الجمعة، أبريل 10، 2009

حرفة الصياغة خلال مسيرة نصف قرن





محمد الهادي جمعة الغرياني*


اهتم الإنسان منذ القدم بأناقته ، فالرغبة فيها فطرية لديه منذ فجر تاريخه ، وتدل الآثار القديمة على أنه حتى في مرحلة الوحشية كان يميل إلى الأناقة ، فزين جسده بأنواع من الوشم ، ثم استخدم بعد ذلك الحلي المختلفة.
واهتمت الحضارات القديمة بصياغة الذهب والفضة منذ فترة تعود إلى 2000 سنة قبل الميلاد وماتركته لنا الحضارة المصرية القديمة وحضارة بلاد الرافدين من تحف فنية وحلي مختلفة تدل على مقدرة كبيرة ، وإبداع حرفي متميز لدى صانعي تلك الحلي (1) . ليس هناك تاريخ محدد أومعروف يخص صياغة الذهب والفضة في طرابلس إلا بما يستوحي من مصنوعات أثرية محفوظة في المتاحف المحلية كالسرايا الحمراء وما تحتويه من مصكوكات فينيقية أو رومانية أو عربية والتي يرجع تاريخها إلى ما بعد الفتح الإسلامي على يد القائد عمرو بن العاص في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ؛ إذ لم تضرب النقود في عهده ، فقد كانوا يتداولون الدراهم الفارسية ( الدرهم البغلي ) والدنانير البيزنطية " الدينار الهرقلي " المضروب في سوريا .
وفي ليبيا نجد أن المؤرخ الإغريقي هيردوتس الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد ، يصف حياة بعض القبائل الليبية ويشير إلى حٌلِي بعضها فيقول : " إن قبائل الأدرماجندي تلبس الواحدة من نسائهم خلخالاً برونزياً في ساقيها ". واشتهر الجرامنت في الجنوب الليبي بصناعة الحٌلِي الذهبية والفضة مثل المشابك والأساور إضافة إلى ما صنع من الحٌلِي من الأحجار الكريمة الملوَنة كالفيروز والزمرد الأخضر والعقيق الأحمر ، مما يدل أن صناعة الحٌلِي ونقشها وزخرفتها كانت صناعة رائجة وفناً شعبياً قائماً شائعاً لديهم ، وتدل المخلفات الأثرية على استخدام الليبي للحٌلِي في الفترة الفينيقية والرومانية ؛ إذ عثر على الكثير منها في المقابر المكتشفة ، كما تدل بعض النقوش الموجودة على بعض المعابد والأضرحة على استخدام الليبي للحٌلِي منذ فترة تعود إلى ما قبل القرن الثاني الميلادي . ولقد ازدهرت صياغة الذهب والفضة في ليبيا في العهد العثماني الثاني ( 1835 – 1911 م ) وكانت سبائك الذهب تستورد من أفريقيا ومصر إضافة إلى ما يعاد صهره من الحٌلِي والمسكوكات الذهبية القديمة ، أما سبائك الفضة فقد كانت تستورد من فرنسا ، وقد كانت صياغة الفضة أكثر تطوراً من صياغة الذهب نظراً للظروف الاقتصادية للبلاد ؛ إذ كان الإقبال على المصوغات الفضية كبيراً والأهالي يقبلون على شرائها خاصة عندما تكون مواسم الحصاد مزدهرة .
وقد اشتركت ليبيا في بعض المعارض الدولية منها معرض باريس 1867 ومعرض النمسا 1873 ، ومعرض فيلادلفيا بأمريكا 1875 ، عرضت فيها بعض المصوغات الذهبية والفضية المصنعة محلياً (2).
ولكن من العهدين العثماني الأول والثاني وإلى بداية الحكم الإيطالي كانت صياغة المعادن الثمينة في ليبيا حكراً على اليهود حيث بقيت في أيديهم إلى ما قبل الحرب العالمية الثانية ، ونظراً لأن الطرابلسيين كانوا يأنفون من مهنتي الصياغة والحدادة ويعتبرونها منقصة تحد من قدرهم ذلك لما يعلق بحرفييها من قذارة وسخام ، من أجل ذلك كان الطرابلسيون يميلون إلى الاشتغال بالتجارة وحبهم للسفر والمغامرة إلى الأقاليم الصحراوية النائية ومنها إلى بلاد الســـــودان × ، هذا بينما كان سكان الضواحي والأرياف يفلحون الأرض ويقومون بتربية المواشي وتسويق المحاصيـل الزراعيـــة ، وإن كـــان البعض منهم يزاول حرفة الحيـاكة أو صناعــة الأخفــاف الجلديـة ولكن على سبيـــــل الهوايـة لا الاحتراف المستديم .
يرجع البعض أن حرفة صياغة المعادن الثمينة ازدهرت مع مجيء اليهود إلى طرابلس وهم أولئك اليهود الذين فروا من وجوه محاكم التفتيش الاسبانية ، وأنا مع هذا الرأي ، ذلك لأن بعض اليهود الصاغة يحملون أسماء وألقاباً أندلسية مثل الصائغ ( خلافو حكمون ) – ( موشي فضلون ) على نسق سحنون وابن زيدون ،وما هذا الا مجرد رأي .
ومن ضمن هؤلاء النازحين من اليهود مجموعة استقرت في جنوب جادو والجبل الغربي في منطقة وادي سروس (3). قد يكون ذلك حرصاً منهم وخوفاً على سلامتهم من ملاحقة الإسبان إن هم استقروا متاخمين لشواطئ طرابلس ، وقد دلَت بعض أعمال الحفر والتنقيب على وجود آثار عرف منها أنها دكاكين صاغة تزيد في العدد على خمسة وسبعين دكاناً يقال إن البعض منها كانوا يصنعون القناديل الفضية يصدرونها إلى مملكة فينيسيا بشمال إيطاليا لوضعها في الكنائس وكان ذلك في القرن السادس عشر الميلادي (4).

أنواع الحٌلِي
الحٌلِي أنواع عديدة وقد يتفق بعضها في الإسم وإن إختلف في الشكل والوزن وذلك حسب البلدان والقرى ؛ فالمصوغات النسائية بطرابلس تختلف عن بقية مصوغات النساء اللاتي يقطن بالأرياف والصحارى ، وكما أن المناطق الحدودية والتي لها ثقافة مشتركة تظهر آثارها في العادات واللهجة والقيافة كل منطقة بحسب ما يجاورها ، ويكاد ينسحب التشابه على المتاجرين ، ماعدا مصوغات نساء الصحراء الكبرى ؛ فالاختلاف ظاهر ، كما أن عيار الفضة متدن ٍ يصل الى أقل من عيار 600 ، ولذا ذلك تجد لونها حائلاً يغلب عليه الإصفرار أو الإخضرار.

مصوغات نساء طرابلس
فإذا ما حاولنا استعراض مصوغات نساء طرابلس فهي تتكون من الإكليل المسمى " بالشنبير" تشده المرأة على أعلى الجبهة ، وتضع في اذنيها أكثر من قرط وهو عيار اثنى وعشرين محلَّى بحبات من اللؤلؤ ويسمى القرط الذي يشبك بشحمة الأذن بالخرص ، ويليه قرطان أعلى منه يسميان بالونيسة ، وفي أعلى الأذن قرطان يسميان بالتكليلة ؛ وهذا النوع من الأقراط تتساوى في اقتنائه نساء الضواحي ونساء طرابلس ، بينما تنفرد نساء طرابلس بأقراط أخرى تلبس للمناسبات وهي ماتسمى ( بالمناقش ) ، وهي من عيار تسعة مرصعة بالأحجار الكريمة تتدلى منها حبات اللؤلؤ على هيئة عناقيد صغيرة.

