الجمعة، فبراير 13، 2009

من تاريخ نالوت




أ. سعيد علي حامد*


تقع مدينة نالوت إلى الجنوب الغربي من مدينة طرابلس على بعد 270 كم تقريباً ،على طريق طرابلس العزيزية نالوت غدامس ، وهي تقع في منتصف طريق طرابلس غدامس 600 كم تقريباً.
شيدت مدينة نالوت القديمة على قمة جبل ضمن سلسلة جبال نفوسة وترتفع عن مستوى سطح البحر نحو 640 متراً. وتشرف على الطريق الذي يشق الجبل ويربط بين طرابلس وغدامس.
في ظل غياب المصادر التاريخية القديمة التي تتحدث عن نالوت يمكن أن نربط تاريخ منطقة نالوت بتاريخ أقليم المدن الثلاث وخاصة في العهدين الفينيقي والروماني . إذ أعطاها موقعها المميز الذي يتوسط طريق تجارة القوافل الرابط بين طرابلس وغدامس وغات ثم مناطق ما وراء الصحراء الكبرى في أفريقيا أهمية كبيرة فهي استراحة لتلك القوافل خاصة مع توفر مياه العيون في المنطقة مثل عين تاله وعين تغليس وغيرهما .
بعد خضوع منطقة شمال إفريقية للحكم الروماني المباشر بعد سنة 46 ق.م. أصبحت هذه المنطقة تعرف باسم أفريقيا الجديدة Africa (( (( nova وعين المؤرخ الروماني سالوست Sallustius)) أول حاكم روماني عليها. وبذلك خضعت منطقة نالوت للهيمنة الرومانية ، ولعل الرومان اهتموا بالمنطقة وحرصوا على السيطرة عليها وإرساء دعائم الاستقرار بها حرصاً منهم على تأمين طريق القوافل الذي يمر بالمنطقة . ومع ذلك فانه ليس من المستبعد أن تكون المنطقة أحد ميادين الثورة التي قادها الزعيم الليبي تاكفريناس الذي قاد ثورة شملت معظم الشمال الإفريقي ضد الرومان وقام بحرب عصابات ضد الاحتلال الروماني ودامت ثورته من سنة 17 م إلى سنة 24 م.
لم تشيد أي استحكامات عسكرية في دواخل إقليم المدن الثلاث في بداية الاحتلال الروماني وكانت الفرقة الاوغسطية الثالثة الرومانية والتي كانت تعسكر بالقرب من مدن طرابلس الثلاث ( لبدة – أويا طرابلس – صبراته ) تتحرك لقمع أي ثورة ضد السلطة الرومانية . إلا أن هذا النظام الدفاعي لم يعد كافياً وقادراً على القضاء على الحركات الثورية ضد الرومان في المنطقة نظراً لاتساعها وصعوبة مسالكها ، ولفرض مزيد من السيطرة وتكريس الاحتلال تم تغير النظام الدفاعي بالمنطقة في عهد الإمبراطور سبتميوس سويروس فأسس نظاماً دفاعياً ثابتاً وعرف هذا النظام الدفاعي باسم (Limes Tripoiltanus ) أي التخوم الطرابلسية ويمكن تلخيصه على النحو التالي :-
1ـ الخط الدفاعي الأول : ويقع في أقصى جنوب إقليم المدن الثلاث ، ويتكون من ثلاثة حصون رئيسة ضخمة وهي :- - حصن أبي نجيم شيد في عهد الإمبراطور سبتميوس سويروس سنة 201م.
- حصن غدامس وشيد في عهد الإمبراطور كراكلا ( 211م – 217م ) .
- حصن القريات الغربية ويرجع إلى عهد الإمبراطور اسكندر سويروس ( 222م – 235م ).
2ـ الخط الدفاعي الثاني :- يقع إلى الشمال من الخط الدفاعي السابق ، ويتكون من مجموعة من المزارع المحصنة في وادي سوف الجين وزمزم وكان يرابط بها جنود ليبيون ممن سرحوا من الفرقة الاوغسطية الثالثة الرومانية وكانت تقدم لهم الأراضي وبعض الماشية ويعفون من الضرائب لفترة من الزمن نظير قيامهم بصد غارات القبائل المحلية على إقليم المدن الثلاث .
3ـ الخط الدفاعي الثالث :- وهو عبارة عن عدة طرق أنشئت لأغراض عسكرية تربط بين المدن والحصون والمزارع المحصنة. أنشئت بعض الحصون العسكرية الصغيرة بعد سنة 238م . وعرفت باسم سنتريون (Centurion) أي حصون المئة . وكان يرابط بكل منها حامية رومانية مكونة من مئة من الجنود . وفي فترة تالية قسمت مناطق التخوم الطرابلسية إلى مناطق تدافع عن نفسها وتخضع كل منها إلى قائد محلي يسمى ضابط الحدود . ولعل هذا النظام طبق على منطقة نالوت فعسكرت بها حامية رومانية لأهميتها الإستراتيجة
نالوت في العهد العربي الإسلامي :-
تصمت المصادر التاريخية العربية التي اعتنت بفتوح البلدان عن ذكر مدينة نالوت فلم تمدنا بأي معلومات عنها ، كما أن الجغرافيين والرحالة العرب القدامى والذين عنوا بوصف جبل نفوسة لم يتطرقوا في كتاباتهم إليها . فابن حوقل صاحب كتاب صورة الأرض والذي ألفه في القرن الرابع الهجري وصف جبل نفوسة وبعض مدنه ولم يشر إل
ى نالوت . فيذكر أنه " جبل عال منيف ... وفيه منبران لمدينتين تسمى أحدهما شروس في وسط الجبل وفيها مياه جارية وكروم وأعناب طيبة وتين غزير ، وأكثر زروعهم الشعير وإياه يأكلون ، وإذا خبز كان أطيب طعماً من خبز الحنطة ، ولشعيرهم لذة ليست في خبز من أخباز الأرض ... وبالجبل مدينة ثانية تعرف بجادو من ناحية نفزاوة وفيها منبر وجامع " (1) .
أما البكري فقد وصف جبل نفوسه في كتابه المسالك والممالك
في النصف الثاني من القرن الخامس الهجري ، وذكر أن المسافة من طرابلس إليه مسيرة ثلاثة أيام وهو على ستة أيام من القيروان ، ويذكر أن طوله من الشرق إلى الغرب ستة أيام ووصف مدينة جادو بأنها مدينة كبيرة ولها أسواق . ويذكر بأن بوسط الجبل " النخيل والزيتون الكثير والفواكه " (2) .
وصف الشماخي ( ت. 928هـ . 1522م. ) في كتابه السير نالوت بقوله " ولالت موضع الأشياخ والعلم " (3) وقد أورد فيه بعضأً من علمائها.
كانت نالوت في العهد العثماني تشكل " قضاء من الدرجة الثانية
تابعاً لسنجقية الجبل . وقد احتفظت الإدارة الإيطالية بتبعية هذه المتصرفية وأنشأت ناحيتين داخليتين ) كاباو والحرابة )" (4) .
تمكن الإيطاليون في أكتوبر سنة 1911م من احتلال المناطق الساحلية من ليبيا ولم يتمكنوا من احتلال نالوت إلاّ في 12/4/1911م . وجعلوها قاعدة لزحفهم نحو مدينة غدامس " وكانت نالوت من المراكز الهامة للثورة التي اندلعت في الدواخل في أواخر 1914 وعبثاً حاول الإيطاليون استعادة الوضع والسيطرة على نالوت وإنقاذ حاميتهم بها ، إذ كانت جميع هذه المحاولات تبوء بالفشل ، نتيجة المقاومة العنيفة التي اشتعلت في المنطقة ، وقد تعرضت إحدى قوافل النجدة الإيطالية في أواخر نوفمبر 1914 إلى الإبادة التامة ، ولم تتمكن نجدة أخرى من الوصول إلى نالوت حيث هوجمت في ( تكوت ) وتكبدت خسائر
فادحة " . (5) وأمام الثورة وشدة المقاومة أصدرت السلطات الإيطالية لحمايتها المحاصرة في نالوت الأوامر بالانسحاب منها في 5/7/1915 ." ونظراً لاستحالة عودة الحامية الى الساحل بسلوك الطرق الداخلية المألوفة ، فقد اضطرت الحامية إلى اللجوء إلى الحدود التونسية عن طريق الذهيبات ولكن لم تسلم من مهاجمة الوطنيين الذين كبدوها خسائر فادحة ، بحيث لم ينج إلا القليل منها الذي استطاع أن يتجاوز الحدود " (6) . تمكن الايطاليون من احتلال نالوت 6/7/1922م. بعد العمليات العسكرية التي قاموا بها لإعادة احتلال منطقة جبل نفوسة . واتخذوا من نالوت قاعدة للزحف نحو غدامس.
أهم المواقع الأثرية بنالوت :-
- المساجد :-
من أهم المساجد القديم بها الجامع العتيق أو القديم ويقع إلى الشمال من قصر نالوت ، ويتميز هذا الجامع بمئذنته البسيطة ، ( أنظر الصورة ) ويمكن اعتبار هذا النوع من المآذن تطوراً للمئذنة السلم في العمارة العربية الإسلامية . يتكون بيت الصلاة من عدة أروقة ، به محراب بسيط عبارة عن تجويف في جدار القبلة ، أما المنبر فكان عبارة عن سلم يتكون من درجتين حجريتين ، وهذا النوع يعد من أقدم المنابر في عمارة المساجد ، وفي غياب النقوش الكتابية والمعلومات التاريخية عن تاريخ تأسيس هذا المسجد فأنه من خلال المكونات المعمارية وطريقة البناء والمقارنة يمكن إرجاع تاريخ إنشائه إلى القرن الثالث الهجري.
وقد هجر هذا المسجد وحفر بالقرب من مدخله ماجل ( ماجن ) لحفظ مياه الأمطار وبني إلى الغرب منه وفي منسوب سقفه جامع جديد في فترة متأخرة.
وهناك مسجد أخر يعرف باسم جامع أولاد يحيى يقع بجوار قصر نالوت في الجهة الجنوبية منه ، يتميز بضيق مدخله وبانخفاض منسوبه عن الطريق وبصغر بيت الصلاة فيه ، بجوار مدخله ماجل حفر في الصخر، وكانت به مئذنة شبيهة بمئذنة الجامع العتيق والتي عبارة عن ثلاثة أعمدة مائلة تلتقي عند قمتها ( أنظر الصورة ) ، والمئذنة الحالية شيدت في أواخر القرن العشرين وفيها محاولة لمحاكاة المئذنة القديمة .
ويوجد بمدينة نالوت جامع أخر وهو جامع العساكرة وهو يعود إلى فترة تاريخية متأخرة عن الجامعين السابقين ، إذ يحتمل أن تاريخ بنائه يعود إلى القرن العاشر الهجري ، وهناك بنالوت جامع شداد وقد ت
م تجديده بالكامل.
- قصر نالوت :-
طبيعة جبل نفوسة في الماضي أعطت سكانه نمطاً معيناً من الحياة ، فقد اعتمدوا على مياه الأمطار مما جعلهم يتنقلون من واد إلى أخر طلب اً للمرعى والماء ، كما تميزت المنطقة بوجود الكثير من أبراج المراقبة والحصون والتي يطلق عليها الأهالي اسم القصور ، إذ يوجد في المنطقة الواقعة بين مدينة غريان ومدينة وازن على الحدود التونسية ما يزيد على خمسين قصراً يعود معظمها إلى الفترة العربية الإسلامية المبكرة وهي تختلف في أحجامها من قصر إلى أخر.

