات العربية، حيث يُدرّس المنهج الحداثي والتفكيكي بوصفه "علمًا"، بينما يُنظر إلى العمارة الإسلامية بوصفها "تراثًا" أو "ماضٍ"، ما يؤدي إلى تغييبها عن الحاضر والمستقبل، ويكرّس نمطًا من التغريب المعرفي والبصري.

ومن هنا، لا غرابة أن يتهافت طلاب العمارة على مشاريع زها حديد، ويعتبرونها نموذجًا يُحتذى، بينما يُقصى مكية والجادرجي من دائرة القدوة، رغم أن مشاريعهم أكثر صدقًا في التعبير عن الهوية، وأكثر عمقًا في فهم البيئة والسياق. وهذا لا ينطبق على العراق وحده، بل على جميع المعماريين العرب الذين كرّمتهم جوائز الآغا خان ومنظمات المدن الإسلامية، فهؤلاء جميعًا لا يرتقون – في نظر المؤسسات الأكاديمية العربية – إلى مرتبة زها حديد التغريبية.

إنه واقع يعكس أزمة وعي، لا أزمة كفاءة. أزمة مناهج، لا أزمة إبداع. فحين يُدرّس المنهج المعماري الإلحادي جيلاً بعد جيل، لا غرابة أن يُستبدل الصالح بالطالح، وأن يُحتفى بمن يهدم، ويُقصى من يبني.

مدونة الميراث: نحو خطاب معماري صادق

من الجذور إلى الحاضر: هذا هو الميراث


جمال الهمالي اللافي

في زمنٍ تتكاثر فيه الأصوات وتتشابه فيه الصور، تنشأ الحاجة إلى خطاب معماري نقدي لا يُجامل، ولا يُبهر، ولا يُستعرض. مدونة الميراث هي محاولة واعية لإعادة الاعتبار للهوية المحلية، وتفكيك الغفلة، ومقاومة الاستلاب البصري والثقافي، عبر نصوص تأملية ونقدية تستند إلى تجربة طويلة، وتُخاطب العقل دون أن تتنازل عن العمق.

لماذا "الميراث"؟

الاسم ليس ترفًا لغويًا، بل اختيارٌ واعٍ يعكس جوهر المشروع: إعادة بناء الذاكرة المعمارية والثقافية، لا بوصفها ماضياً يُحنّ إليه، بل كرصيد حيّ يُعاد توظيفه في الحاضر، ويُستثمر في المستقبل. الميراث هو ما يبقى حين تختفي الزينة، وما يُنتفع به حين تُهمل الموضة.

لماذا العمارة؟ ولماذا النقد؟

العمارة ليست جدرانًا، بل خطابٌ بصري واجتماعي وثقافي. والنقد هنا ليس ترفًا فكريًا، بل مسؤولية مهنية وأخلاقية، تُعيد تقييم ما يُبنى، وتُسائل ما يُهمل، وتُعيد الاعتبار لما يُقصى. في السياق الليبي، حيث تتداخل العوامل البيئية والاجتماعية والاقتصادية، يصبح النقد ضرورة لا خيارًا.

كيف نكتب؟

نكتب من باب الالتزام لا الاستعراض. لا نُجامل، ولا نُداهن، ولا نُبهر. نكتب بوعيٍ يحترم الجذور، وينفتح على العصر دون انبهار. نكتب نصوصًا لا تُغرق القارئ في الاحتمالات، ولا تُربكه بالتكثيف، بل تُقدّم له فكرة واضحة، بلغة دقيقة، ونبرة صادقة.

من هو القارئ الذي نخاطبه؟

نخاطب المعماري الليبي أولًا، والمهتم بالشأن الثقافي والمعماري ثانيًا، وعامة القراء الذين يبحثون عن وعيٍ لا يُقصيهم، ولا يُعقّد عليهم الفهم. كل نص في الميراث مكتوب بلغة توازن بين التخصص والوضوح، وبين العمق والبساطة، دون أن تُفرّط في أيٍّ منهما.

كيف نقيّم المعمار؟

نقيّمه وفق خمسة محاور نقدية واضحة:

  1. الخصوصية السمعية والبصرية
  2. الملاءمة المناخية والبيئية
  3. واقعية المواد وتقنيات الإنشاء
  4. كفاءة الاستعمال والوظيفة
  5. الانتماء للهوية المحلية والثقافة الإسلامية

هذه المحاور ليست شروطًا شكلية، بل أدوات لفهم ما يُبنى، وتحديد ما يستحق البقاء، وما يُبنى على وهم المعاصرة وثقافة الهدم.

الثلاثاء، سبتمبر 09، 2025

في مواجهة هشاشة العمارة الليبية المعاصرة


نقد الاستيراد المعماري غير الواعي وتغريب الخطاب المحلي

جمال الهمالي اللافي

إلى زملائي المعماريين في ليبيا،

لا جدوى من التجميل أو التلطيف. نحن، بكل وضوح، متخلفون معماريًا حتى عن دول العالم الثالث، على مستويات التنظير والتصميم والتنفيذ، وفي نظم الإنشاء وتقنياته ومواده، وفي غياب العمالة الفنية الماهرة، محليًا وأجنبيًا. أما مقارنة واقعنا بالعمارة في العالم المتقدم، فهي مؤلمة إلى حد لا يُحتمل.