مايلبس في العنق
العقود ، تضع المرأة الطرابلسية في عنقها عقد اللؤلؤ غالباً ماتلبسه في الأيام العادية ، وبعض النساء تضع عقد الصخاب وهو منظوم يحتوي على خرزات على هيئة مثلثات صنعت من معجون المحلب العطري وهو يتخشب بفعل الزمن وتتصاعد رائحته بتفاعله مع العرق ، وتنظم بين حبات المحلب حبات صنعت من ذهب عيار اثنى عشر يطلق عليها اسم حب الزيتون. ومن النساء الميسورات من تضع في عنقها عقد الماجارات ، وهو يحتوي على مجموعة من المسكوكات النمساوية القديمة وهي من عيار أربعة وعشرين . وفي بداية الخمسينيات كان هذا العقد يعتبر رصيداً توفره الأسرة لسد ثغور الاحتياج ولفك الأزمات ووضعه في العنق للحفاظ عليه أكثر من التزين به ولأنه ليس به مايمت الى الناحية الجماليــة بأيـة صلة ؛ فهو عبارة عن قطع ذهبية مخرومـة ومخاطة بقطعة متينة على هيئة سير من القمـــاش الأسود ، والمرأة إذا ما اضطرت إلى مغادرة البيت في أي مناسبة كانت فهي حريصة على لبسه ولاتخرج بدونه.
وفي المناسبات تتحلى المرأة الطرابلسية بالعقد الفضي المسمى باللبة وقد تضيف عليها لبة ( القرون ) وهي من عيار 12، وتلبس في معصميها ما يسمى بالحدايد وهي فضية وذلك في سائر الايام ، أو حدائد ذهبية عيار 18 تسمى بـ "قلوب البطيخ "، أو أساور فضية تسمى بالطرابلسي وهي مموهة بماء الذهب ، والميسورات منهم يضعن أساور ذهبية عيار 22 تسمى بـ "الاستنبولي". وتشد على وسطها حزاماً يسمى بـ" حزام البشكتي " وتضع في قدميها الحذاء المُغشَّى بالفضة من عيار 900 وهو مايسمى بـ" التليك ".
وقبل نصف قرن لم يكن النساء يستعملن المشابك الذهبية لشد الأردية وهي مايعرف عند الجميع بالخلال SPILLO-BROCE ) ) ولكن يشبكن أرديتهم بالخلال المعدني العادي .
وأما في الوقت الراهن فإن العقد المسمى باللبة فقد جرى عليه تطوّر تدريجي من أوائل السبعينات؛إذ حل محل اللبة عقد الليرات الإنجليزية من عيار 21، ثم جرى تحوير هذا العقد، فقد أحيطت هذه الليرات بأسلاك ذهبية بـ"الفيلوجرين " أي السلك المحبب ، وبعد مدة حدثت التفاتة إلى عقد المجارات المثبت بقطعة القماش الأسود فجرى عليه التعديل نفسه ؛ إذ أحيطت تلك المجارات بالطريقة نفسها كما الليرات وتكوُُّن من ذلك العقد المسمى بعقد الشجرة ، وهو إلى الآن لم يغير ولم يستبدل طيلة ربع قرن . ذلك لأن سر الاحتفاظ بمكانته هو إبداع الصائغ الذي غالباً ما يغيّر من تشكيله في عملية التركيب وكذلك تغيير أشكال الزهور والتفنن في إظهارها بالمظهر الجميل ، كما أن جو المنافسة بين الصاغة يتمثَّل في من يبتكر العقد الأجمل شكلاً و الأخف وزناً والأكبر حجماً .
من المصوغات لم يعد لها اليوم أي استعمال وقد تناساها كثير من النساء وخاصة الشابات منهنَّ ، فهنَّ لا يعلمن عنها شيئاً وهو ( البوشمار ) اشتق له اسم من التشمير ، وهو حبل صغير من نسيج الفضة يشَّد به أطراف الصدرية المطرزة وأغلب الظن إنه يعتبر من الاستعمالات الوافدة إلينا من بلاد القوقاز عم طريق القيافة التركية كالصدرية والسراويل النسائية الفضفاضة .
من المصوغات الفضية ما تقتنيه نساء طرابلس من الطبقات الميسورة كأدوات وتحف منها أدوات الزينة كالمكاحل وعلب المساحيق وقوارير العطور وهي تسمى بالبخاخات والمجامر وتسمى أيضا المباخر والأمشاط المضببة و المرايا المضببة وأطر الصور . وأمَّا الأواني فهي تشمل على الصحون و الأباريق و الأكواب و الأواني وعلب السكر والشاي والملاعق وهذا غالباً ماتجلبه العروس معها إلى بيت الزوجية 

مصوغات نساء الريف
من المتعارف عليه أن نساء الريف لا يقتنين إلا المصوغات الفضية ويضعن الكثير منها مشدودة إلى شعر الرأس ومنهن من يُضرب بها المثل حيث يخبر عنها بأن فلانة ليميل عنقها لما تحمله فوق رأسها من قطع فضية .
أول قطعة تسمى بـ "الحلقة التاجورية" وهي تثبت على أعلى العصابة ×، ثم يلي ذلك مجموعة من الصوالح وهي على شكل دوائر تتوسطها نجمة وهي تثبت بجدائل شعر الرأس ، كما يثبت عدة أنصاف كرات فضية متصل بعضها ببعض تسمى " أملوز أو قباب " كما يثبت بالشعر قرطان كبيران مربوطان بسَير من الجلد يتأرجح كل منهما بجانب أذن.
تضع المرأة الريفية في عنقها عقداً يسمى الشعيرية وهو يتكون من عدة أسلاك فضية متشابكة ويشبه إلى حد بعيد عقد اللبة الطرابلسي ولكن بصورة أصغر . والريفية تشبك ردائها بمشبكين في جهتين بأعلى موضع الصدر ويتّخذ المشبك شكل الهلال قطره حوالي خمسة عشر سنتيمتراً وعلى سطحه نقوش جميلة ، وتشدّ على خصرها حزاماً صنع من صفيحة فضية بعرض ثمانية سنتيمترات على سطحه نقوش جميلة . وتضع الريفية على كاحليها الخلخال من صفيحة سميكة نسبياً كل قطعة منه تزن نصف رطل أي مايعادل 625 غراماً بينما تضع في قدميها " الترليك " وهو الحذاء الجلدي المغشَّى بالفضة وهو صنو التليك الطرابلسي .


مصوغات نساء البادية
هناك تشبه إلى حد كبير بين مصوغات نساء البادية ونساء الريف وأما الاختلاف فإنه يقع في بعض المقتنيات ؛ فالبدوية تشبك في شعر رأسها قطعة تشبه الخاتم العملاق مكوَّن من حلقة مثبت عليها مسكوكة فضية عثمانية تسمى بـ"المجيدي" وبعض الصوالح الصغيرة وقرطان مربوطان بسير من الجلد صغيران نسبياً بالإضافة إلى قرطين صغيرين بشحمة الأذن ، وتضع في عنقها ما يسمى بـ"الزرافة" أو القلادة تتخلل قطعها الفضية بعض حبات المرجان ولا تتخصَّر بالحزام الفضي ولا تضع خلخالاً. وأما الحذاء فهو كناية عن خف جلدي طويل العنق يقي الساق وخز الأشواك البرية وهو مطرز بالحرير الملوَّن.

مصوغات نساء الصحراء
مصوغات نساء الصحراء بسيطة جداً فهي تشتمل على مايسمى بـ"القصة" وهي صفيحة بعرض خمسة سنتيمترات مشدودة بأعلى الجبهة وتتأرجح على محيطها السفلي قطع فضية صغيرة على هيئة كف اليد ، وتضع في أذنيها قرطين فضّة منظوم فيهما خرزات من المرجان وكل قرط بقطر ستة سنتيمترات ، وتضع في عنقها قلادة من جلد منظوم به بعض الخرز الملوَّن من الحجم الكبير ، كما تضع في عنقها قلادة إضافية منظوم بها بعض الأحجية والتعاويذ وبعض القطع الفضيّة وهي غالباً ما تكون من العيار المتدنّي . وتلبس في معصميها أساور من جلد منظوم على محيطها خرز دقيق ملوَّن ولا أعلم فيها إذا كانت المرأة الصحراوية تضع في كاحليها ما يشبه الخلخال.


نبذة عن تصنيع المصوغات الذهبية والفضية المحلية
ذكرت في مقدمة هذه الكلمة أن الطرابلسيين يأنفون من حرفة الصياغة نظراً لما يتعرض له الصائغ من قذارة وسخام ؛ذلك لأن عملية صهر المعادن تكون بواسطة استعمال الكير التقليدي الذي يوقد عليه الفحم ( الكوك ) وأن قوالب السباكة ( الدرازق ) والمحتوية على الطين فيها تجاويف لنموذج الصيغة المعدّة لاحتواء المنصهر من المعدن . هذه القوالب بعد تجفيفها تُعرض على فتائل قماشية ومغموسة في مادة تسمى (PESCI GRECA ) يتصاعد منها دخان يغطّي سطح الطين بسناج كثيف . بذلك تسهل عملية تسرب المعدن المنصهر خلال تجاويف القالب ويُمنح سطح الطين نعومةً تنعكس بدورها على سطح المعدن المصوغ . ولكن عندما يقوم الصائغ بهذه العملية فإنه تكون مضنية فيما إذا تجاوز عدد القوالب مائة قطعة ؛ ذلك لأن الدخان والسناج المتصاعد من الفتائل المذكورة يتخلّل جميع منافذ الوجه ويخلص إلى الرئتين ويتخلّل شعر الرأس وينال من سلامة صحة الصائغ ، ويغلب الظن أن هذه العملية مقتبسة من الأحافير الجيولوجية ( FOSSELS ).