وقد استعملت هذه كحصون لصد الغارات كما استعملها الأهالي لتكون أمكنة " أهراء " لتخزين الغلال وزيت الزيتون الذي اشتهرت به المنطقة منذ القدم ، كما استغلت ساحات تلك القصور لتكون أسواقاً كان مبدأ المقايضة هو الغالب فيها. بني قصر نالوت على حافة الجبل الذي يرتفع 640 متراً عن مستوى سطح البحر وهو يسيطر على الطريق الرئيسي الذي يربط بين طرابلس بغدامس ، وموقعه الاستراتيجي ومظهره العام يدل على انه بني لغرض دفاعي ويظهر ذلك من ارتفاع سوره الخارجي وموقع مدخله الذي يطل على السهل مباشرة ، أما داخله فيعطي انطباعاً بأن تشييده كان لغرض إيجاد مخازن لتخزين الغلال ( شعير ، قمح ، تين مجفف ، تمور ) وزيت الزيتون.
يقع مدخل القصر في الجهة الشمالية الشرقية ، يبلغ ارتفاعه حوالي 2.10 متر وعرضه 1.10 متر. ويتميز قصر نالوت بعدم وجود ساحة تتوسطه كما في قصر الحاج ، إذ استغلت الساحة في بناء مجموعة من المخازن ، ويرتفع قصر نالوت إلى 5 أو 6 طوابق شيدت فيها عدد كبير من المخازن يبلغ عددها ما يقرب من 400 مخزن ، ويبلغ ارتفاع المخزن ما بين متر ومتر ونصف المتر وعرضه يختلف من حجرة إلى أخرى ولا يتجاوز عرض أكبرها 2 مترين اثنين . ورغم ارتفاع القصر فان بناءه يتميز بعدم وجود سلم متكام
ل للصعود إلى الحجرات العليا وإنما يصعد إليها عن طريق أوتاد خشبية مثبتة في الجدران يتسلقها من أراد الصعود .
إن طراز قصر نالوت هو طراز محلي وهو ما يعرف بال
عمارة العفوية أو التلقائية والتي تبنى من قبل أناس تمرسوا في أعمال البناء وهي لا تسير حسب مخططات يتم الاعتماد عليها ولا يحاد عنها بل هي قابلة للتغير حسب المتطلبات والظروف.
لم أعثر على تاريخ إنشاء هذا القصر ، إذ لا يوجد نقش تأسيسي ، كما لا يوجد من ذكره من الكتاب والرحالة القدامى ، وهو يعود لفترة أقدم من تاريخ إنشاء قصر الحاج الذي أسسه الحاج عبد الله أبو
جطلة وهو من أهالي القرن السابع الهجري .

ويبدو أن قصر نالوت والقصور المشابهة له هي " أقدم الأصناف من القصور نظراً لتماثل تهيئته مع تهيئة الدور الكهفية ( Troglodytes ) يتكون القصر في هذه الحالة من " الغرف " ذات السقف المقبى المنحوتة في خدود المرتفعات الجبلية والتي تأخذ شكلاً مستطيلاً في تجاورها الواحدة تلو الأخرى ..... ونظراً لغياب المعطى الوثائقي الأكيد فإنه يعسر تحديد تاريخ نشأة هذا الصنف من القصور ".(7)
ويمكن عن طريق إجراء دراسة مقارنة بين قصر نالوت والقصر القديم الذي يقع على بعد 18 كم جنوب شرق مدينة تطاوين في تونس الوصول الى تاريخ تقريبي لتأسيس قصر نالوت ، فمن المعلوم إن القصر القديم بتطاوين يرجع تأسيسه كما يشير نقشان موجودان به : فالنقش الأول يشير الى سنة ( 484 من وفاة الرسول ) " إتمام سنة أربع وثمانين أربع مائة بعد وفاة النبي عليه السلام "
(8) وهو ما يقابل سنة 495 هـ. ويشير النقش الآخر الى سقيفة القصر القديم بأنها بنيت" يوم الجمعة في الله ربيع الآخر سنة خمس وسبعين وأربع مائة بعد موت النبي عليه السلام كثير "(9) وهذا التاريخ يقابل 486 هـ . وعلى ذلك فإن القصور المحلية القديمة التي في تونس وليبيا بمنطقة جبل نفوسة تعود لهذه الفترة أو أقدم بقليل ، وبذلك فإنه من المحتمل أن يكون سكان المنطقة قد استغلوا الحصون القديمة التي تعود في نشأتها إلى القرنين الثالث والرابع الميلاديين ، ثم قاموا بتأسيس القصور التي تستغل للسكن والدفاع في مرحلة متأخرة تعود إلى القرنين العاشر أو الحادي عشر ميلادي.
تعرض قصر نالوت للقصف من قبل الجنود الأتراك بعد سقوط حكم الأسرة القرمانلية 1835 م ، واضطر الأهالي لإخلائه وقد تضرر من جراء ذلك لشدة القصف وضعف مكوناته الإنشائية
، وفي مرحلة تالية قام الأهالي بترميمه في أواسط القرن التاسع عشر ، إلا أنه تعرض لتخريب في بداية القرن العشرين وتداعت بعض أجزائه فيما بعد نتيجة للعوامل الطبيعية نظراً لطبيعة المواد الداخلة في إنشائه وهي الحجارة الصغيرة والجبس والخشب وهي ذات تكوين إنشائي ضعيف لا تقاوم عوامل التعرية والنحت والزمن إضافة إلى عدم القيام بالصيانة الدورية له.
وفي ثمانينيات القرن العشرين قام الأهالي بمساعدة مصلحة الآثار بترميم أغلب الأجزاء المتداعية ثم قامت جمعية أصدقاء البيئة والتراث بنالوت بتنظيفه وببعض أعمال الترميم به .

بيوت المدينة :
بنيت البيوت حول القصر وعلى حافة الجبل ، وتتكون معظمها من طابقين استعملت الحجارة الصغيرة والجبس في البناء واستخدمت أخشاب أشجار الزيتون وجذوع النخيل في التسقيف وكأبواب ونوافذ ، وتتميز البيوت بصغر حجمها وتجاورها ليشد بعضها بعضاً ، كانت مدينة نالوت القديمة تحيط بالقصر وقد بنيت على حافة الجبل ، وتتميز شوارعها بالضيق وقد تعرضت المدينة إلى إزالة أجزاء من معالمها العمرانية أثناء توسعه الطريق الرئيسي الذي يربط طرابلس بنالوت وغدامس ، وهناك مجموعة من البيوت حفرت في الطبقة الصخرية الهشة ( الدواميس ) ، وهي التي تعرف ببيوت الحفر إذ يتم حفر السقيفة وهي عبارة عن دهليز مسقوف طبيعياً تؤدي إلى ساحة محفورة تحت مستوى الأرض وتعلوها كوة كبيرة للإضاءة والتهوية ويتم حفر مجموعة من الحجرات تفتح على ساحة البيت ويبلغ عمق هذه البيوت
من 5 إلى 8 أمتار تحت مستوى سطح الأرض وميزة هذه البيوت أنها دافئة شتاء باردة صيفا . وهذا النوع من البيوت أقدم من البيوت التي بنيت بالحجارة والجبس .

معاصر الزيتون :
توجد بمدينة نالوت القديمة عدة معاصر لعصر الزيتون وهي على الشكل التقليدي الذي يدار بواسطة الحيوانات- الجمل في العادة – ويتم ذلك عن طريق حجرة أسطوانية كبيرة الحجم توضع على حجرة ضخمة ثابتة نحت وسطها ليكون على شكل حوض وتربط الحجرة الأسطوانية عن طريق حبال بالجمل الذي يقوم بالدوران حول الحجرة الثابتة بعد عصب عينيه ويوضع الزيتون في الحوض وعن طريق الدوران يتم جرش الزيتون وعند إتمام ذلك يوضع الزيتون المجروش في ( شوامي ) وهي عبارة عن سلال صغيرة صنعت من سعف النخيل أو نبات الديس وتنقل إلى المكبس وهو عبارة عن جذع نخلة يوضع في أحد طرفيه ثقل عبارة عن حجر كبير وترتكز من منتصفها على حجر أو أي مادة صلبة وتوضع الشوامي وهي معبأة بالزيتون المجروش تحت الثقل وعن طريق الكبس يتم انسياب زيت الزيتون إلى أحواض أو جرار معدة لاستقباله ويستخدم زيت الزيتون في الطهو أو كدواء وكان يستخدم في السابق للإنارة .

حماية وصيانة المعالم الأثرية :
من المعلوم أن أهم أعداء الآثار ، البشر والعوامل الطبيعية ، فالإنسان غير المدرك لقيمة المباني الأثرية والتاريخية يؤدي دوراً تخريبياً لها ، أما العوامل الطبيعية من رياح وعواصف وأمطار......الخ فضررها يتزايد مع مر السنين . ومع بداية القرن العشرين تطورت أعمال حماية وصيانة الآثار ، وأنشئت العديد من المراكز المتخصصة في هذا المجال وأصبحت هناك تخصصات دقيقة في معالجة المواد المختلفة للمباني الأثرية والتاريخية ، فهناك مختصون في معالجة الرطوبة وآخرون في معالجة أمراض الحجارة .....الخ.
وللمحافظة على القصور التاريخية يجب القيام بصيانة دورية لها فمن شأن ذلك إطالة عمر المبنى وتوصى المنظمات الدولية المعنية بصيانة وترميم المواقع الأثرية بالابتعاد عن الإسمنت خاصة الأسود منه في صيانة المواقع لأن ضرره أكثر من نفعه ، ويجب صيانة المباني بنفس المواد التي شيدت بها .
ومن أخطر العوامل الطبيعية الضارة بالمباني الرطوبة فهي تتلف الرسوم والزخارف والمواد خاصة الجص . " إن التحري الدقيق عن مصدر الرطوبة هو ضرورة أساسية للوصول إلى معالجة مرضية ، فالرطوبة كالحمى تماماً هي علامة المرض ويجب على الطبيب أن يشخص أولاً المرض الذي أحدث الحمى لأن الرطوبة تعتبر نتيجة لاحقه لتأثير قوى فيزيائية محددة وغير متوازنة في بناء ما ، نصب أثري أو قطعة منفردة من مادة البناء . ففي حالة الرطوبة يجب أن يؤدي المعماريون والمهندسون ما يشبه مهمة الأطباء فيقوموا بكافة الفحوص الضرورية لتحديد طبيعة المرض ، إذ من الخطر الاعتماد على الإحساس العام كما كان الحال في الماضي بل على العكس من ذلك يجب أن تترجم الظاهرة إلى أرقام بعد أن يتم تجميع دقيق للمعلومات الأساسية" . (8)
يجب الاهتمام بالمعالم المعمارية بإعادة بناء الأجزاء المنهارة منها وصيانة ما يحتاج منها إلى ذلك إلا أنه " يجب الاحتراس من أعمال الإعادة التي يتم فيها تهديم البياض الذي يستعاض عنه بالمواد المضادة للرطوبة ، فمثل هذا العمل سيؤدي إلى عملية تجميل خارجيةوبعد بضع سنين فإن البقع ستظهر على الملاط الجديد وسيتلف كالبياض السابق".(11) إن الكثير من القصور الموجودة في منطقة جبل نفوسة غير مدروسة دراسة علمية وغير مرفوعة هندسياً وهذا مما يصعب مهمة المرممين في إعادة الأجزاء المنهارة ، ويجب أن تتكاثف الجهود بين الجهات المختلفة ذات العلاقة لرفع هذه المعالم الأثرية والتاريخية وتصويرها وتوثيقها توثيقاً علمياً وهذا العمل هو بداية الدراسة العلمية الجادة لهذا الموروث الحضاري .
يمكن استغلال هذه القصور المتناثرة على قمم جبل نفوسة وتحت أقدامه سياحياً وذلك بإعادة توظيفها لتكون أماكن للإيواء ومرافق خدمية مع عدم الإخلال بنسيجها المعماري أو إدخال مفردات معمارية دخيلة عليها أو طمس وتشويه مكوناتها ، وإقامة مهرجانات سياحية خاصة بها .