هذا الواقع ليس وليد اللحظة، بل نتيجة أربعة عقود من التهميش والتخبط، وما زالت البلاد تعيش ارتداداتها حتى اليوم. لذلك، نحن مجبرون على إعادة النظر في طريقة تفكيرنا، وفي رؤيتنا لحاضر ومستقبل العمارة الليبية. لا بد أن نواجه الواقع كما هو، دون تجميل أو إنكار، وأن نكفّ عن مجاراة ما ينتجه الغرب وكأننا نملك أدواته أو نعيش ظروفه. فكل استنساخ للمنتج المعماري الغربي في بيئتنا يأتي كجنين مشوه، فاقد للمقومات، غير قابل للحياة، ولا ينسجم مع واقعنا الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، الذي يحرص فيه الساسة على إبقاء التخلف قائمًا، بل وجرّه إلى مزيد من الفوضى.

حتى تنزاح الغمة عن الوطن، علينا كمعماريين أن نتحلى بالوعي، وأن نفكر بمسؤولية. لا يليق بنا أن نتحدث عن "التفكيك" و"ما بعد الحداثة" وكأننا نملك مفاتيحها. بعض الخجل كافٍ لتصحيح المسار. فلا نتمادى كما تمادى ساسة البلاد والمتحكمون في اقتصادها.

العمارة الزائفة: حين تُلبّس الواجهات مفردات تقليدية بلا روح

الحوش السماوي بمدينة طرابلس القديمة- تصوير: كميلة الأسطى


جمال الهمالي اللافي

في المشهد المعماري الليبي المعاصر، تبرز ظاهرة مقلقة: استدعاء مفردات العمارة التقليدية لا بوصفها استلهامًا واعيًا، بل كزينة تُلصق على واجهات حديثة، تُفرغ من معناها وتُقدّم كدليل على "الانتماء"، بينما هي في جوهرها انفصال عنه.

العمارة التقليدية لم تكن زخرفًا، بل كانت استجابة دقيقة للبيئة، للمناخ، للثقافة، وللأعراف الاجتماعية. كانت تُبنى من الأرض، وتُصمم للناس، وتُعبّر عنهم. حين تُستدعى اليوم عناصر مثل العقود، المشربيات، أو الزخارف، دون فهم وظيفتها أو سياقها، تتحول إلى رموز مشوشة، تُنتج واجهات زائفة، لا تنتمي للماضي ولا للحاضر.

الزيف لا يُقاس بالشكل، بل بالوظيفة والسياق. حين تُستخدم المشربية كعنصر زخرفي على واجهة زجاجية، أو يُضاف الفناء في مشروع لا يحتاجه، أو تُستورد مواد لا تنتمي للمكان، فثمة انفصال عن الروح. العمارة الزائفة تُعيد إنتاج الشكل، لكنها تُقصي المعنى.

ولعل أخطر ما في هذه الظاهرة أنها تُقدّم للناس بوصفها "عودة للتراث"، بينما هي في الحقيقة تشويه له. تُربّي الذائقة على التزيين، لا على الفهم، وتُكرّس وهم الانتماء عبر مفردات بلا وظيفة.

في مواجهة هذا، لا بد من إعادة تعريف الاستلهام: أن يكون حوارًا مع الماضي، لا اقتباسًا منه. أن يُبنى المشروع من سياقه، لا أن يُلصق عليه. أن تُعاد قراءة العمارة التقليدية بوصفها خطابًا وظيفيًا واجتماعيًا، لا مجرد زخرفة.

العمارة بروحها تُبنى لتُسكن، لا لتُعرض. تُعبّر، لا تُزيّن. تُحاور، لا تُقلّد.

الاثنين، سبتمبر 08، 2025

هل يكفي المعماري أن يكون مصممًا؟


في الحاجة إلى المعماري المثقف، الناقد، والمؤرخ

جمال الهمالي اللافي


في السياق الليبي، حيث العمارة لا تزال تُعامل كمنتج بصري أو وظيفة إنشائية، يبرز سؤال جوهري: هل يكفي للمعماري أن يكون مصممًا؟ أن يتقن أدوات الرسم، ويجيد برامج النمذجة، ويُخرج مشروعًا متماسكًا شكليًا؟ أم أن العمارة، في جوهرها، تتطلب ما هو أبعد من التصميم: وعيًا ثقافيًا، حسًا نقديًا، وذاكرة تاريخية؟

المعماري الذي يكتفي بالتصميم، دون أن يُدرك السياق الذي يصمم فيه، يتحول إلى منفذ تقني، لا إلى فاعل ثقافي. وهذا ما نراه في كثير من المشاريع الليبية المعاصرة: مبانٍ أنيقة الشكل، لكنها مشوشة الهوية، غريبة عن بيئتها، عاجزة عن التعبير عن ساكنيها. إنها عمارة بلا ذاكرة، بلا موقف، بلا خطاب.

في المقابل، المعماري المثقف لا يكتفي بالسؤال "كيف؟"، بل يسأل "لماذا؟" و"لمن؟" و"في أي سياق؟". هو ناقد قبل أن يكون مصممًا، ومؤرخ قبل أن يكون منفذًا. يقرأ المكان، ويصغي إلى الزمن، ويعيد بناء العلاقة بين الإنسان والمأوى، بين الوظيفة والكرامة، بين الشكل والمعنى.

في ليبيا، حيث العمارة تعاني من الاستلاب البصري والوظيفي، يصبح هذا الدور أكثر إلحاحًا. لا نحتاج إلى المزيد من المصممين، بل إلى معماريين يعيدون الاعتبار للبساطة، للصدق، للانتماء. إلى من يرفضون الاستنساخ، ويقاومون التغريب، ويؤمنون أن كل بيت هو موقف، لا مجرد منتج.

فهل يكفي أن يكون المعماري مصممًا؟

في زمن الانهيار، لا يكفي. في زمن المقاومة، لا يُكتفى إلا بمن يحمل الوعي، ويصمم به.

أنماط البيوت التقليدية في ليبيا

المسكن الطرابلسي التقليدي المنزل ذو الفناء " الحوش " جمال الهمالي اللافي مقدمة / يعتبر(...