طريقة سحب الصفائح الفضية
كن سحب الصفائح يُؤدَّى بواسطة المطرقة والسندان في جميع الأحوال مما يتطلب جهداً ووقتاً كبيرين ، والجدير بالذكر أن أول ما يفكر به الصائغ الناشئ هو حصوله على هذه المعدات الأساسية باعتبارها رأس مال لا يستهان به ومنها المطرقة والسندان والكير والراد والمقراض والمبرد.
ذكرت في السابق أن عملية سحب الصفائح تكون بالمطرقة والسندان واستمرت هذه العملية إلى مابعد الاحتلال الإيطالي سنة 1911 م ، حيث بدأت الميكنة تأخذ مكانها في كثير من مجالات الصناعة، وصار سحب الصفائح بالدولاب الاسطواني (LAMI NATOIO ROLLING MILLS ) ×.

وفي ما بين عامي 1935م و 1936م ، حدثت نقلة يجب أن لاتغفل في تاريخ صياغة المعادن الثمينة ، فقد أسست مدرسة نموذجية حديثة نسبياً في هذا المجال وكان ذلك بموقع ضمن مبنى سوق الصناعة المحلية بسوق المشير قام بالتدريب فيها والإشراف عليها الإيطالي الأستاذ قويدو أنجليني ، وكانت هذه المدرسة امتداداً لمدرسة الفنون والصنائع الإسلامية .والدليل على ذلك أن أغلب الطلبة الملتحقين بها هم من المدرسة المذكورة فكانوا من الرواد السابقين في الالتحاق بهذه المدرسة الحديثة . وقد أُسس برنامج التدريس على قدر كبير من الحداثة نسبياً ، الأمر الذي رغَّب بعضاً من أُسر الأعيان في أن يكون من أبنائهم ضمن منتسبيها . والبرنامج الذي انتهجه أنجليني في طريقة التدريس كان على مراحل متعاقبة وملزمة لكل طالب مبتدئ ؛ فأول ما يتلقي الطالب دروساً في الرسم وقد تطول هذه المدة إلى سنة كما أخبرني بذلك الأستاذ الكبير المرحوم مبروك الشكشوكي.
ثم يدرّب الطالب على تصميم المصوغات البسيطة وعلى نوع من المعادن الرخيصة يشبه النحاس الأبيض يسمى ARGENTONE أو LAPPACCA ويسمّيه العامة المعدن وهو فضة الفقراء ، والسر في التدريب على هذا المعدن أنه غي مكلف من الناحية الاقتصادية وأما من الناحية الفنية فإن أي خطأ من الطالب لا يؤدي إلى فساد المصوغ الذي يصوغه ، لأن هذا المعدن غير قابل للصهر مهما كان رفيعاً ، ولأنه يتحمل الحرارة الشديدة بخلاف الفضة فإن أي زيادة في معدل الحرارة يعرض القطعة للانصهار.
وبعد ذلك يتم التدريب على النقش أو الحفر وهكذا بالتدريج فإذا ما أتقن الطالب هذه الدروس العملية الأولية عند ذلك تسند إليه عملية صهر الفضة وسحبها بآلة السحب ، وبذلك يطبّق الطالب جميع ما تعلمه.

* حرفي صياغة الذهب

1ـ سعيد علي حامد" النقش والصياغة عبر العصور " . مجلة تراث الشعب ، لسنة 15 العدد 4، 1900 : طرابلس ، اللجنة الشعبية العامة للثقافة .
2- سعيد علي حامد : المرجع السابق . × وادي بورتو مملكة قومبارو ، كانو تمبكتو.
3- عن مجلة التراث
4- الاستاذ علي حسنين
× قطعة طويلة من الصوف الأحمر تضعها المرأة على رأسها.

الجمعة، أبريل 03، 2009


ليبيا تودع شيخ الخطاطين

المصدر: موقع ليبيا اليوم
طرابلس- (خاص) ليبيا اليوم- فتحي بن عيسى

أعلن في طرابلس عن وفاة شيخ الخطاطين الشيخ (أبو بكر أحمد ساسي المغربي ) عن عمر ناهز 92 عاما ، حيث وافته المنية فجر يوم الخميس 2/4، وسيشيع جثمانه عصر يوم الخميس ليوارى الثرى في مقبرة (سيدي حامد) بقرقارش.
ولد الشيخ (أبو بكر ساسي) بطرابلس عام 1917 م، وككل أبناء جيله تلقى تعليمه الابتدائي في كتاتيب المدينة القديمة، ومنها إلى الأزهر الشريف بمصر عام 1935م، وفي مدرسة تحسين الخطوط الملكية بمصر بدأ رحلته مع الخط العربي ليحصل على دبلومها عام 1941م، ومن أبرز أساتذته في هذا المجال: الخطاط نجيب الهواوني، والخطاط السيد إبراهيم، والخطاط محمد حسني، والخطاط محمد إبراهيم، والخطاط علي بدوي، والخطاط علي محمد علي مكاوي، والخطاط عبد العزيز الرفاعي.
منذ العام 1943م تاريخ عودته إلى طرابلس أخذ على عاتقه نشر فنون الخط العربي وتعميمه ويذكر من عاصر الشيخ أبو بكر ساسي كيف كان ينتقل بين المدارس والكتاتيب معلما وموجها دون كلل وملل، وفي عام 1976م أسس في طرابلس معهد ابن مقلة للخط العربي.
تقول الباحثة الأستاذة أسماء الأسطى عنه: "تحقق له إقامة أول معرض شخصي له عام 1974ف؛ مما نبه إلى أهمية هذا الفن خاصة بعد إقامة أول مسابقة في فن الخط في منتصف عام 1975ف، ما أعقبه تأسيس (معهد ابن مقلة للخط العربي والرسم والزخرفة) بتاريخ15/10/1976ف،الذي جاء كضرورة تطلبتها نتائج دورة تدريبية لتحسين الخطوط وتهذيب بوادر الموهبة في طلاب (مدرسة علي وريث) كان قد انضم إليها 124 طالباً نجح منهم 54 دارساً نجحوا في الامتحانات التي استمرت عامين مما حفز المسؤولين إلى اتخاذ قرار بإنشاء المعهد لإحياء التراث الإسلامي كما تولى "ساسي" مهام إدارته الذي كان له الفضل في انشائه، لكن المعهد لم يستمر طويلا".
كما عرف الشيخ أبو بكر رجب ساسي بخدمته لكتاب الله الكريم بدأ قارئاً في الإذاعة الليبية، ثم رئيسا لقسم القرآن الكريم بها عام 1966م، ويعد خطه لأول مصحف في العالم برسم الداني المسمى (مصحف الجماهيرية) أهم أعمال الشيخ الراحل والذي فرغ من خطه عام 1983م.

فريال الدالي:

رحم الله الأب الشرعي لفن الخط في ليبيا، و أسكنه فسيح جناته، و ألهم آله و ذويه و تلامذته جميل الصبر و السلوان. الحقيقة أن الشيخ أبو بكر ساسي تدرب على ثلة من أمهر الخطاطين، و لعل أهمهم: نجيب ( الهواويني)، والخطاط الشاعر عميد الخط العربي سيد إبراهيم. و للإشارة أود أن أذكر أن الشيخ- و في مقابلة شخصية أجريتها معه سنة 2004- ذكر لي أنه سافر صحبة زملائه إلى الأزهر لتعلم القرآن الكريم؛ و لكن لم يكتفِ شيخنا بذلك إذ أشار عليه أساتذته بتعلم الخط العربي لما لمسوه ورأوه من جمال خطه و حسنه؛ فاتجه لتعلم الخط العربي في مدرسة تحسين الخطوط باب اللوق في القاهرة، و قد نبغ ضمن أقرانه، حتى إنه يذكر ضمن الطلبة المتفوقين ممن علمهم عميد الخط العربي سيد إبراهيم، ولكم شعرت بالفخر حين قرأت اسمه في السيرة الذاتية لسيد إبراهيم( رحمهما الله). و أود الإشارة إلى أن الشيخ المرحوم أبو بكر ساسي المغربي ذكر لي من بين ما روى صعوبة و عناء التعلم والاغتراب في الفترة التي قضاها في القاهرة؛ لا جرم و أنها تعيش في تلك الحقبة فترات ساخنة، و كيف أن هناك من لم يستطع صبرا مع تلك الظروف، ليظل هو هناك و يتعلم – رغم شظف اعيش و انقطاع المنحة عنه- حتى يكتب له نيل الإجازة في الخط العربي، و هي الشهادة التي تؤهله لتعليم الخط العربي؛ ليكون أول شخص ليبي يتعلم فن الخط، فقد كان الخطاطون قبل ذلك كلهم من الأتراك. و يعود بعدها للتعليم في ليبيا لأكثر من عشرين عاماً قام خلالها بتحفيظ القرآن و تعليم الخط العربي متنقلا بين مدارس طرابلس البعيدة و القليلة، و قد افتتح أول دورة نظامية لتعليم فن الخط العربي تخرج منها عدد مهم من الخطاطين الليبيين منهم الأستاذ الخطاط العالمي محفوظ البوعيشي، و الخطاط محمد البشتي، و بعد أن لاحظت أمانة التعليم أهمية هذا الفن قررت إنشاء مدرسة متخصصة لتعليم هذا الفن الإسلامي العريق، ونظرا لافتقار ليبيا لخطاطين متخصصين و معلمين لهذا الفن ؛ تم تكليف الشيخ المرحوم بجلب مدرسين من تركيا ومصر؛ و هذا ما تم، فحضر عدد مهم من الخطاطين لعل أشعرهم مصطفى محمود إبراهيم، و محمد حسني والد الفنانتين نجاة و سعاد.