الحياة الاقتصادية في نالوت :-
تعتمد الحياة الاقتصادية في نالوت على ثلاثة مصادر هي : الزراعة ، والرعي ، والصناعة التقليدية .
1- الزراعة :-
تعتمد المنطقة في نشاطها الزراعي على مياه الأمطار وهي محدودة جداً فالمعدل السنوي لسقوطها 138 مم ، ويرجع سبب ذلك إلى أن الجبال في هذه المنطقة أقل ارتفاعا إضافة إلى أنها " واقعة في ظل الأراضي التونسية بجبالها المرتفعة ومعنى هذا أن الرياح التي تهب عليها من الغرب أو الشمال الغربي تكون غالباً قليلة المطر ".(12)
من أهم المحاصيل الزراعية :-
- الشعير:ـ وهو يعتمد على مياه الأمطار ، فيكون محصوله وفيراً في السنوات المطيرة ، ويقل كثيراً في السنوات التي ينحبس فيها المطر ، ويعد من المواد الغذائية الأساسية بالمنطقة.
- أشجار الزيتون :ـ تعتبر من أهم المزروعات في المنطقة ، ومن المعلوم أن العرب الكنعانيين هم الذين أدخلوا زراعته في شمال إفريقية منذ بداية الألف الأول قبل الميلاد وربما زاد الاهتمام بها في فترة الاحتلال الروماني وأن هذا الاهتمام " لم يكن نتيجة استعمار مفاجئ ، وإنما كان نتيجة سنوات عديدة من الزراعة التدريجية ... وأن مزارع الزيتون ... كان يحتلها بشكل أساسي أفراد من السكان المحليين الذين تأثروا بالطابع الروماني لا مستوطنون مهاجرون ". (13) وقد كانت أشجار الزيتون في منطقة نالوت متناثرة بين شعاب الوديان وعلى سفوح الجبال ، وقد حاول الأهالي الاستفادة من مياه الأمطار بعمل سدود حجرية أو ترابية حول المنطقة المزروعة لحجز اكبر كمية من المياه المنحدرة إليها.
- أشجار التين :ـ وتنمو أشجار التين بالمنطقة وهي تعتمد في ريها على مياه الأمطار ويؤكل التين طازجاً أو يجفف في الشمس ويتم تخزينه وبالمنطقة كميات كبيرة من أشجار التين.
ـ أشجار النخيل :ـ وهي تنمو بالمنطقة وفي السابق كان توجد بها أعداد محدودة ولكن تم الاهتمام بها في الفترات الأخيرة وزادت الكميات المزروعة منها واغلب الأشجار الموجودة كانت في مناطق عيون المياه . وهناك بعض المحاصيل الأخرى كاللوزيات والخضراوات بأنواعها والتي تزرع بسهل الجفارة عند قدم الجبل في تكويت والتي شهدت خلال سبعينيات القرن الماضي حفر العديد من الآبار وإقامة مشاريع زراعية بها .
2- الرعي :-
وهو من الحرف الرئيسية بالمنطقة ومن أهم الحيوانات التي يقوم الأهالي بتربيتها : الأغنام والماعز والإبل وغيرها ، ويستفاد من لحومها وأصوافها وأوبارها .
3- الصناعة التقليدية :-
من أهم الصناعات بالمنطقة الصناعة اليدوية التي تعتمد على المواد الخام المتوفرة محلياً وهي :- ـ صناعة المنسوجات الصوفية : ومن أهمها الحولي النالوتي الذي أشتهر بمتانته وجودته ، وهو من الأزياء الشعبية التي يحرص الليبيون على ارتدائه ، والأغطية الصوفية إذ كانت الأسر في نالوت تنتج احتياجاتها منها ، وتقوم النساء
بالعمل في هذه الصناعة على النول العمودي ( المسدة ) ، وتسد هذه الصناعة في السابق احتياجات الأهالي ويصدر الفائض منها إلى المناطق الأخرى ، وتستفيد الأسر من مردود الإنتاج لتحسين مستوى معيشة أفرادها.

ـ صناعة الفخار :- تعتبر صناعة الفخار من أهم الصناعات التقليدية في منطقة الجبل الغربي ، إذ كان الأهالي يعتمدون على هذه الصناعة في توفير أدواتهم المنزلية وأوعية الحفظ والتخزين . وتعتمد هذه الصناعة على المواد الخام المتوفرة محلياً ، ومع التقدم الاقتصادي الذي شهدته البلاد تراجعت هذه الصناعة كثيراً في الأونة الأخيرة.

أما بالنسبة إلى الموارد الطبيعية بنالوت فهناك العديد من المواد الخام التي لم تستغل حتى الآن ومنها : " الحجر الجيري الدولوميتي ورمل السيلكا والجبس والطينات وحجر الصوان وشواهد معدنات الحديد والمنجنيز ، وهذه الخامات يمكن أن تقوم عليها الصناعات الآتية : الجير – التربة البيضاء ، التربة العادية ، الأعلاف ، الزجاج ، أوراق السنفرة ، الجرافيت ، قوالب صب قطع الغيار ، الصناعات الفخارية ، الآجر الأحمر ، أحجار الزينة ، أحجار المجوهرات شبه الثمينة ". (14)
* باحث ومؤرخ ليبي

الهوامش :-
1. ابن حوقل .صورة الأرض . بيروت :دار مكتبة الحياة ، د.ت.ص.39
2. البكري . المغرب في ذكر بلاد إفريقية والمغرب ، وهو جزء من كتاب المسالك والممالك.ص.9
3. الشماخي .كتاب اليسير – الجزء الخاص بتراجم علماء الغرب إلى نهاية القرن الخامس ه .ص.247
4. هنريكو دي أغسطيني . سكان ليبيا – القسم الخاص بطرابلس الغرب .ص.519
5. خليفة محمد التليسي . معجم معارك الجهاد في ليبيا .ص.479
6. المرجع السابق.ص.479.480
7. عبد الرحمن أيوب . من قصور الجنوب التونسي : القصر القديم .ص.133
8. المرجع السابق.ص.136
9. نفس المرجع والصفحة .
10. جيوفاني مزاري . الرطوبة في المباني التاريخية .ص.5
11. المرجع السابق.ص.35
12. عبد العزيز طريح شرف . جغرافية ليبيا .ص.209
13. جودتشايلد. دراسات ليبية .نقله إلى العربية د.عبد الحفيظ الميار. وأحمد اليازوزي .ص.33
14 . د.علي أحمد المخروف .استثمار وتنمية الموارد الطبيعية بمنطقة نالوت .دراسة نشرت ضمن أعمال المؤتمر الأول لجمعية أصدقاء البيئة والتراث بنالوت. بتاريخ 4 / 5 النوار ( فبراير ) 1427 ميلادية .(1997)

المصادر والمراجع :-
أولاً المصادر:-
1. ابن حوقل .صورة الأرض . بيروت :دار مكتبة الحياة ،( د.ت).
2. البكري . المغرب في ذكر بلاد إفريقية والمغرب ، وهو جزء من كتاب المسالك والممالك.بغداد : مكتبة المثنى ،( د.ت).
3. الشماخي .كتاب اليسير – الجزء الخاص بتراجم علماء الغرب إلى نهاية القرن الخامس ه .تحقيق ودراسة محمد حسن .تونس : كلية العلوم الإنسانية.1995م.
ثانياً المراجع :-
1. جودتشايلد. دراسات ليبية .نقله إلى العربية د.عبد الحفيظ الميار. وأحمد اليازوزي .طرابلس : مركز جهاد الليبيين للدراسات التاريخية .1999
2. جيوفاني مزاري . الرطوبة في المباني التاريخية .ترجمة ناصر عبد الواحد . بغداد : المركز الإقليمي لصيانة الممتلكات الثقافية في الدول العربية.
3. خليفة محمد التليسي معجم معارك الجهاد في ليبيا . بيروت : دار الثقافة .ط. 3، 1973م.
4. سعيد علي حامد . المعالم الإسلامية بالمتحف الإسلامي بطرابلس . طرابلس : منشورات مصلحة الآثار .1977م.
5 .عبد الرحمن أيوب . من قصور الجنوب التونسي : القصر القديم .بحث قدم للمؤتمر الحادي عشر للآثار في الوطن العربي ، نشر في كتاب النقائش العربية في الوطن العربي . تونس : المنظمة العربية للتربية والعلوم والثقافة ،1988.
6. عبد العزيز طريح شرف . جغرافية ليبيا . الإسكندرية : مطبعة المصري .1963.
7. هاينز. دليل أثار طرابلس الغرب . ترجمة عديله مياس . طرابلس : منشورات مصلحة الآثار.
8. هنريكو دي أغسطيني . سكان ليبيا – القسم الخاص بطرابلس الغرب .تونس –ليبيا : الدار العربية للكتاب .ط الثانية .1978.
البحوث والمقالات :-
1. سعيد علي .قصور تاريخية منافعها شتى . مجلة تراث الشعب . مجلة فصلية تصدر عن اللجنة الشعبية للاعلام والثقافة .طرابلس . السنة 11. العدد2. 1991.
2. د.علي أحمد المخروف. استثمار وتنمية الموارد الطبيعية بمنطقة نالوت .دراسة نشرت ضمن أعمال المؤتمر الاول لجمعية أصدقاء البيئة والتراث بنالوت، بتاريخ 4/5 النوار ( فبراير ) 1427 ميلادية .(1997)

الأحد، فبراير 08، 2009


ينظم المركز الثقافي الإيطالي بطرابلس

محاضرة تحت عنوان

السرايا الحمراء.... طرق المحافظة عليها
تلقيها
البروفيسورا: لاورا باراتيني
يوم الثلاثاء الموافق 2009/2/10
على تمام الساعة
8.00 مساء
والدعوة مفتوحة

الجمعة، فبراير 06، 2009

الحرف الفنية وهندسة العمارة .. أفاق التكامل




د. مصطفى محمد المزوغي

تأتي هذه المحاولة كقراءة تستعرض سبل مد جسور التواصل بين الحرفة الفنية وهندسة العمارة من خلال الوقوف على تجارب ، يحفظها لنا التاريخ كمحطات ، جيرة بالتوقف عندها ، لنتدارس فرص توظيفها كخطة عملية وعلمية تتيح للبيئة الحرفية تكاملها الفني في حضور هندسة العمارة كأم للفنون؛ فالعمل على تحقيق أرضية منطقية ( مشتركة) بين الوسط الحرفي و المعماري يفسح المجال لتبلور حلول معمارية ( موضوعية) تحد من كثافة المحاولات الفردية .

عند تأسيس مدرسة الفنون والصنائع الإسلامية في العام 1895ف، كان الهدف منها خلق جيل من الحرفيين في مختلف الصناعات ضمن بيئة تعليمية مهنية تكفل الارتقاء بمستوى الحرفية إلى صفوف التألق الإبداع . كما صاحب هذا الهدف حماس المواطن الطبيعي للبناء ؛ فبعد الإعلام عن تأسيس المدرسة أسهم متبرعون لصالح المشروع ، وهذه التبرعات بدأت تصل تباعاً إلى مجلس ولاية طرابلس حتى من المناطق النائية عن مركز الولاية ؛ فقد وصلت تبرعات من قضاء مصراتة (...) ووصلت تبرعات أخرى من قضاء ترهونة (...) . وهكذا بدأ أهالي البلاد متحمسين لإنشاء مدرسة صناعية لتعليم أبنائهم وتدريبهم على الحرف . أن الوقوف برهة أمام هذا الحماس والتأمل فيه ، يفصح بوضوح عن الرصيد الحضاري الفني الكامن في جنبات المواطن ، وإدراكه أهمية تأسيس مدرسة تقنن الحرفية الموروثة في عمائرنا المحلية وأثاثنا وملابسنا وحليتنا وأوانينا وحتى في عاداتنا .

إن المتتبع للرصيد المعماري الموروث (في ماتبقى) من مدننا القديمة ، لن يجد العناء في فهم ورصد التكامل البيئي المعماري والحرفي الذي يعكس تكاملاً حضارياً استدام بيئياً وثقافياً واقتصادياً ردحاً من الزمن ؛ فالمتأمل للفضاء الرئيسي بالدار الطرابلسية (وسط الحوش) ووسط البيت الغدامسي ، يجد مثالين في متباينتين لمجتمع واحد ، ساهم حسه الحرفي الفني الموروث والمصقول في الاستجابة لكل بيئة في بناء تكامل بديع وتوافق حدود الفراغ المعماري وما يحتويه من معالجات بيئية وتأثيث وتفاصيل .

فالدار الطرابلسية الساحلية التقليدية فضاء ينعم بتوافق مركباته التي تنامت بتأنٍّ عبر الزمن ، مستجيباً لمتطلبات البيئة والإنسان على حد سواء . هذا الفضاء حقق متطلبات الإنسان البيئية والثقافية والاقتصادية ضمن إطار جمالي حضاري موروث ووفق معطيات إنشائية مناسبة ، ساهمت جميعها في نشأة بيئة عمرانية نرقبها اليوم من شرفات الدور الفسيحة والحديثة متحسرين على الحقيقة الفراغية في مدينتنا القديمة ، مدركين في الوقت ذاته غيابها في الضاحية ؛ فزقاق المدينة الضيق المتفرع من الشارع العام يقودنا إلى منفذ محدد ينتهي بباب البيت معلنا حرمة ساكني الدار ، نستأذن أهلها لتستقبلها سقيفة تمنع الخيار للوصول إلى محطة الغرباء الأخيرة في دار الضيافة المربوعة ، أو أن يختبر أهل الدار سقف الفضاء الأزرق المستقطع من سماء الدنيا في فناء تتوسطه كروم وحنة ونخيل ، أحاطت به حوائط تعلن واجهات حقيقية بكل تفاصيلها قلبت إلى الداخل لاعتبارٍ بيئي وثقافي متسعة نوافذها ومشرعة أبوابها تفسح المجال لكل الحرفيين في نجارتها وخزفياتها ونسيجها ومعادنها لتستقر في ثنايا الفضاء وأرضياته ، وتكسية جدرانه بحائطيات مطرزة وبسط ومفارش .

على الجانب الأخر نجد البيت الغدامسي الصحراوي يتمتع بفضاء مركزي جامع تصب فيه كل فراغات البيت بمستوياتها المتعددة .هذا الفراغ ، الذي نجده الأكبر حجماً ، تناسبت مركباته المادية من أرضيته إلى ارتفاع ومساحات جدرانه إلى مساحة سقفه الذي تتوسطه بؤرة لضوء النهار ، كل هذا صنع فضاء معمارياً بصيغة براجماتية رسمت ركيزة النجاح لها سنون لعبة التفنن في صناعة البيئة رافدها الدائم الاَّ نكرر الخطأ بعد المحاولة . الداخل إلى الفراغ من بعد مسيرة في دروب المدينة ، تتناقله إيقاعات ضوئية وتنام إيقاعات الدف الصحراوي ، تفاجئه إزاحات فضائية للدرب الضيق ليعلن حضور مدخل البيت العنوان الأول للحرفية الفنية التي تتوافق فيها الهندسة والخامة ، وتزدان برقائق ملونة تغطي السطح في إيقاع شبكي شاهد على استطاعة أهل البيت إلى سبيل المسجد الحرام.

ينسحب الداخل بخطواته متوازناً إلى مستوى وسط البيت (الفراغ المركزي الجامع) حذراً متكئاً على الحائط ، ليشهد انفجار اللون على السطوح بكل عنفوان ، تتفتت الجدران ويصبح المرء في صندوق للعجائب الحرفية ، وخزانة مليئة بكل الفنون . رسومات زخرفيه بلون أحمر غدامسي تفسح المجال لرفوف غائرة وبارزة لتكون حجرات تسكنها أواني نحاسية لامعة ، سطوح من المرايا الصغيرة ، أقمشة نسجت وعطور وبخور وأشياء أخرى في حافظات مطرزة جمعت كل شيء يضج بالحياة تنقلت بعيداً عن الصحراء ترغمك على أن تبصر لا أن ترى .
من وراء كل هذا ؟
إنه التراكم المعرفي الحرفي المتوارث عبر أجيال من المحاولة والخطأ ، شكلت في الختام رصيداً رصيناً لا ليتم حفظه في المتاحف أو ليستثمر سياحياً ، بل ليكون زاداً معرفياً لا ينضب لجيل اليوم من المعماريين والحرفيين معاً . إنه أيضا امتداد للموروث العربي الإسلامي الذي كان هو الأخر رصيداً جمالياً إنسانياً ارتكز أساساً على رصيده العربي لأهل الجنوب في شبه الجزيرة (2) ، إضافة إلى الزخم الحضاري الإنساني للأراضي التي تم فتحها فجر الإسلام وعلى وجه التحديد الدولة الساسانية والإمبراطورية البيزنطية .

وتجدر الإشارة هنا إلى حقيقة هامة لعبت دوراً رئيسياً في إرساء ركائز الامتداد والوحدة الفنية للفن الإسلامي ألا وهي الخط العربي ، والتي كان لحركة التعريب التي قادها الخليفة عبد الملك بن مروان في القرن الأول الهجري أثرها الكبير نحو خلق ثقافة عربية جديدة ، نج شواهدها متتالية زمنياً عبر آثار العمارة والفنون ابتداء من عصر الدولة الأموية وحتى يومنا الحاضر كما تشير الشواهد إلى أن الطراز الأموي يعتبر أول الطرز التي جسدت وحدة الفن الإسلامي (3) .

إن هذا السرد استهدف تسليط الضوء على حقيقتين أساسيتين : الأولى ، بتصميم العناصر الفنية (المعمارية والحرفية ) التي نجد في تنوع وتباين التكوينات بها وخصائصها الجمالية ، قاسماً مشتركاً تعود جذوره دائما إل بداية محددة . والحقيقة الثانية ، تتعلق بتنفيذ هذه العناصر التي هي الأخرى تتحدد بمواد التنفيذ وخواصها من جهة وتقنية التنفيذ من جهة أخرى .

إن مجالات الحرف الفنية تبدو وثيقة الصلة بهندسة العمارة حتى إن المرء لا يمكنه تجاهلها . وكثيراً ما يلمس المهني الهندسي حيرة المواطن العادي في توزيع الثقة بين المعماري والحرفي . وكم من مرة رجحت كفة الحرفي ! فالحرفي يملك القدرة على بلورة الخيال إلى حقيقة مرئية في حين أن قدرة المعماري لم تتجاوز ترجمة الخيال إلى رسومات ليس إلا مما يضعه في خانة العجز عن إدراك أسرار لعبة البلورة الحقيقية.
في ظل ثلاثية الثقة المفقودة والتوافق الغائب بين المواطنين والحرفي والمعماري تبرز بعنف الفجوة الجمالية .


فكيف يجد كل منهم ملامح هذه الفجوة الجمالية في محيط بيئتنا العمرانية ؟
إن المواطن بات يدفع الثمن الأكثر فداحة ، فهو رهين غربة جمالية تنأى به كل لحظة عن موروث متجانس وهوية حضارية تضع عنوان حضوره المادي على البسيطة ليدنو كل يوم مناخ متخبط يجره فقدان الهوية البطيء . وكم من محيط عمراني يعكس قيم ساكنيه ؟
وتأتي المسؤولية الأولى التي تقع على اتق غياب الحرفي الفني الوطني ليصبح المكان مباحاً للمغامرين ؛ فعمائرنا اليوم شاهد حي على عبث حرفي لمهارات متواضعة تملك بدايات الحرفية ومبادئ جمالية مشوشة وجت بيئة ثقافية عذراء شرعوا في تزويقها بوضع مساحيق الدنيا على وجنتيها حتى صارت مدينة اليوم في ليبيا مسخاً يقنع نفسه كل يوم بأنه الأجمل بالنظر في مرآة مشروخة صنعتها الثقافة الوافدة بالمهارات البائسة ذاتها . والمعماري في ظل هذا العبث حاضر وغائب ؛ فالمئات من خريجي المؤسسات التعليمية العليا من جامعات ومعاهد يساهمون في تعمير بيئتنا بمخططات تعكس محاولات متباينة في الجدية والصدق تصرعها ضغوطات الرصيد المعماري الوافد وسيطرة الحرفية الأجنبية ويقهرها غياب كل من المنهج التدريبي وصناعة البناء وثقة المواطن .