ختاماً: الموضوع عن الفنان الخطاط يطول، و يستحق مقالا مستقلا لا مجرد تعقيب، و هو أضعف الإيمان.

نسأل الله أن يعوضنا الخير في الباقين، و أن نلمس الوفاء في بعث مدرسة لتعليم فن الخط بعد أن أقفلت مدرسة ابن مقلة سنة 88؛ تصوروا: واحد و عشرون عاما لا يوجد لدينا مدرسة لتعليم فن الخط العربي الإسلامي!



الثلاثاء، مارس 24، 2009

العمارة حالة أخلاقية




جمال الهمالي اللافي

من خلال الورقة التي عرضها أستاذنا الفاضل أحمد انبيص مساء يوم السبت الموافق 14/3/2009 م. بقاعة المحاضرات بمدرسة الفنون والصنائع الإسلامية، التي قدم لها عنوانا على شكل تساؤل، يحمل علامة استفهام كبيرة، عن الأسباب والعوامل التي جعلت المستعمر الإيطالي ممثلا في معمارييه قادرا على إنشاء عدة مدن جديدة خلال فترة احتلاله لليبيا، في حين لم يوفق المعماريون الليبيون حتى يومنا هذا في بناء أو طرح ولو رؤية لمدينة جديدة واحدة.
وفي مداخلة مسهبة وقيّمة في مجملها، خلص المعماري فيصل البناني إلى طرح تعريف للعمارة وشخّصها على أنها حالة ثقافية.

وقد قمت بالتعليق على هذا الطرح، وقدمت رؤيتي للعمارة على أنها حالة أخلاقية، وأكدت بأنها أشمل من تعريفها على كونها حالة ثقافية ، كما أشرت إلى أن الأخلاق هي التي ترسم ملامح الثقافة ، ما إذا كانت ثقافة بناء وتعمير، أو ثقافة تشويه وتدمير، وأنّ حسن الخلق هو الذي يشيع النظام والتخطيط، وأن سوء الخلق هو الذي يشيع الفوضى والعشوائيات ، والعمارة بذلك هي رهينة لأخلاقيات الفرد أو الجماعات التي تستوطن بقعة ما من الأرض.

واستكمالا لهذا الطرح، يمكننا هنا الاستدلال بما فعله المغول والتتار بالعالم، فأخلاقهم المبنية على التدمير والقتل، وبيئتهم التي تفتقر لمعالم العمران والتّمدن، هي التي أحرقت الأخضر واليابس في كل الأمصار التي مروا بها في طريقهم قبل أن تحرق حاضرة العالم والدولة الإسلامية بغداد، وتغرق كنوز مكتباتها في نهر الفرات، حتى تخضّب لونه بلون الحبر الذي كتبت به هذه المؤلفات. وفي المقابل فإن أخلاق المسلمين التي تشيع لديهم ثقافة البناء والتعمير، واحترام قيمة الإنسان، هي التي شيدت حضارة الأندلس وأنارت بصيرة أوروبا، وأخرجتها من ظلمات العصور الوسطى إلى حضارة القرن العشرين، مقتدين في مسلكهم بخلق النبي صلى الله عليه وسلم، الذي زكّاه ربه عز وجل في قوله تعالى: ( وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) سورة القلم الآية (4). ومستمدين من قوله صلى الله عليه وسلم:(إن الله ليبلغ العبد بحسن خلقه درجة الصوم والصلاة)[1]، منهجهم في التعامل مع الآخر وخلقهم القويم، الذي فتح لهم قلوب الناس قبل أن يفتح لهم بوابات المدن والأمصار. وهو القائل صلى الله عليه وسلم:( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)[2].

وإطلالة سريعة على القاعدة الأساسية التي انطلق منها مخطط المدينة الإسلامية، والتي حددها قوله صلى الله عليه وسلم:( لا ضرر ولا ضرار)[3]، تبين لنا، أن المقوّم الأساسي الذي بنيت عليه هذه المدينة هو الأخلاق ، فالضرر الذي يلحقه الفرد أو الجماعة ببعضهم البعض أو بالبيئة المحيطة، يعرّف ببساطة على أنه سوء خلق وفساد في الأرض وإن كان ظاهره الإصلاح، ( قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105)، سورة الكهف.

فعندما هاجر النبي محمدا صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة" يثرب"، شرع في بناء دولته على أسس أخلاقية، ومن أهم الأحاديث الشريفة التي رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما زال يوصيني جبريل بالجار، حتى ظننت أنه سيورثه)[4]، كما نقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن). قيل: ومن يا رسول الله؟ قال: (الذي لا يأمن جاره بوائقه)[5]. و عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: قلت: يا رسول الله، إن لي جارين، فإلى أيهما أهدي؟ قال: (إلى أقربهما منك باباً)[6]. ولما سأله أحد الصحابة رضوان الله عليهم جميعا عن إمرأة تصوم النهار وتقوم الليل ولكنها تؤذي جيرانها، قال: ( هي في النار).
وهذا يعني إشاعة حسن الجوار، وما يتبعه من التزامات، تتعلق بعلاقة الجار بجاره، وعلاقته بالجيران من حوله، وهو ما يعني علاقته بالشارع والحي، ومن ثمّ المدينة بكل مرافقها ومشتملاتها، وصولا إلى احترامه للبيئة المحيطة، وما حوته من عناصر طبيعية.

أما الثقافة- التي تعرّف على أنها نتاج أو حصاد خبرات المجتمعات البشرية عبر مر السنين في شتى مناحي الحياة، وهي التي يطلق عليها ميراث الشعوب أو تراثها الثقافي- فمن أهم مقوماتها الأخلاق، وعماد تأصلها في وجدان أي مجتمع هو إشاعة حسن الخلق، ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) سورة الحجرات الآية (13).
وثقافة المجتمع لا تمنع من ساء خلقه أن يتجاوزها، مثلما لا تمنعه الضوابط والقوانين السماوية والأرضية من اختراقها كلما سنحت له الفرصة، سواء غاب الرقيب أو حضر. وما تحريف الأديان السماوية والخروج بتعاليمها عن سياقها، إلا نتاج سوء خلق بعض الناس، الذين استحلوا الحرام وبرروا لأنفسهم أسباب الفساد في الأرض. وقد ارتبط انحدار الحضارات بالفساد في الأرض، وتفسخها بالتحلل من القيم الأخلاقية، ( ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) سورة الروم الآية (41).
وما اختراع القنابل الذرية والجرثومية، وتبرير تقتيل آلاف البشر بواسطتها، وتدمير العمران والبيئة، إلاّ نتاجا لثقافة العنف ونبذ الآخر وثقافته. وما اختراع الإسطرلاب وأجهزة الإتصالات والمواصلات إلاّ تعبيرا عن ثقافة التواصل والحوار والرغبة في التعارف وتبادل المنافع والتعرف على ثقافات الشعوب الأخرى، وفي الحالتين نجد أن الأخلاق تسهم في رسم ملامح وطبيعة هذه الثقافة ونتاجها الفكري والمادي. وما بناء الأهرامات ( التي لا تزيد عن كونها مقابر لملوك مصر من الفراعنة) إلاّ دليلا على علو الحكام وطغيانهم في الأرض، ( إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) سورة القصص الآية (4)، وما بناء ناطحات السحاب إلا تعبير عن سطوة المادة واستعراض القوة الغاشمة، وما انتشار عمارة التفكيك إلا دلالة على شيوع التحلل الخلقي من كل القيم والضوابط والمعايير والمرجعيات الأخلاقية، فكل شئ جائز ومبرر مثلما أن كل شئ مباح، بما في ذلك الشذوذ الجنسي.