إنه مثلث تفككت أضلاعه فكانت نتائجه عمائر تحمل كل شيء عدا الهوية المنشودة ، حاولت محاكاة العالمية فأخطأت الخطوة وفقدت أثر خطواتها ، وازدادت الضغوطات حتى بات سؤال البناء والتعمير كابوساً بدلاً من أن يكون طموحاً حضارياً . إن بنيات مدننا اليوم امتدت رقعته وطغت دون ملامح ، وسيبقى طويلاً قبل أن يغيب عن أبصارنا ، وما مطالعتنا له كل يوم إلا مسامير أخيرة في نعش هويتنا الجمالية . هذا الانتحار الجمالي البطيئ اقترفه الجميع في حق الجميع .
هل من سبيل لنتقن خطوتنا من جديد ؟
نعم وبكل ثقة . فقط إذا ما وقفنا زمناً نتدارس معطيات قائمة وضوابط منشودة يمكن معها رصف الدرب إلى بيئة عمرانية يتفاعل معها الإنسان جمالياً وحضرياً دون تغرب . وقد لا نملك في هذه القراءة السريعة مناقشة تفاصيل تنفيذية بالقدر الذي يمكن معه التفكير بشكل كتابي في أحد السبل الكفيلة برأب الصدع في بيئتنا الجمالية . إنه وفي مدرسة حرفية كمدرسة الفنون والصنائع الإسلامية فرصة للوقوف والقياس بتمن في وقعها وإدراك الدور الحضاري المناط بها خطوة يشترك في مسؤوليتها كل مواطن ، فهي مدرسة أسسها الشعب لحرفية فنية تنتمي حضارياً إليه .

إن تكثيف برنامج علمي مدروس يشترك في طرحه كافة الشرائح الفنية ذات العلاقة من أساتذة وحرفيين فنيين ومعماريين وفننانين ونقاد ومؤرخين من خلال الحوار ، ليسهم في تطوير مناهج التدريس والتدريب بشكل أساسي وليعمل على توثيق الصلة بين المصمم والمنفذ. كما أن إثراء سبيل التعاون الحرفي والمهني يشكل خطوة في وضع الأساس لبيئة جمالية تسد الفجوة الثقافية .




(2) شيحة ، مصطفى عبد الله الوحدة الجمالية في مدارس الفن الإسلامي الفكر العربي العدد 67/13 يناير 1992،ص ،74.
(3) نفس المصدر ص، 76.

الأربعاء، فبراير 04، 2009

ندوة التّراث العمرانيّ المحلّي المغاربي


تنظّم جمعيّة أحبّاء ذاكرة الأرض بتطاوين بالإشتراك مع المندوبيّة الجهويّة للثّقافة والمحافظة على التّراث بتطاوين ندوة التّراث العمرانيّ المحلّي المغاربيّ وذلك في إطار ملتقى التّراث المحلّي للمغرب العربيّ الذي يلتئم في سياق شهر التراث لهذا العام، وقد حدّد تاريخ النّدوة أيام 1 و 2 و 3 مايو 2009 بتطاوين .
تتناول النّدوة عدّة محاور اجتماعيّة و ثقافيّة و هندسيّة و معماريّة تتعلّق بالبحث في التّراث العمرانيّ بالمنطقة المغاربيّة بشمال إفريقيا.و تهدف إلى تعميق الوعي بالخصائص الثّقافيّة للمنطقة المغاربيّة.
و تتركّز بحوث و محاضرات النّدوة حول المحورين التّاليين:
1- التّأثيرات الإجتماعيّة و الثّقافيّة و دورها في تشكيل التّراث العمرانيّ المغاربيّ.
2- الأنماط المعماريّة و تقنيات البناء في المنطقة المغاربيّة :
* الأنماط المعماريّة التّقليديّة السّائدة قي المنطقة المغاربيّة.
* تأثر الأنماط المعماريّة بالحضارات الوافدة.
* مواد البناء و أساليب تشييد المباني في الأقاليم المغاربيّة ( ساحل / جبل / صحراء).
فعلى كل من يرغب في المشاركة في هذه النّدوة من باحثين ومهندسين وأساتذة ومن المهتمّين بالتراث المحلّي بمختلف أشكاله تسجيل رغبتهم في المشاركة و الإتصال بالجمعية أو بالمندوبيّة الجهويّة للثقافة و المحافظة على التّراث بتطاوين في أجل أقصاه نهاية فبراير 2009. ومدّ لجنة تنظيم الّندوة بموضوع المحاضرة أو الورقة وبملخّص لأهم عناصرها انطلاقا من المحاور المعروضة أعلاه في أجل أقصاه نهاية مارس 2009.
ولتأكيد المشاركة توجّه الجمعيّة استدعاء شخصيّا لكل محاضر بعد ترتيب المواضيع وتنسيقها و موافقتها مع موضوع النّدوة.
ملاحظات: تدور كلّ أشغال النّدوة باللّغة العربيّة .
تقبل المراسلات على أحد العنوانين التاليين :
*** جمعية أحباء ذاكرة الأرض بتطاوين طريق شننّي.تطاوين.3200
*** المندوبيّة الجهويّة للثّقافة و المحافظة على التّراث شارع أحمد التّليلي. بتطاوين.3200
أو على عنوان الإلكتروني الخاص بالنّدوة :nadwatourath@yahoo.fr .

الأربعاء، يناير 28، 2009

الفنون والصانع .. أول مؤسسة تعليمية مهنية في طرابلس





علي الصادق حسنين

لا أبوح سراً إذا قلت نني كلما مررت بهذه المدرسة العريقة أو دخلتها اختلج فؤادي وراودتني ذكريات عزيزة على نفسي لأنها تعيدني إلى زمن الصبا .أجل ، ما برحت تربطني بها وشيجة وجدانية ترتقي إلى ما ينيف عن ستين حولاً مع أنني لم أكن في يوم من الأيام من تلاميذها ، ولكن قدر لي أن ساعات النهار طيلة خمس سنوات قرب خالي ووليِّ أمري رحمه الله الذي كان يشغل وظيفة مشرف بالمدرسة .
تتمتع ليبيا بالعدد الوفير من دور العلم والمعرفة (التقليدية )التي تخرج منها العلماء والفقهاء والأدباء الأجلاء ممن ذاع صيتهم والذين تفاعلت أدوارهم مع مختلف التيارات الفكرية والسياسية وتمكنوا من أداء الدور الإيجابي إسهاماً منهم في بناء جسور التواصل مع نظرائهم في الأقطار العربية . أما بالنسبة إلى دور العلم والمعرفة (العصرية ) ببلادنا فيمكن القول إنها تمثلت في المدارس الابتدائية التي تم تأسيسها في العهد العثماني الثاني بطرابلس وبعض المدن الأخرى ، هذا فضلاً عن العدد المحدود جداً من مدارس ما فوق المرحلة الأساسية التي كانت بطرابلس والمتمثلة في دار المعلمين وأربع مدارس إعدادية كانت اثنتان منها ذواتَي منهج عسكري (الرشدية).
كانت البلاد آنذاك قليلة السكان شحيحة الموارد ، وكان الفقر المدقع ضارباً أطنابه في أرجائها خصوصاً في مدنها ، حيث تفشت ظاهرة تشرد الأحداث الذين كانوا يجوبون الأزقة والشوارع وكانت تغص بهم الأسواق والساحات وقد تردى منهم من تردى في مزالق الموبقات ، الأمر الذي هز ضمائر أولي الهمم وفي مقدمتهم المدعو محمد سامي امسيك الذي عثرت على بصمة ختمه كمدير مكتب الحميدية للصنائع (وهو الاسم الذي أطلق على المدرسة في أول عهدها ) وذلك على وثيقة عثمانية تعود إلى 1901 ف .
طرح هذا الرجل الغيور فكرة استحداث مؤسسة خيرية لإيواء عدد من أولئك الصبية بهدف حمايتهم وتربيتهم وتزويدهم بقسط من المعرفة وتأهيلهم لمزاولة حرفة تغنيهم عن التسول وذل السؤال ، وتغرس في نفوسهم الأمن والأمان وتحيي في أعماقهم الآمال فيصبحوا بعد تخرجهم من صلحاء الرجال . ولم يلبث أن تنادى أهل البر والإحسان إلى بحث الفكرة المطروحة وتدارسها وتدبير أفضل السبل وأنجع الوسائل لتحقيقها . وقد حظي المشروع بمساندة الوالي نامق باشا الذي فرض ضريبة على إنتاج زيت الزيتون لهذا الغرض . ومن جهة أخرى ، تبرعت بلدية الحاضرة برقعة واسعة من الأرض بشارع الحميدية (شارع أول سبتمبر حالياً ) وقد كانت مقبرة قيمة مهجورة يحدها الشارع المذكور شرقاً وشارع ميزران غرباً وزنقة ميزران رقم 2 ( شارع جامع بن ناجي حالياً ) جنوباً وزنقة ميزران رقم 3 (شارع الكويت حالياً ) شمالاً ، غير أن عمارة مقر المدرسة لم تشغل من هذه المساحة إلا جزءاً محدوداً، وقد قسم الباقي إلى قطع صغيرة قابلة للتعمير بيعت في عهد الإدارة الإيطالية .
تسابق الأهالي إلى تقديم التبرعات نقداً وعيناً ،وفي سنة 1899 ف، كانت مباشرة الإنشاء لتشهد 1901 ف ،افتتاح هذه المؤسسة كأول مدرسة مهنية تحتضنها البلاد الليبية قاطبة . والحري بالذكر أن قانونها الأساسي الأول والقوانين التي تلته وحلت محله في عهد الاستعمار الإيطالي نصت جميعها على أنها تقبل بالدرجة الأولى الأيتام من أبناء المسلمين بصرف النظر عن بلدانهم الأصلية .
وما كاد ينتهي العقد الأول من عمر المدرسة حتى حققت إيطاليا أطماعها في ليبيا ، ولما أحكمت قواتها الغازية سيطرتها على مدينة طرابلس وضواحيها صادرت من جملة ما صادرته مبنى مدرسة الفنون والصنائع واتخذت منه مقراً لإدارة سلاح مدفعيتها . في هذه الأثناء خاضت الجيوش المعتدية معارك شارع الشط والهاني وغيرهما ، ومنيت بهزيمة نكراء على أيدي الأهالي الذين استعرت في نفوسهم الحمية ومشاعر الحقد تجاه الغزاة المعتدين الذين لم يألوا جهداً في سبيل الانقضاض على المقاومين وإلقاء القبض عليهم دونما تمييز والزج ببعضهم في ساحة هذه المدرسة التي شهدت اقترافهم لأبشع الجرائم في حق المواطنين .
ولم تكد تمضي سنة واحدة حتى تصالحت الدولة العثمانية المغلوبة على أمرها مع إيطاليا المدفوعة بنشوة الانتصار، غير أن الأهالي رفعوا لواء الجهاد المقدس بعد مغادرة العثمانيين البلاد وواصلوا القتال وصمدوا في وجه الغاصبين نحو عقدين من الزمن مسجلين صفحات مجيدة من البطولة ما انفك يذكرها التاريخ . وتجدر الإشارة هنا إلى أن المدرسة قد توقفت عن أداء رسالتها ما يقرب من ثلاث سنوات ، وعندما حاولت السلطة الإيطالية إعادة فتحها لم تضع لها جهازاً إدارياً محكماً فانتشرت الفوضى وتعذر استقبال العائدين من طلابها إضافة إلى العدد الهائل من الطلبة المستجدين الذين كان سوادهم الأعظم ممن شردتهم أحداث حرب الاحتلال وشتتت شملهم وفرقت بينهم وبين ذويهم.
كان المهندس الإيطالي لويدجي اندرونوني ، والذي عين مفوضاً سنة 1913 ف ، أول مسؤول أُنيطت له مهمة إدارة دفة شؤون مدرسة الفنون والصنائع الإسلامية . وبتاريخ 21 هانيبال (أغسطس) 1913 أصدر هذا المفوض إعلاناً عن فتح أبواب المدرسة مبيناً أن الحرف المزمع تعليمها هي : حياكة الحرير ، الصوف ، القطن ، التفصيل ، الخياطة ، النجارة ، الحدادة ، الأشغال الجلدية ، الميكانيكا، والبناء . كما نص الإعلان عن الجانب النظري الذي اشتمل على تعليم اللغة العربية والإيطالية والقرآن الكريم والحساب والرسم والموسيقى ومبادئ العلوم المدنية .
وقد جاء في الإعلان أن المدرسة تهدف إلى تزويد الطالب بقسط من التربية والثقافة الدينية وإلى تكوينه تكويناً حرفياً وإلى منحه شهادة التأهيل المهني بعد استكمال سبع سنوات دراسية ، وهذا يشير إلى إدراك الإيطاليين أهمية هذه المؤسسة العتيدة بوصفها المدرسة المهنية العصرية الوحيدة في ربوع البلاد ، الأمر الذي كان معه قرار استمرار تشغيلها والمحافظة على مستواها .إلا أن المدرسة قد تدنت أوضاعها بفعل تعاقب أشخاص على إدارة شؤونها والإشراف عليها لم يكونوا في أغلب الأحوال مؤهلين ، بل كانوا دون مستوى المسؤولية المناطة بهم ،وتبعاً لذلك تعرضت المدرسة لانتكاسات وأزمات في مجالات التعليم والتدريب والإدارة.
في عه الوالي جوسيبي فولبي في الفترة من 1920 وحتى 1925 ف ، وضعت خطة إصلاحية كانت تستهدف القضاء على رواسب الفوضى وتحويل المدرسة إلى مؤسسة تعليمية اقتصادية فعالة ووضعها تحث مراقبة إدارة المعارف كما كانت قَبلٌ إبان العهد العثماني . ولكن هذه الخطة باءت بالفشل لأن الوسائل التي اتخذت لتنفيذها لم تكن ملائمة لبلوغ الغاية المنشودة. ولا شك في أن جل اهتمام كان منصباً على انتشال الصناعات التقليدية من هوة التردي والعمل على الأخذ بيدها وإعادتها إلى سالف مجدها ، وذلك بإفساح مجال أرحب لتطويرها من خلال إحياء بذور الفن المحلي وتجدي أدواته ونماذجه الزخرفية . فقد حاول الإيطاليون محاكاة ما صنعه الفرنسيون في سبيل النهوض بالصناعات التقليدية بأقطار المغرب العربي ، حيث كانت تتوارث بعض العائلات مزاولة شتى الحرف وكانت تحرص كتمان أسرار الأساليب والتقنيات اليدوية ضماناً لنماذج الإنتاج واحتكاراً لتسويق مصنوعاتها *.
من أوائل من تولوا إدارة المدرسة المقدم ريكاردو بوريني **، الذي تناول في تقرير من 18 صفحة أوضاع المدرسة في الفترة من صيف 1924 وحتى صيف 1925ف، وكان قد قدمه إلى حكومة الولاية .هذا التقرير يشكل في واقع الأمر وثيقة في غاية الأهمية لأنه يلقي بالضوء على الكثير من الحقائق التي تعود إلى حقبة الحكم العثماني والتي مناص من التسليم بصحتها لاعتقادنا بأن صاحب التقرير ق تسنى له – بحكم وظيفته – الاطلاع على أرشيف المدرسة العائد إلى العهد العثماني وأن يستقي منه مادة المقدمة التاريخية التي استهل بها تقريره والتي جاءت مرآة عاكسة بجلاء واقع هذه المؤسسة الخيرية في تلك الحقبة . ولأهمية الموضوع سأورد فيما يلي فحوى التقرير بإيجاز:
أجل ، يستفاد من المقدمة المشار إليها أعلاه أن المدرسة قد بوشر في إنشائها سنة 1899 ف، وأن افتتاحها كان في 1901 ف، وأن التلميذ كان يقضي – بعد التحاقه – سنته الأولى في الصف الأول ابتدائي ، ثم كان يفسح له المجال لاختيار حرفة يتعلمها مواصلاً في ذات الوقت الدراسة بالصفوف التالية من المرحلة الأساسية حتى الصف الخامس . وإذا اجتاز الامتحانات النهائية بنجاح ، كان عليه البقاء بالمدرسة سنة أخرى لكي يستكمل خلالها تحصيله الحرفي ، ومن بعد ذلك يخلى سبيله ويمنح جائزة نقدية معادلة لنحو 400 ليرة إيطالية أو يزود بتشكيلة من أدوات حرفته مع صرف نصف المبلغ النقدي له . وجاء في التقرير السالف الذكر أن الحقبة ما بين 1916 و1922 ف ، كانت في واقع الأمر فترة تجارب كلفت الخزانة العامة أموالاً طائلة بدون نتيجة تذكر ؛ إذ لم يظهر من بين خريجي المدرسة حرفيون مهرة ، وقد تبين أن هذه الانتكاسة مردها الإفراط في التعليم النظري على حساب التعليم التطبيقي مع مآخذ أخرى تتمثل في أن الطلبة لم تغرس فيهم روح العزم والمثابرة ولم يعودوا على تلذذ العمل المثمر مما جعل الصناع المحليين يعزفون عن تشغيلهم بسبب ضآلة إنتاجهم على الرغم من جودة مصنوعاتهم . كل ذلك أدى إلى هجرة الحرفة والبحث عن لقمة العيش سواء بانخراط في كتائب المجندين المحليين العاملين مع الجيش الإيطالي أو السعي إلى الحصول على عمل أخر كساع أو خادم .
إن هذه النتائج السلبية لم تلبث أن استرعت انتباه السلطات الحكومية التي همت في شهر الصيف (يونيو) 1928 بوضع تصور لإصلاح نظام المدرسة بغية استثمار مواردها الإقتصادية على أفضل وجه ممكن فقد تقرر إقالة المعلمين الحرفيين وتسليم المرافق الإنتاجية إلى الغير على أن يواصل الطلبة تلقي تعليمهم وتدريبهم الحرفي بها ويتلقون تعليمهم النظري العادي بالمدارس العامة ، غير أن هذا التدبير لم يدم طويلاً ، إذ سرعان ما تقرر عدم استغناء عن المعلمين الحرفيين والعهد بالمرافق ذاتها إليهم لقاء دفعهم مبالغ مقطوعة أو لقاء أداء نسبة مئوية من قيمة الإنتاج لخزينة المدرسة سنوياً . وقد شمل تطبيق ذلك كلاَّ من ورشة النجارة وورشة الميكانيكا ومعمل الأحذية وورشة تصليح السيارات ومستودعها ومشغل التفصيل والخياطة والمطبعة التي أصبحت في وقت لاحق ملكا لمديرها ابلينيومادجي وحملت اسمه .
ويتبيَّن من التقرير نفسه أن العقارات العائدة ملكيتها للمدرسة قدرت قيمتها في 30 الصيف (يونيو ) 1924 ف بثلاثة ملايين ليرة كانت من ضمنها رقع من الأرض غير المثمرة تبلغ مساحتها أحد عشر ألف متر مربع تم في وقت لاحق بيعها للتغلب على أزمة مالية انتابت المدرسة . ومن التدابير التي اتخذها المقدم بوريني كساء التلاميذ وتأثيث عنابر النوم وتزويدها بالأسرَّة والفرش وتحسين وجبات الطعام وتنظيم التعليم الأساسي والحرفي وتحسين الأحوال الصحية وإدراج النشاط الرياضي والموسيقى وفرض النظام العسكري على ممارسات التلاميذ الستة والسبعين في رحاب المدرسة . وفي سبيل الرفع من حجم الإيرادات تم إنشاء بعض المباني الاستثمارية وبذلت محاولة لإدخال صناعة (( الطاقية )) ضمن إنتاج المدرسة لوجود سوق رائجة لها ، غير أن هذه المحاولة لم تحرز النجاح المرجو . لقد خلف بوريني في إدارة شؤون المدرسة حتى سنة 1928 خمسة مسؤولين لم يمض أي منهم في هذه الوظيفة سنة كاملة .
في أواخر عهد الوالي اميليو دي بونو ( 1925 - 1929 ) لاحت بعض بوادر الإصلاح ، إذ جرى في سنة 1928 تعيين مهندس صناعي يدعى جوسيبي سيبي كوارطا ، مديراً فنياً للمدرسة وذلك في أعقاب مسابقة عامة أعلن عنها في
إيطاليا وفاز بها على خمسة مشتركين بفضل زاده الكبير من الخبرة والدراية الفنية . وعندما جاء الفريق بييترو باوليو إلى حكم البلاد ( 1925 – 1933 ) وقع اختياره على الحقوقي لنوناردو جوكولي الذي كان يشغل وظيفة مدير إدارة السجل العقاري بطرابلس وعيَّنه مفوضاً حكومياً فوق العادة للمدرسة ذاتها . ولقد تعاون المدير والمفوض معا على إدخال إصلاحات جوهرية على هذه المؤسسة الخيرية التي شهدت إذ ذاك – في رأيي – عصرها الذهبي ولو أنني لم ألمس – لصغر سني – آثار ذلك شخصياً ولكني استندت في حكمي على مارواه لي بعض معاصريهما من طلبة المدرسة أخص بالذكر منهم محمد رمضان سلامة ( رحمه الله ) الذي تتلمذ على يد المهندس سيبي كوارطا في ورشة الميكانيكا وأتقن الصنعة حتى إنه كان في أواخر الحكم الإيطالي الفني العربي للسكك الحديدية بطرابلس .
وبناءً على التكليف الذي تلقاه المفوض جوكولي من الوالي ، فقد عكف على دراسة أوضاع المدرسة وقدم بعدئذ تقريراً وافياً اقترح فيه جملة من الإصلاحات التي سرعان ما حازت على الموافقة ووضعت موضع التنفيذ ولم تلبث أن أعطت ثمارها . ومن أهم الإصلاحات كان إصدار عديد من التشريعات التنظيمية وفي مقدمتها القانون الأساسي . إبان حكم الفريق طيار ايطالوبالبو ( 1934- 1940 ف) استحدث لأول مرة في المدرسة قسم الأشغال الخزفية ، ويجوز القول إن هذه الفترة من عمر المدرسة تميزت بمظاهر البهرجة ولكنها اتسمت أيضاً بتفشي المحسوبية والفساد وفي أثنائها نكبت هذه المؤسسة بتعيين مفوض حكومي اسمه اينريكو دي لنوني . كان هذا الرجل لا يخفي كراهيته للعرب وللتلاميذ الذين تجرأ على حرمانهم من الأسرة التي كانوا ينامون عليها ، قائلاً إنهم ليسوا بحاجة إلى أكثر من حصر مفروشة على الأرض . ومن مساوئه الأخرى ، قراره بتوجيه بعض الطلبة إلى دورة للخدمات الفندقية لتكوينهم ندلاً لسد حاجة الفنادق التي أنشئت في ذلك الوقت بالبلاد لإيواء أفواج السياح ، فظلت المدرسة تبعاً لذلك محطة الزوار من الناس العاديين وكبار الشخصيات مثل الدوتشي والملك الإمبراطور وغيرهم . عقب انتصار إيطاليا على أثيوبيا سنة 1936 ف ، أخذت السياسة الإيطالية تنحو منحىً جديداً حيث تقرر رفع عدد أعضاء مجلس الإدارة العرب من اثنين إلى ثلاثة بعد إضافة محمود أديب المبروك إلى مصطفى قاسم ميزران وأبي بكر حميدة الأزمرلي ( رحمهم الله ) .
إلا أن هذه الطفرة أخذت في الفتور بفعل التقلبات التي طرأت على الساحة الدولية والتي أدى تفاقمها إلى اندلاع نيران الحرب الكونية الثانية في أول سبتمبر 1939 ومشاركة إيطاليا في أحداثها إلى جانب حليفتيها ألمانيا واليابان ابتداء من 10 الصيف ( يونيو )1940 ف، حيث لقي بالبو حتفه في سماء طبرق إثر إصابة طائرته . وبما أن الأراضي الليبية ظلت للقصف الجوي فاضطرت إدارتها إلى تسريح بعض الطلبة ونقل البعض الآخر مع محتويات المخازن والأرشيف إلى مأوى حسونة باشا القره مانلي بسيدي المصري التابع للمدرسة كفرع زراعي .
ويبدو أن في ذلك يكمن سبب احتفاء كثير من مشتملات أرشيف المدرسة وبالأخص الوثائق العائدة إلى عام 1942 ، التي أثر لها ربما لأنها أتلفت قبـــيل وصول قوات الجيش الثامن البريطاني ودخولها مدينة طرابلس في مطلع سنة 1943 ف.
وعلى الرغم مما مرت به المدرسة من تقلبات وأحداث ، فقد ذاع صيتها كمؤسسة تعليمية مهنية فكانت لها فرقة موسيقية ، وكون لفيف من خريجيها في الثلاثينيات فرقة للتمثيل كثيراً ما كانت ، رغم الرقابة الصارمة ، تعمل على تقديم مسرحيات وتمثيليات ذات مضامين قومية . ولعله من قبيل الإشادة المنصفة القول إن المدرسة قد أعطت الوطن رجا أثبتوا وجودهم في شتى المجالات ،الأمر الذي يشرفها ، كما إن الحديث عن هذه المؤسسة لا ينتهي ، ولقد اقتصر الحديث هنا على حقبة الفترة استعمارية الإيطالية , وللحديث عن هذه المؤسسة لا ينتهي ، ولقد اقتصر الحديث هنا على حقبة الفترة الاستعمارية الإيطالية . وللحديث بقية.
*بهذا الصدد أقتبس ما صرح به مدير إدارة المعارف الأستاذ بيتشولي :" إن التدابير اللازم اتخاذها في هذا المجال متباينة ومتنوعة . غير أنه لا مندوحة من المضي قدماً بحيطة وحذر حيث إن غير المتمرسين بشئون التعليم قد تغيب عنهم تعقيدات مشاكل المدارس المهنية وليس بخافٍ أن هذه المدرسة تتميز برفاهة آليتها التي ليس ولا يمكن أن يكون مردودها ثمرة ارتجال رخيص واقتناع عابر ، وبناء على ذلك لا ينبغي تقرير اختيار الوسائل وتحقيق الغايات إلا عبر سبل مدروسة بدقة وتفان وليس لمحض بعض الدواعي العرضية ( انتهى الاقتباس ).
** ضمن الوثائق التي عثرت عليها بدار المحفوظات التاريخية بالسراي الحمراء تقرير هام اشتمل على مقدمة تاريخية تلقي الضوء على الظروف التي صاحبت نشأة المدرسة ، أعد هذا التقرير بتاريخ 15 الصيف ( يونيو ) 1926 مذيلاً بتوقيع ريكاردو بوريني المدير والمفوض فوق العادة للمؤسسة موضوع المقالة ، والذي كان يشغل وظيفة مدير إدارة سلاح المدفعية برتبة مدم قبل تعيينه في منتصف شهر الصيف ( يونيو ) 1924.