وخلاصة القول أن الأخلاق هي التي تحدد طبيعة ثقافة المجتمعات البشرية والأفراد. وهي بدورها التي تنتج لنا شكل العمارة، مثلما تحدد طبيعة السلوك الإنساني وتأثيره على البيئة العمرانية والمحيط. ولتبسيط المسألة في شكل تخطيطي يمكننا إلقاء نظرة على الشكل رقم (1)
ومن هذا المنطلق نعود لنجيب عن الإشكالية التي طرحها أستاذنا الفاضل أحمد انبيص والتي لخصها في هذا السؤال:
لماذا استطاع المعماريون الإيطاليون بناء عدة مدن جديدة في ليبيا، وفي المقابل لم يوفق المعماريون الليبيون إلى بناء ولو مدينة واحدة، مدروس مخططها، مكتملة مرافقها و خدماتها، واضحة معالم هويتها؟!
الإجابة عن هذا السؤال تقودنا بالضرورة إلى أزمة أخلاقية يعايشها المجتمع الليبي، تتمثل في انعدام الإحساس بالمسؤولية تجاه الأمة ومصيرها ومستقبلها، وهي ناجمة عن غلبة الأنا على النحن أو المجتمع، إضافة إلى تغليب المصلحة الآنية على الرؤية المستقبلية بعيدة المدى، وغلبة ضغوطات ومتطلبات اللحظة على التخطيط المسبق والمبرمج والممنهج والمدروس، وهي بدورها تطرح أمامنا إشكاليتين تحولان دون تحقيق الهدف والمبتغى/
الإشكالية الأولى/ ( أزمة التعليم المعماري في ليبيا):
أزمة يعانيها التعليم المعماري، الذي يتجه في ليبيا ليأخذ منحيين:
أحدهما: يعتمد على تلقين طالب العمارة معلومات لا ترتبط بواقعه ولا تتصل بحاجات المجتمع وثقافته، بل هي مستمدة من مناهج غربية، تمّ إعادة تهجينها بطريقة فجّة فرّغتها من محتواها العلمي والمنهجي، وصيّرتها مجرد معلومات عامة، لا تحمل في مضمونها أيّة قيمة أو فائدة علمية يمكن تطبيقها.
والآخر: يعتمد على استفزاز عقلية الطالب وحثها على التفكير المبدع، إضافة لاحترام إرادته في تحديد اتجاهه الفكري، مع الاكتفاء بتوجيهه نحو طرح حلول تصميمية ناجحة ومقنعة، دون تبصيره بخطورة هذه الاتجاهات المعمارية وبعدها الفكري الذي تستمد منه مبادئها ومنطلقاتها، ودون تبصيره بعدم ملائمة هذه الاتجاهات المعمارية في شكلها ومضمونها وتركيبتها الإنشائية وموادها مع ظروف البيئة المناخية وقيم المجتمع الدينية والثقافية وإمكاناته الاقتصادية وموارده الطبيعية والبشرية.

الإشكالية الثانية/( أزمة ممارسة المهنة):
وهي بدورها تنقسم إلى شقين:
شق يتعلق بالجانب الإداري، الذي يغلب عليه الممارسات اللا أخلاقية في التعاطي مع مهنة العمارة، وتعتمد في جلها على الارتجال وعدم التخطيط المسبق والممنهج علميا وفكريا للمشاريع المعمارية والتخطيطية، وفي حالة وجود مخططات- بغض النظر عن ملاءمتها بيئيا واجتماعيا وثقافيا- تقف المخالفات الإدارية والتنفيذية حائلا دون تطبيقها حرفيا وبالصورة الصحيحة، حيث يتم التلاعب بها لصالح أهواء ورغبات ذوي المصالح المتعارضة مع هذه المخططات.
والثاني يتعلق بالجانب الاستشاري، حيث يتجه المستشارون في مجال العمران إلى تحويل الرأي الاستشاري إلى مجرد مهنة للارتزاق، يوزع خلالها المستشار نفسه على أكثر من مؤسسة، يقسّم عليها وقته دون جهده، لساعات محدودة جدا، يضيع جلها في اجتماعات روتينية ولجان متفرعة عنها، يتم من خلالها الالتفاف إداريا على سلامة المخططات ومصداقية الرأي الاستشاري. والهدف أولا وأخيرا تحقيق مكاسب مادية ومعنوية.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( المستشار مؤتمن)[7].

هذه الخلاصة تسلط الضوء على بعض ملامح الإشكالية المطروحة، يمكننا من خلال مراجعتها وتقييمها، من ملامسة مواطن الخلل وتبيان مكامن الزلل، وبالتالي طرح الحلول الناجعة التي ستسهم في حال الالتزام الأخلاقي بها من رسم صورة مدن جديدة ومعاصرة، يتطلع المواطن في ليبيا للعيش في رحابها، بعيدا عن الفوضى المعمارية وسطوة العشوائيات. والشكل رقم (2) يلخص لنا مجمل الطرح الذي جاء في هذا الموضوع.

الأحد 15/ 3/ 2009 م.

[1] - المستدرك على الصحيحين للحاكم
[2] - رواه البخاري في " الأدب المفرد
[3] - سنن ابن ماجه
[4] - صحيح البخاري
[5] - المرجع السابق
[6] - نفس المرجع
[7] - سنن أبي داود و الترمدي

الجمعة، فبراير 27، 2009


نماذج من عمارة طرابلس


علي الصادق حُسنين

لابد في البداية من توضيح أنني اعتمدت في كتابة هذه الورقة * على ثلاثة مصادر هي :
1- مقال نشرته صحيفة " مستقبل طرابلس " في عددها الصادر يوم 24/12/1929.
2- مقال نشرته دورية " الأسرة النصرانية " في عددها الصادر يوم 3/2/1929
3- مقال حرره الأستاذ " أنجيلو بيتشولي " وجاء ضمن المجلد الثاني من كتاب أصدره الناشر " مونادوري " سنة 1934 عنوانه " إيطاليا الجديدة فيما وراء البحار " ثم كان سندي ما رواه لي – مشكوراً – الأخ الكريم الحاج : محمود الحنيش ، الذي هو أحد أبناء المنشية المخضرمين ، أمد الله في عمره وجزاه عني خيراً.

إن العناية المتوخاة من حديثي تتمثل – بالدرجة الأولى – في إذكاء ذاكرة تاريخنا الحافل بالأحداث وذلك حتى تكون الأجيال الصاعدة لاسيما طلبة كلية العمارة والتطوير العمراني على علم بما ألفه البحاث الإيطاليون عن المعمار ببلادنا ، وليس من قبيل التواضع والاعتراف بقصر باعي في هذا المجال .
لعله من المعروف بل ومن الملموس أيضاً أن طرابلس ما برحت تزخر بتحف معمارية يرجع بعضها إلى حقب سحيقة ولكن يعوزها التوثيق باستثناء قلة قليلة منها مع العلم بأن التوثيق شئ لازم مفيد.
ولا يفوتني أن أشدد على أن التوثيق المتعلق بالمباني الأحدث عهداً يكاد يكون معدوماً لأن ملفاته إما أن تكون قد ضاعت في خضم أحداث الحرب العالمية الثانية أو في أثناء عمليات نقلها مراراً من موقع إلى آخر وإما أن تكون محفوظة بغير نظام ولا تصنيف ولا فهرسة بمخازن البلدية أو بدار المحفوظات التاريخية في القلعة.
ففي ضوء كل ذلك تتجلى صعوبة وصول الباحث إلى ما يرومه منها.