العمل الحرفي في ممارسة مهنة العمارة.... الدوافع والنتائج




جمال الهمالي اللافي


مقدمة/
إستجابة لطلب من أخي العزيز مهاجر بصفته مشرفا عاما على ملتقى المهندسين العرب، للمشاركة في موضوع يتعلق بإشكاليات التعليم الهندسي الجامعي طرحه أخونا م. رزق حجاوي بمنتدى الهندسة المدنية، تحت عنوان" أما ان للتعليم الهندسي الجامعي ان يتطور".

عليه قررت المشاركة بموضوع كنت منذ فترة أود طرحه، وقد قررت اليوم أن أعيد طرحه عليكم. وذلك لسبب رئيس وهو أن الحديث عن التعليم المعماري وإشكالياته وتأثيراته على مستقبل المعماري وممارسة المهنة، هذا الحديث لا يمكن فهمه من قبل التخصصات الأخرى بنفس الطريقة التي يمكن أن يفهمها ويدركها المعماريون فيما بينهم.

لهذا رأيت أهمية أن أطرح عليكم هذه التجربة المعمارية التي أسعى من خلالها إلى طرح رؤية جديدة وتطبيقاتها العملية الميدانية، معالجا بها الكثير من الإشكاليات:
· إشكالية طالب العمارة، الذي يلتحق بالجامعة دون أن يكون لديه أية دراية بهذا المجال ومتطلباته النفسية والأخلاقية والمعرفية.
· إشكالية المنهج الدراسي الذي يفصل بين الدراسة النظرية والتطبيق الميداني للمنهج الدراسي الذي يتلقاه طالب العمارة.
· الكادر التعليمي الذي يمثل في أساسه نتاجا لهذا الأسلوب التعليمي العقيم، والذي يفتقر للكفاءة المهنية التي تستطيع ربط الطالب إلى جانب الدراسة النظرية وما يستجد على الساحة المعمارية الفكرية ، بأحدث التطورات التقنية.

أترككم مع هذه التجربة مع دعوتي لكم للمشاركة الفاعلة في تقييم ونقد هذه التجربة، وسأكون على أتم الاستعداد لتوضيح أي نقاط مبهمة ودعم هذه التجربة بما تقدمونه من مقترحات، كما سأتعهد بإطلاعكم على كل جديد ينتج عن هذه التجربة حتى تكونوا دائما في الصورة. ونستفيد جميعا منها.

إنطلاقة/
نتفق جميعا على أن التعليم في مختلف مراحله بصفة عامة والتعليم الهندسي بصفة خاصة ما هو إلا سبب أو وسيلة لغاية أكبر وهي تأهيل الكوادر المتخصصة في جميع مجالات الحياة والتي من شأنها أن تسهم في رقي البلد وتطوره.

كما إن العمل المعماري بطبيعته هو نتاج لجهد جماعي بالدرجة الأولى، ولا يزال في الدول المتقدمة يأخذ هذا المنحى ولا ينحرف عنه وخصوصا في مرحلة الدراسة الجامعية، لتعويد طالب العمارة على هذا المبدأ.

ومما يؤسف له أن العمل المعماري في بعض البلاد العربية يؤسس لفردية مقيته مبنية على التنافس غير الشريف وعلى حشو عقلية طالب العمارة بمعلومات جوفاء لا تسمن ولا تغني من جوع ولا تؤسس في مستقبلها لحركة معمارية ناضجة. كما يغلب على منهجها العقيم غياب التأصيل لقيم حضارية أو منهج فكري يعين الطالب على تحديد اتجاهه الصحيح في مستقبله المعماري وممارسته للمهنة.

هذا الأمر ولّّد حالة دائمة ومستعصية عند تخرج الطالب وانطلاقته إلى مرحلة جديدة وهي ممارسة المهنة، وتحديدا عند شروعه في العمل المكتبي الهندسي ليأخذ تفكيره منحيين/

أولهما: رفضه لفكرة الانظمام لمكاتب هندسية استشارية يكتسب من خلالها تجربة تعينه على زيادة حصيلته المعرفية وخبرته الميدانية وفي بعض الأحوال تكون هذه المكاتب مرحلة إنتقالية مؤقته- لا تزيد مدتها في أحسن الظروف عن السنة أو السنتين. وذلك يعود بالدرجة الأولى لعدم ثقته في كفاءة القائمين على هذه المكاتب من الناحية الفكرية والتصميمية. ولعدم قابليته بالأساس لتبني أي منهج فكري. فهذا الأمر غير وارد عنده.

والثانية: حلمه المتسارع لتأسيس مكتب هندسي خاص به يمارس من خلاله مزاولة المهنة وتقديم تصاميمه للزبائن وهدفه الأول والأخير الإثراء السريع، ليشبع حاجاته الاستهلاكية دون النظر لعواقب ما يقدمه، ما دام قد اسحوذ على رضى زبائنه.

لهذا أصبح ديدن المعماري بعد تخرجه وهمه الوحيد السعي الحثيت لتأكيد شخصيته المتفردة وتحقيق أحلامه الشخصية على حساب روح العمل الجماعي والهم الواحد المشترك الذي يصب في مصلحة أمته ويحفظ عليها كيانها وهويتها وقيمها.... مثلما أصبح ديدنه، اللاهاث وراء سراب آخر الصرعات المعمارية ومحاولة إستنساخها أومجاراتها .

ولأن تأسيس المكاتب الهندسية من الناحية القانونية يستدعي تقدم أكثر من مؤسس لهذا الغرض حتى يتم الموافقة عليه من طرف نقابة المهندسين، إضافة لشرط الحصول على مقر للمكتب.... فقد جمعت هذه المصلحة المشتركة بعض المهندسين حولها، ليحقق من خلالها كل واحد منهم حلمه الشخصي.

فما أن يباشر المكتب ممارسة مهامه حتى يقع في مطب تضارب المصالح وتفرد كل عضو بأحلامه وتوجهاته وفهمه الخاص للعمارة ولا يلتقي الجمع حتى يفترق. وتموت من ورائه ولادة مكتب يحمل إسما ما.... لهذا عند زيارتك لنقابة المهندسين ستجد آلاف الملفات لمكاتب ولدت ثم ماتت في مهدها... فأصبحت نقابات المهندسين وكأنها مقبرة تضم في رفاتها مجموعة من المكاتب الهندسية.

تتكرر الإشكالية دائما عند محاولة تأسيس أي مكتب سواء كان هندسيا أو استشاريا، وبغض النظر عن منهج هذه المكاتب وفكرها الذي تنطلق منه، وسواء كان هذا المنهج والفكر موجودان وحاضران بقوة أو غائبين عن ساحة تفكير مؤسسي هذه المكاتب.... تظل المشكلة قائمة والعائق حاضرا ليكون سدا منيعا أمام أي محاولة لتجميع القلوب وهو - أضعف الإيمان- على قضية واحدة أو على قلب رجل واحد.