هذا من ناحية ومن ناحية أخرى يجب ألا يغيب عن الأذهان أن مخططات التطوير العمراني المترادفة التي شهدتها المدينة مع أسباب أخرى قد حتمت إزالة بعض العمائر المذكورة مثل ثكنة البرهانية والمستشفى العسكري ومقر البلدية ومقر شعبة الحزب الفاشستي ومسرح الميراماري وبنك إيطاليا وعمارة " اينا " وعمارة الأوقاف التي كانت تضم مسجد سيدي حمودة وضريحه ولكن ظهرت – في مقابل ذلك – إلى الوجود عمائر عصرية أخرى مثل مجمع ذات العماد وبرج الفاتح ومقر أمانة المواصلات الذي يضم إدارة البريد والبرق والهاتف بالإضافة إلى عدد لايستهان به من العمارات السكنية العامة والخاصة ولا ننس مركب جامعة الفاتح والمركز الطبي المجاور له ومستشفى الخضراء وغيرها.
من المعروف أن الدايات العثمانيين الأوائل قد اتخذوا لإقامتهم بعض البيوت الفاخرة مما كان متوفراً عصرئذ داخل أسوار حاضرة طرابلس وذلك باستثناء " طور غدو باشا " الذي ورد في بعض المصادر أنه بنى لنفسه قصراً جميلاً بمحلة باب البحر خلف الحصن الذي أقامه على الناصية المواجهة للميناء .

ومما يروى أن " دار القاضي " أي مقر المحكمة الشرعية سابقاً بشارع جامع الدروج ظلت في وقت من الأوقات مقر إقامة بعض هؤلاء الدايات علماً بأنها عبارة عن " حوش " عربي الطراز يتألف من طابق أرضي وأخر علوي ولا يحمل من معالم الزخرفة سوى الشئ اليسير ، إنه مازال قائماً وغير مسكون وفي حالة إنشائية يرثى له بحيث أضحى ترميمه من الضرورة القصوى بمكان وإلا تداعت أركانه وآل إلى الخراب أسوة بغيره.

ومن المعروف أيضا أن القلعة لم تصبح مقراً لإقامة الحاكم إلا إبان العهد القرمانلي لأنها كانت قبلئذ أكواماً من الأنقاض نتيجة للدمار الذي لحق بها وللإهمال الذي شهدته لحقب طويلة .


وفي وثيقة إيطالية من أرشيف مدرسة الفنون والصنائع الإسلامية وردت إشارة إلى إقامة الوالي إبان العهد العثماني "الثاني بكل احتمال" كان في عمارة ما انفكت أرضها حتى الآن من أملاك المؤسسة الخيرية المذكورة تطل واجهتها الشرقية على شارع أول سبتمبر وتطل واجهتها الجنوبية على شارع الكويت .
ومن جملة العمائر التي أنشئت بشارع العزيزية " شارع التحدي حالياً " في مطلع القرن المنصرم كمقر لإقامة الوالي كان قصر العزيزية المؤلف من طابقين والخالي من أية زخرفة تذكر وبالعمارة نفسها أقام الحكام الإيطاليون إلى أن أقيم المبنى الذي حل محلها في وقت لاحق وهو مبنى بديع من دورين يحمل زينات وملامح المعمار الإيطالي وتنم واجهته على فخامة طرازه . وبعد فترة غير طويلة أضحت هذه العمارة بدورها لا تفي في رأي أحد المعلقين حتى بحاجة متصرف ناحية بسبب قلة الحجرات والغرف ولتجرد جوفها من معالم الزخرفة ومن الأثاث الملائم.

ومن الحري بالذكر أن الإيطاليين استقدموا من روما منذ 1912 فريقاً من مهندسي وفني وزارة الأشغال العمومية لأجل القيام بدراسة أوضاع طرابلس وتقديم تقاريرهم ودراستهم ومقترحاتهم .
وسرعان ما باشر سلاح المهندسين وبعض مقاولي القطاع الخاص الأعمال ، كما أتخدت الإجراءات اللازمة لوضع مخطط لمنطقة باب البحر فهدمت وأزيحت المباني القديمة التي كانت تحجب قوس " مرقس أوريليوس " بغية إبراز هذا المعلم الروماني الوحيد الذي تحتضنه المدينة (**) .
لقد بذلت في الواقع جهود جبارة في سبيل إعداد طرابلس لإيواء المهاجرين أو المهجّرين المستعمرين الإيطاليين فمن جملة العمائر التي شادوها خارج أسوار المدينة القديمة معهد أومبيرتو دي صافويا الذي أصبح يعرف – منذ أكتوبر – بمعهد جميلة الأزمرلي والذي كان تابعاً لمؤسسة اخوان المدارس المسيحية " لاسال ".

تبرع بوضع تصميم هذه العمارة مهندس يدعى اوريستي فروغوني كان من خريجي إحدى مدارس المؤسسة المذكورة في مدينة ماسا ، وقامت الشركة الإيطالية للإنشاءات والأشغال العامة بتنفيذ الأعمال في مدينة قياسية حقاً إذ جرى الاحتفال بوضع حجر الأساس يوم 7/1/1929 في عهد خلفه الجنرال بيترو باضوليو علماً بأن مساحة الأرض التي أقيمت عليها تبلغ 5835 متراً مربعاً .

إن هذه العمارة تشكل نموذجاً فريداً في روعته لما بذل في تصورها وإنجازها من عناية ولما روعيت في تفصيلاتها من دقة شديدة . إنها من طابقين إذ أحدث بها قسم داخلي للقادمين من خارج الحاضرة .
كان إظهار هذا المشروع إلى حيز الوجود بتشجيع من الحكومة التي أسهمت في تكاليف بنائه بمبلغ 350 ألف ليرة ، أي مايعادل ثلث التكلفة الإجمالية وذلك فضلاً عن تحملها نفقات التأثيث.
يتسم مظهر هذا المبنى بالعظمة والبهاء ويتميز بواجهته الجميلة المتناسقة الأجزاء والبالغ طولها 56 متراً ويتميز أيضاً بطابعه المعماري المتناغم مع البيئة المحلية التي تحتضنه مع توفر مايلزم من إضاءة وتهوية وشروط صحية أخرى وألحق بهذا الجزء المطل على شارع الأفغاني جناحان طول كل منهما 45 متراً. تتسع فصول هذا المعهد لثلاث مئة تلميذ تقريباً ويتسع قسمه الداخلي لإيواء نحو أربعين تلميذاً.
تتسع فصول هذا المعهد لثلاث مئة تقريباً ويتسع قسمه الداخلي لإيواء نحو أربعين تلميذاً.
يقع المدخل الرئيسي للمعهد بشارع الأفغاني وبعد تجاوزه يجد المرء على يمينه مكتب المدير وعلى شماله كنيسة صغيرة بسيطة الزخارف تتسع لحوالي 300 مصل .
وبعد ردهة المدخل ينفتح أمام المرء ممر طولي يستمر يميناً وشمالاً إلى عمارتي الجناحين المفضيين إلى فنائين. وفي منتصف الممر الطولي هذا تقوم ستارة زجاجية عريضة تسمح بالاستمتاع بمنظر روض بديع به حوضان متماثلان تطوقهما شتى أنواع نباتات الزينة . إن للمعهد مسرحاً غاية في البهاء به أكثر من 400 مقعد.

وعلى الممر نفسه تفتح أبواب قاعات الطعام التي جاءت فسيحة ومؤثثة بلا تقتير ولا تبذير ولكن بذوق سليم ، ويلي ذلك المطبخ الذي تم توضيبه على نحو عصري بالمتطلبات الصحية وتحت ذلك يقع القبو الذي يضم مخازن شتى للمواد الغذائية والمشروبات مع عدد من الثلاجات لحفظ المواد القابلة للتلف .
وإذ يطلع المرء من هذا القبو إلى الطابق الأرضي يواصل سلوك الممر المشار إليه آنفاً الذي ينتهي به إلى الفناء الخاص بالمدرسين حيث غرست بعض الأشجار المثمرة وأفرد جزء منه لزراعة الخضراوات وجزء آخر لتربية بعض الدواجن وجزء ثالث لممارسة لعبة الكرات اليدوية " bocce ". (*)
إن جداراً يفصل هذا الفناء عن الساحة الكبرى التي يقضي التلاميذ في رحابها فترات الاستراحة وتجري فيها دروس التربية البدنية وتقام فيها مباريات كرة القدم والطائرة وكرة السلة ومختلف المسابقات والألعاب الأخرى . وطوال ممر الجناح الأيمن – ابتداء من ردهة المدخل الرئيسي - تقع فصول الدراسة التي تتميز باتساعها وبتوفر الإضاءة والتهوية الكافيتين وبأثاثها العصري ، وعلى غرارها جاءت قاعات المطالعة الخاصة بتلاميذ القسم الداخلي والتي تستعمل كذلك لتمرينات الموسيقى والإنشاد وللجلسات العادية التي يتسلى فيها التلاميذ ويتجاذبون أطراف الحديث .

وقد جهز المعهد بمتحف صغير ينطوي على عينات من المعادن والنباتات والحيوانات المحنطة وقطع من العملات الأسلحة القديمة . أما السلالم فأنه مريحة ومكسوة بالمرمر وتؤدي غالى السطوح بعد الطابق العلوي الذي يشمل غرف النوم التي تتوفر فيها كافة الشروط الصحية وقد أثثت تأثيثاً جيداً.
والى جانب ذلك هناك حمامات مع صيدلية ومستوصف . ومن أعلى السطوح كان – ولم يعد – ممكناً الاستمتاع بمنظر عام فتان للمدينة والبحر الذي يحفها شرقاً وشمالاً ولواحة المنشية الفواحة الكثيفة التي كانت – ولم تعد – تحيط بها غرباً وجنوباً إذ أزيل السواد الأعظم من نخيلها وحلت محله دور ودارات وغيرها من العمارات .
وعلى الرغم من انشغال السلطات العسكرية بالعمليات الحربية وبمطاردة المجاهدين وبمقاتلتهم سعياً وراء توسيع رقعة الاحتلال ، وفي خضم الجهود الرامية إلى تنفيذ المخطط العام لمدينة جديدة في ظل الاستعمار الغاشم قامت الجهات المختصة بنزع ملكية عدد هائل من بساتين المنشية بما في ذلك مقبرة سيدي نصر التي أصبح جزءاً منها ضمن الجانب الغربي من المساحة التي خصصت لإقامة قصر جديد ينطوي على ديوان الوالي وأجنحة إقامة أسرته وضيوفه(*). لقد بدأ تنفيذ الأعمال في أواخر عهد الوالي جوسيبي فولبي ، " 1921 –1925" على يد شركة إيطال - كيني للمقاولات / ميلانو التي أنجزته سنة 1931 ، وكان ذلك قبل نهاية فترة حكم الجنرال بييترو باضوليو " 1929-1933" التي لم ينتقل إليه فقدر لخلفه الفريق طيار ايطاليو بالبو " 1934-1940" أن يستمتع بالإقامة في رحابه ، إن هذا الصرح الذي جاء في الواقع تحفة معمارية فريدة في طرازها يتألف من كتل جميلة الملامح تمتزج فيها عناصر الفن الشرقي بعناصر الفن الغربي وتجسد محاكاة للقديم وتلاؤماً مع الحديث ويتجلى فيه تناسب الأجزاء مع الكل تناسباً منطقياً غاية في الانسجام .

لعله من المفيد إيراد أن المعماري الذي وضع هذا التصميم كانت نشأته بشمال إيطاليا ولكن قيض له أن يقيم فترات طويلة بتونس والجزائر وطرابلس ، فوقف بحكم ذلك على طباع هذه الأقطار وميزاتها . وإذ تحرر من كل استلهام اخرق صاغٍ لهذا الصرح تصوراً معمارياً متوسطياً أستطاع أن يسطنبته من أغوار القرون الوسيطة العربية وأن يسبغ عليه طابع عصرنا الحاضر لاسيما باتخاذه العناصر الثلاثة التالية :
1- القباب التي من شأنها أن تزيد من حجم الفضاء الجوفي.
2- الشرفات التي جاءت عقودها قصيرة الأوتار ومرتفعة المركز بحيث تحجب أشعة الشمس وتحمي من لسعاتها.
3- منظر الموقع العام الذي يتميز بهيمنة الشمس على البحر واليابسة وذلك في تناغم مع النسمات الطفيفة التي تهب من الواحة ذات النخيل الكثيف ، وقد بقى هذا الفناء وفياً لهذا اللون من المعمار ولما جادت به قريحته من خلق وإبداع .
لقد تناول الناقد الفني جينو داميريني هذا الإنجاز بالدرس ونشرت دراستها في كتاب عنوانه"قصر الوالي في طرابلس" من إصدار الناشرين الثلاثة " تريفيس – تريكاني – تومينيلي " معاً إلا أن سنة الإصدار لم يرد لها ذكر فلنفسح له مجال الحديث إذ يقول :
إن العمارة التي أبدعتها عبقرية المهندس مانتيغاتزا يمكن رؤية ظاهر كتلتها أن تولد للوهلة الأولى الانطباع بكونها تجديدا أسلوبيا ينم عن لطف واهتمام ويتسم بطابع موريسكي محلي ، إلا أن هذا الإحساس المعقول يتضح على اثر التمعن في القصر بمجيد من الانتباه وعندئذ تبدو روح التجديد مستقلة استقلالا أكثر حداثة إذ يتجلى فيها شئ من الحنين إلى عمائر البندقية ومن شأن ذلك أن يعود بالمرء إلى جزيرة كريت والى بلاد المشرق إبان مطلع القرن الخامس عشر ، بل يقوده مباشرة إلى عمارة " فندق الأتراك في البندقية وكذلك إلى بعض ماتنطوي عليه كنيسة القديس مرقس من صيغ معمارية وفيما يواصل المرء استطلاعه يبرز له جوف القصر شيئا فشيئا الابتعاد عن النموذج المألوف ويجنح به إلى التقييم الشخصي من خلال توسع أنيق ولكنه مهيب في الخطوط والكتل التي تحتل مواقعها فيها – بتوازن تلقائي – جميع التقسيمات الفرعية المتمثلة في حجرات الصرح وغرفاته ومرافقه الخدمية وهذا وأن المسقط الأفقي يمكن أن يساعد على فهم هيكلية هذه العمارة الفريدة التي تتكون من طابقين احدهما علوي تهيمن عليه خمس قباب وأخر سفلى يرتفع مستواه قليلاً فوق سطح الأرض وعبر الرواق المعمد المواجه للمدينة يصل المر من الردهة مباشرة إلى الصحن الفسيح الذي يشكل عنصراً ضرورياً في فن البناء الليبي و الذي أفلح مانتيغاتزا في استغلالها إلى ما يشكل قمة العمارة إلا وهو القبة المركزية.

وتحت هذه القبة – في توازٍ – ستارة نصف كروية شبكية معدنية ترصع عيونها فصوص من الزجاج البراق المزخرف علماً بأنها من إنجاز الفنان بييترو كييزا . إن الصحن يفصل قاعات الاستقبال عن جناح الضيافة وعن ديوان الوالي والأمانة الخاصة ومن الحري بالتنويه أن المسقط الأفقي بسيط ولكنه منظم تنظيماً منطقياً . وأسوة بصفوف الأعمدة والشرفات المتراكبة يوحي هذا الصرح – من خلاله بساطته – بفكرة العظمة ، ومن شأن هذه البساطة أن تضفي على غرفه وحجراته شيئاً من الروعة ، حتى لا يغيب عن ذهن الداخل إليه أنه على أعتاب دار إقامة فخمة .

وعندما يكون القصر مفتوح الأبواب يتسنى الاستمتاع بمد البصر صوب كل الجوانب .وفي واقع الأمر قد تم دراسة أجزاء فتحات عديدة على محوري العمارة : أنه لمشهد خلاب يتمثل في الواحة بنخيلها وفي البحر وزرقته وفي خلفية المدينة التي تسيطر عليها القلعة العتيقة مع العلم بان كل ذلك يتأتى من الطابق السفلي .
يتم الوصول إلى الطابق العلوي عبر سلم خشبي لا صغير ولا كبير يتلاءم تماماً مع الفكرة المميزة لسائر أجزاء العمارة ويشتمل هذا الطابق على المأوى الخاص الذي صمم بطبيعة الحال خارج نطاق قواعد الطراز الساحقة إذ جاء رحيباً رحابة كافية وجاء توضيبه بصورة تسمح بأن تجري فيه الحياة الخاصة لسكانه في كل الأحوال باستقلالية تامة إن هذا الطابق متصل مباشرة بالقبو الذي ينطوي على المطابخ والمرافق الخدمية الاخرى التي توفر كل وسائل الحياة الحديثة التي من شأنها أن تفي بحاجات دار عديدة السكان .
ولضمان أن تكون الحياة الحميمة لساكنه مستقلة بشكل مناسب عن حياته متصلة بعمله فإن المدخل الرسمي للقصر وضع على الواجهة الرئيسية المقابلة لوسط المدينة ووضع المدخل الخصوصي على الجانب الأيسر ، بيد أن الدخول إلى القبو يتم عبر سرداب طويل يكون النزول إليه من طريق فرعية.
أما الطابق الأسفل المخصص للنشاط الرسمي فينطوي على قاعات تمثيل فخمة وحجرات للجلوس وجناح لأجل الضيوف وديوان الوالي ومكاتب أمينه الخاص وضباط " اليوران " يتوسط هذا الطابق صحن مشرقي الطابع يحيط به رواق أعمدته من المرمر " بوتيتشينو " وبلاطه مزدان بحواف من المرمر ذاته وهناك مساحات مكسوة بمرمر اصفر ضارب إلى السمرة وبزليج خزفي ، يتم الدخول إلى هذا الصحن عبر ردهة معمدة يتكون أعمدتها " فيرونا " الأصفر اللون ويتكون بلاطها من الفسيفساء البندقية النمط . ويفصل بين الصحن وردهة المدخل حواجز مصنوعة بتفنن من الزجاج والبلور والحديد المطروق ، وتتوسط الصحن نافورة بديعة صنعت من حجر العزيزية تعيد ملامحها إلى الأذهان نوعاً من نافورة كاتدرائية – مونرئلي في بيليرمو بصقلية – هذا وأن زخارف مختلفة المحلات قد أنجزت بنقوش جصية وأنواع المرمر وجاءت ملامحها بسيطة أنيقة ، وصنعت الأبواب من خشب الجوز وجاءت الأرضيات من مرمر مختلف الأنواع عليه فرشة " باركيه " من خشب الجوز والبلوط ووضبت قطعها بتفنن عل أشكال مختلفة.