ولم تنجح في هذا السياق- الاستمرارية- إلا المكاتب التي يديرها شخص واحد وهي التي تقع تحت تصنيف مكاتب" الرأي" أو في المكاتب التي يتفق مؤسسوها صراحة ودون مواربة على أنهم يتقاسمون إيجار المكان ومصاريف الكهرباء والهاتف ويبقى كل واحد بمنأى عن الآخرين في ممارسة نشاطه المعماري بالصورة التي يراها.

الطرح/
لهذا... ولهذا فقط، ومن منطلق المفهوم العام لماهية العمارة ودورها في المجتمع، لا يجد أحدنا بدا من البحث عن بدائل عملية تكون أكثر تأثيرا وأعمّ فائدة من هذا النمط العقيم المتعارف عليه في تأهيل الكوادر الهندسية وتعليمها أصول ممارسة المهنة.
إضافة إلى فشل الأساليب المتبعة في تأسيس المكاتب الهندسية ومن ورائها ما يعترض ممارسة المهنة من عراقيل وممارسات خاطئة تقف حجر عثرة أمام ممارسة المعماري لدوره ورسالته في المجتمع.

الرؤية/
تنطلق الفكرة من تطبيق تجربة قديمة ولكنها متجددة تستند إلى استرجاع دور أسطى البناء التقليدي وطرقه التقليدية في تأهيل الكوادر الهندسية التي تستطيع أداء دورها الصحيح في ممارسة المهنة، وفق منظور يحترم القيم الدينية والاجتماعية والثقافية والاقنصادية للأمة.

ومما لا شك فيه أن تجربة التتلمذ على يد معلم قدير هي مفتاح النجاح والتميز، كما إنها معلم من أهم معالم نمو الحضارات الإنسانية السابقة وركيزة من أهم ركائزها.... وتبقى مسألة ما يقدمه هذا المعلّم من قيم ومثل إلى جانب تعليمه لتلاميذه أصول الحرفة ومقوماتها حاضرة في الأذهان ومحل اعتبار.

التجربة/
تتلخص التجربة في إعادة إحياء دور ورسالة أسطى البناء التقليدي والذي كما أشرت في ما سبق، يتيح الفرصة لمجموعة من تلاميذه بمزاملته خلال مراحل تنفيذ المباني وتلقي المعارف المتعلقة بحرفة العمارة والنظم الإنشائية وطرائق تنفيد أنواع المباني من خلال المزاوجة بين التوجيهات النظرية والممارسة العملية والمشاهدة الميدانية لمراحل وخطوات تنفيذ البناء... إلى جانب تعلم مراحل تصميم المباني وكل ما يتعلق بها من معارف وممارسات مهنية وأخلاقية.

وقد تمّ التركيز على أن يكون التلاميذ المرشحين لخوض هذه التجربة من أفراد العائلة وبعض الأقارب، تحقيقا للكثير من المصالح المشتركة وابتعادا عن الكثير من المصالح المتضاربة... ولتعود تجربة ثوارت الحرفة بين أفراد العائلة لتترسخ كمفهوم حرفي وأخلاقي وممارسة عملية يومية.

كما تسعى هذه التجربة إلى دمج العلاقة بين المعماري والمهندس الإنشائي والحرفي الفني في شخص واحد والذي تعارف على تسميته فيما مضى بأسطى البناء.

وقد وقع الاختيار كتجربة أولية على مجموعة من طلبة الثانويات التخصصية الهندسية للمباشرة في تطبيق هذه الفكرة خلال الفترة الصيفية الماضية... والتي حققت بحمد لله الكثير من النجاحات التي تشجع على استمرارية متابعة التجربة حتى نهايتها.

وستأخذ هذه التجربة حتى تكتمل في صورتها النهائية في كل مرحلة منحى جديدا يتم فيها إستقطاب مجموعات أخرى من التلامذة في مراحلهم العمرية المبكرة... تبدأ بتعليمهم أبجديات العمارة وأصولها ومعارفها وتنتهي بممارسة المهنة. وذلك خلال العطلات الصيفية التي تمتد لأربعة أشهر وعلى مدى 12 سنة.
وتصبح بعد ذلك مرحلة الدراسة الجامعية، مرحلة أخرى لصقل الخبرات وزيادة التحصيل المعرفي، لمن أراد أن يلتحق بالجامعة. وبعد انتهاء المرحلة الجامعية ستنطلق التجربة الميدانية لتأخذ حقها مع مواصلة التعليم المنهجي لأحدث تطورات تقنيات البناء والفكر المعماري الذي يخدم حاجات المجتمع لعمارة جديدة ومعاصرة ولكنها تحترم قيمه وظروفه وبيئته.

12 سنة من عمر الطالب يقضيها بين المرحلة الإبتدائبة والإعدادية والثانوية، يتلقى معلومات ثلاثة أربعها مغلوطة أو مدسوسة والربع الأخير لن يستفيد منها في حياته العملية ولا تؤهله لممارسة أي حرفة أو مهنة في حالة تسربه من مقاعد الدراسة عند أي مرحلة من هذه المراحلة أو سنة من سنواتها.

في حين سيتم تأهيله خلال العطلة الصيفية وهي كما قلت أربعة أشهر من كل سنة دراسية" وقت فراغ ضائع" تمر مرور الكرام إما في اللعب أو التسكع على شواطئ البحر.

هي بمثابة إعداد تدريجي للمعماري يبدأ من أبسط المعلومات التي يجب أن يعرفها الطفل في مرحلة الدراسة الإبتدائية وهي/
تعريفه بعمارة بلده المحلية، زيارات للمدن القديمة، جولة داخل معالمها، تعريف مبسط بتاريخها، ونشأتها والتعرف على مكونات مواد البناء فيها والتركيز على تفاصيلها وجمالياتها.

• إعطاؤه قلما وورقة وتعويده على الرسم واستعمال الأدوات بطريقة صحيحة، ثم توجيهه لرسم ما يراه أمامه من معالم ومباني وبيوت مع بعض التوجيه.

• يحب الأطفال التعاطي مع أجهزة الكمبيوتر واللعب ببعض البرامج المتعلقة بالتلوين والرسم، وهو ما يتيح فرصة تعليمهم في المرحلة الإبتدائية كيفية التعامل مع مجموعة برامج هندسية مثل برنامج Sketch up ، الذي يتميز بسهولة تعلمه وقد أبدى جميع الأطفال الذين خاضوا هذه التجربة قدرة فائقة في استيعاب هذا البرنامج وقدموا من خلاله أفكارا جميلة ومتميزة.

• تنظيم عدة زيارة للمكاتب الهندسية والمواقع التنفيذية للإطلاع على سير العمل وتحبيبهم في هذا المجال.

• مناقشتهم وبجدية في الأفكار والتصاميم المعمارية التي يتم تصميمها، وقد اعتمدت إحدى هذه التجارب التي تم تطبيقها على أحدى الطالبات التي تدرس في الصف الخامس إبتدائي، حيث تمّ تسليمها مسقط أفقي لبيت من دور أرضي وطلب منها إبداء رأيها وما يمكن أن تضيفه من ملاحظات... فكانت ملاحظاتها وأفكارها تتركز حول توزيع الإضاء في أرجاء البيت واستغلال التجاويف في الحوائط كعناصر تصميم داخلي.

• أما التجربة التي أقحم فيها طالب يدرس في الثانوية الهندسية، ومن خلالها أصبح يجيد إجادة كاملة استعمال برامج الأوتوكاد، والفوتوشوب، وإسكتش أب... ووصل في غضون سنة إلى أن يتولى- وبعد توجيه- مرّكز التصميم الداخلي للمطابخ والحمامات إضافة إلى رسم التفاصيل المعمارية الإسلامية المحلية في ثلاثة أبعاد.
مرفق صور ورسومات

أخيرا/
لم يقدم هذا الطرح من فراغ، بل جاء بعد عدة تجارب إمتدت لعدة سنوات من الإختبار، كان من أهمها تجربة في العام 2003م، حيث تم تنظيم برنامج متكامل لتأهيل الكوادر الهندسية من حديثي التخرج من طلبة قسم العمارة والتخطيط العمراني إضافة إلى طلبة مشاريع التخرج، وقد قسّم هذا البرنامج إلى قسمين/

الأول: دورة تدريبية للإشراف على تنفيذ المباني/
إمتدت لتسعة أشهر في جانبها العملي، تعتمد على تعريف المعماري بمراحل تنفيذ المبنى من خلال متابعة تنفيذ المباني من أول مراحله حتى آخر مرحلة، يتولى خلالها مهندسين من مختلف التخصصات وعمالة فنية وموردين لمواد البناء بإعطاء الشروحات اللازمة.

الثاني: سلسلة من المحاضرات النظرية تناولت/
علاقة الفن التشكيلي بالعمارة قدمها أستاذنا الفاضل المرحوم الفنان التشكيلي، علي سعيد قانه.
• النقد المعماري، قدمها الدكتور رمضان أبوالقاسم عضو هيئة تدريس بقسم العمارة والتخطيط العمراني بقسم العمارة والتخطيط العمراني.
• سلسلة محاضرات حول تاريخ العمارة، قدمها الدكتور مصطفى المزوغي.
• قراءة الخرائط التنفيذية قدمها المهندس المعماري عزة علي خيري.
• التصميم الصناعي قدمها الأستاذ م. أحمد العجيل وهي مجال دراسته العليا ورسالة الماجستير بإيطاليا.
• صناعة الطوب الرملي ، وإعادة تدوير المخلفات قدمها مهندس مصطفى بن بية.
• تحديثات برنامج الأوتوكاد 2007 قدمها م. عمر بن زاهية.

إضافة إلى تنظيم عدة زيارات للمدن القديمة في ليبيا، للتعريف بخصائص العمارة المحلية الإسلامية في ليبيا.

وقد تم تنظيم دورتين أخريين بعد هذه الدورة لمجموعات جديدة.

تبقى الإشكالية كامنة في ما تمّ عرضه من إشكاليات في بدايات طرح هذا الموضوع.... ويمكنكم إعادة قراءتها لتفهم الدوافع التي استدعت اللجوء إلى البرنامج طويل الأمد.


وتفعيل هذه التجربة يتم من خلال تبني كل معماري يأنس في نفسه القدرة والكفاءة لتطبيق هذه الفكرة على من هم محيطين به. سواء بجهوده الفردية أو بالتعاون مع بعض الزملاء.

خاتمة/
أن يصل الطالب وبعد خوض هذه التجربة إلى المرحلة الجامعية وهو أكثر كفاءة ورغبة وجدية واستعدادا لها، أفضل للمجتمع من طالب لا يعرف عن مجال العمارة غير أنه قسم للبنات وليس للرجال... وأن الأقسام الهندسية الأخرى أفضل له، فقط لوكان لا يعاني من مشكلة مع المواد الرياضية.

نسأل الله العلي القدير التوفيق

أنماط البيوت التقليدية في ليبيا

المسكن الطرابلسي التقليدي المنزل ذو الفناء " الحوش " جمال الهمالي اللافي مقدمة / يعتبر(...