وعلى واجهة الطابق العلوي دكة على هيئة " حديقة شتوية " يحيط بها حاجز زجاجي في إطار معدني وتزدان هذه الدكة برواق له أعمدة من مرمر " فيرونا " الأصفر اللون .
وعلى الجانب الشرقي المواجه للبحر يقع جناح السكني وينطوي على غرفة واسعة لتغيير وحفظ الثياب وغرفة النوم التي تتاخمها بعض المرافق من جملتها مصعد كهربائي خصوصي لاستعمال رب الدار . وعلى الجانب الغربي يقع جناح أفراد الأسرة وهو عبارة عن شقة هائلة تحتوي على غرف النوم شتى وغرف لتغيير وحفظ الثياب وحمامات وبعض المرافق الخدمية الاخرى أما الركن الجنوبي الغربي فقد اتخذت منه غرف كبيرة للمعيشة تجاورها قاعة الطعام والمكتبة وغرفة الجلوس وغير ذلك .
إن ممرات واسعة تربط بين شتى الغرف كما تربط بين المرافق الواقعة بالطابق نفسه حيث يوجد كذلك المرفق الخدمي الواقع بين المطبخ وقاعة الطعام والذي ينتهي عنده الممر بمصعد ثاني للأشخاص ومصعد ثالث للأشياء.
لقد جرى تنفيذ زخارف هذا الطابق أيضا بالنقوش الجصية وضروب المرمر وفرشت أرضية بعضها بالمرمر وبعضها الأخر بخشب الجوز والبلوط وإضافة إلى الشرفات المطلة على الواجهة الرئيسية إن الجوانب الثلاثة الاخرى من الطابق العلوي زودت بشرفات فسيحة تطل على انقسام المنتزه الذي يحيط بالقصر .

ويستمد الصحن الضوء نهاراً عبر الحواجز الزجاجية والستارة الهائلة السالف وصفها أما في الليل فتتم الإضاءة من خلال الستارة التي تخفي وراءها أربعة مصابيح فنية مصنوعة من الحديد المطروق ومثبتة في الزوايا الأربعة المعقودة تحت الرواق المعمد.
وان الزخارف الأخرى وقطع الأثاث وتنجيدها وتنجيد الحوائط وغير ذلك كان محل دراسة وعناية وجرى تنفيذها بمهارة وان كان ذلك قد استلهم بحس فني يعطي الانطباع العام الذي ينبثق عن نظرة شمولية بقاعات هذا القصر الجديد وينمو عن البساطة والأناقة والمهابة .
ولعله من الجدير بالذكر أن الطراز الذي اختير لإنشاء هذا الصرح على غراره أنما هو طراز البندقية الشائع في القرن الثامن عشر الذي أعار نفسه بصورة بديعة رائعة من حيث ملائمته مقتضيات التنوع في الأشكال والألوان .

وأخيرا نتطرق إلى الحديث عن المنتزه الذي يحتضن هذا القصر والذي يشكل عملاً جديراً بالإعجاب والاكبار اذ تم تصوره بحس فني مرهف وبأسلوب تقني أصيل على الإطلاق لأنه جاء متحلياً بسمات خاصة تميزه عن المنتزهات المماثلة الاخرى سواء من حيث تنوع التصاميم أو تباين الحدائق التي تكونه وتندمج وتنصهر معا في صورة متناسقة تتناغم تماما مع عظمة العمارة التي ترتمي في أحضانها.
لدى تكوين هذه الحديقة روعيت مساحات مرتفعة بطبيعتها وتركت كما هي دونما تغيير كما تركت المناسيب الأصلية أي المستويات الطبيعية لشتى المواقع وجرى الربط بينها بحلول مناسبة مبتكرة على هيئة أدراج ومسارب منحدرة بحيث نتج عن ذلك مركب رشيق لا ينطوي على فروق فجائية بين المناسيب.

وقد تم تطبيق منهج أخر تمثل في تنويع أشكال المناطق والأركان التي يتألف هذا المنتزه البهيج منها فخصص الجانب الغربي للبستان الغربي أي الأوروبي و اختير الوسط للحديقة الايطالية بمنسوب مرتفع وانشأ الروض العربي على الجانب الشرقي وجاء غنياً بالنافورات وتنتصب فيه خميلة زاهية تستند على تشكيلة من الدعائم المربعة البيضاء وتزدان بكسوة بسيطة من الزليج الخزفي .

وان الموقع الخلاب مع انه جاء خلوا من ضروب التصنع والتكلف الزخرفي بل اشتمل على بيئة بهيجة حيث وضبت النباتات في مواضعها وجرى توزيعها بدراية وخبرة ومهارة فكونت كتلة بهية خضراء اصبغ عليها فن البستنة لمساته السحرية اكسبها رؤية طبيعية ومعمارية عجيبة .

وقد زود المنتزه البديع بتشكيلة كاملة من مستلزمات الري كالخزانات والمضخات والحفارات والمرشات والأنابيب والصنابير وأنشئت به شبكة صرف وشبكة إضاءة كهربائية تم تصميمها وتنفيذها بإتقان وفق القواعد التقنية وبذوق فني من الروعة بمكان ، ومما يستحق الإشارة إليه بوجه خاص السياج الحديدي المنصوب على طول صور الحديقة انه من تصميم معماري طرابلسي هو المهندس اليهودي " اومبيرتو دي سينيي " الذي أنجز عملا جاء في الحقيقة متناسقاً مع الكتلة المركزية للقصر ولائقاً بها " انتهى كلام داييري " إلا أن هذا السياج قد أزيل – من نحو ثلاث سنوات – بحيث أصبح منتزه القصر جزءا من كيان المدينة ومرفقاً عاماً في متناول المواطنين كافة .

في الختام لابد من إيضاح أن هذا القصر ظل المقر الرئيسي لـ " بالبو " وخلفائه الثلاثة غراتسياني و باستيكو و نازي وبعد هزيمة ايطاليا وانتهاء حكمها في البلاد وحلول الإدارة العسكرية محلها فقد استعملت الأخيرة هذا القصر كمجمع للمحاكم وكانت تفتح أبوابه نهارا للجمهور للتجوال في أركان منتزهه وكان تقييم فيه الجالية الايطالية الحفلات وسواها ، كما اتخذ منه بعدئذ مقر لإدارة المباحث الجنائية وقد استعمل فيما بعد - للعديد من الأغراض وفي مختلف الحقب ، حتى صار وحتى الآن مقر المكتبة القومية المركزية ، أحد معالم طرابلس الثقافية.

(*) محاضرة ألقاها الكاتب على طلبة وطالبات قسم العمارة بكلية الهندسة – جامعة الفاتح - طرابلس
(*) وهذا بطبيعة الحال ليس من اجل الليبيين الذين يريدون إفناءهم للاستحواذ على بلادهم وإنما من أجل أهدافهم ومخططاتهم الاستيطانية التي كانت شعارها دائماً "الغاية تبرر الوسيلة".
(***) ومنها جاء في اللهجة العامية الليبية كلمة "بطش" وقد كان لعبة شعبية محببة وشائعة بين الأطفال .
(****) ونزع الملكية عقاب كانت تتبعه سلطات الاحتلال الايطالي مع المجاهدين أو حتى من يشتم منه أنه متعاون معهم.

أنماط البيوت التقليدية في ليبيا

المسكن الطرابلسي التقليدي المنزل ذو الفناء " الحوش " جمال الهمالي اللافي مقدمة / يعتبر(...