الجمعة، يناير 26، 2018

ملامح عامة عن العمارة والفن المعماري في مدينة سوكنة


مدينة سوكنة


د. عادل الغرياني


مقدمة/
لقد ضنت علينا الدراسات التي تناولت مدينة سوكنة بالمعلومات الدقيقة حول البناء المعماري، والتركيبة العمرانية لهذه المدينة، والذي بين أيدينا حتى الآن سوى بعض الإشارات التي وردت في كتب الرحالة الذين زاروا المدينة في فترات زمنية متباينة.

ومن خلال وصف الرحالة العرب والأجانب الذين تحدثوا عن بعض أحوال مدينة سوكنة خلال القرن الثامن والتاسع عشر الميلادي يتضح لنا أن مدينة سوكنة كانت تعتبر نموذجا للقرى السكنية المجمعة حول القصور، وكان هذا النموذج منتشرا في بلاد فزان بصفة عامة، فقد نشأت عدة قرى حول قصر أو مسكن محصن يعد النواة الأولى للقرية أو المركز الذي نما حوله.

ويذكر محمد بشير نجومه في هذا الشأن في تقريره حول بلدان الجفرة سنة 1914م أن مدينة سوكنة كانت عبارة عن مجموعة من القصور المتناثرة في غابات النخيل وأنه بترغيب من قبيلة الجهمة(1) انتقل سكان تلك القصور وشرعوا في البناء حول أكبر القصور. فيقول: "سوكنة كانت في قديم الزمان غير منتظمة بل هي كانت قصيرات صغار متفرقة كل قصر في حطية، كما هي آثارها موجودة الآن…. وبترغيب من قبيلة الجهمة التي أغارت على القصر الكبير انتقل سكان القصور الأخرى بالقرب عن القصر الكبير وشرعوا في بناء منازلهم حوله …. فصارت قرية صغيرة …. ولا زالت أهل القصور تتحول وتبني في المساكن ولم يبق في القصور إلا القليل …. ثم أجبر سكان بقية القصور إلى السكن في القرية …. ولما تكامل السكان فيها اتفقوا على أن يجعلوا سور حائط عليهم ليحفظهم من العدو وبيبان يقفلوهن بالليل وكل من له باب مسمى عليه يؤول أمره يسكره بالليل ويفتحه بالنهار".

من خلال هذه الرواية التاريخية التي انفرد بذكرها محمد بشير نجومه في مخطوطه حول التأسيس العمراني لمدينة سوكنة، ومن هذا العرض التاريخي لمراحل التأسيس، ومن خلال الدراسة الميدانية التي قمنا بها أيضا لعدد من قصور سوكنة التي لا يزال عدد منها في غابات النخيل المحيطة بالمدينة، يتضح أن مدينة سوكنة من الناحية العمرانية قد بدأت من تجمع سكان القصور الصغيرة التي أنشأت حول آبار المياه أو قريبا منها، ومن توزيعها أي القصور تدل على أنها أقيمت حيث تتوافر مواقع دفاعية فوق بعض التلال مثل قصر شجار، أو في وسط غابات النخيل كقصر تينداروا وقصر تيمز يلين.



وأهم ما يلاحظ على البناء المعماري لهذه القصور هو ارتفاع بناؤها عن سطح الأرض، إضافة إلى أنها كانت ذات أشكال مربعة أو مستطيلة أو دائرية، وذلك تمشيا مع الظروف الجيولوجية أو وفق طبيعة الأرض والمكان الذي يبنى عليه والمواد المتوفرة، لأن الطابع المعماري أو ما يسمى بالطراز أو النسق المعماري ما هو إلا نتيجة طبيعية لعدة عوامل مشتركة ومتفاعلة مع بعضها، مصهورة في بودقة الانتقاع الكامل للمبنى، وأساليب البناء ومواد الإنشاء، وطبيعة الإقليم أو المنطقة.


إن الجو الصحراوي القاسي ساعد في خلق القاعدة المعمارية لمدينة سوكنة التي اتصفت بصفة التضاد العضوي والبيئي Environmental Contrast، التضاد بين الجبال والرمال المحرقة والخضرة النضرة الدائمة في بساتينها وغابات النخيل التي تحفها.



ومهما يكن من أمر فبعد تحول سكان القصور وقيامهم بالبناء نحو القصر الكبير ووفق الروايات المحلية بدأ التكوين المعماري لمدينة سوكنة التي أصبحت بمرور الزمن تأخذ في تكوينها المعماري طابع المدينة المتكاملة. حيث تم بناء المسجد العتيق والسور وأصبحت تتكون من حيين سكنيين هما حي تيشرت وحي شلاكه ويتوسط الحيين القصر الكبير والجامع العتيق، وأصبحت مساحتها تتسع حتى بلغت في حدود سنة 1824م ميل مربع، تضم داخل سورها مجموعة من البيوت المتلاصقة الجدران، ذات شوارع وأزقة عشوائية المظهر، نالت نظافتها وأناقتها دهشة وإعجاب الرحالة كلابرتون Clapperton ودنهام Denham وأودني Oudney وكانت أغلب أفراد الوحدة القرابية -العيلة اللحمة- يسكنون جنبا إلى جنب أو في جهة معينة من المدينة.

إذن فالتركيب الجسماني لمدينة سوكنة كان يأخذ طابعا نوويا تجميعيا، ويمكن تلخيص أهم العوامل التي أدت إلى نمو هذا النوع من الاستيطان الصحراوي في سوكنة إلى عدة عوامل منها:

1.       عوامل استراتيجية، وخاصة فيما يتعلق بصد غارات وهجمات بعض القبائل البدوية التي كانت تغير على المدينة بين الفينة والأخرى، ومن ثم بنيت المساكن حول القلعة ثم بنيت الأسوار والأبراج التي تلف المدينة لتدرأ عنها الأعداء.

2.    عوامل جغرافية اقتصادية، وخصوصا فيما يتعلق بصعوبة الحصول على المياه، فالقصر الكبير الذي أقيمت حوله المساكن به بئر ماء على عكس القصور الأخرى الصغيرة.

3.     عوامل تتعلق بالنظام القرابي، حيث يمنع هذا التلاصق القرابي والقبلي من تفتيت العلاقات القرابية والقبلية التي يحرص عليها سكان المدينة.

يعد سور مدينة سوكنة من أبرز المعالم المعمارية في بلاد فزان، وقد نال بناءه إعجاب جميع الرحالة الأجانب الذي زاروا سوكنة، حيث قال عنه صاحب كتاب Children of Allah أن السور مبني بشكل هندسي رائع، وخطة مدروسة.

وكان لسور المدينة سبعة أبواب ضخمة مصنوعة من خشب النخيل. ثم أصبحت ثمانية أبواب في سنة 1824م. ويبدو أن هذا الباب الثامن الذي أضيف للأبواب السبعة قد ألغي بعد فترة من الزمن، حيث ذكر الرحالة التركي عبد القادر جامي الذي زار سوكنة سنة 1907م إن للمدينة سبعة أبواب. ويؤيد ذلك أيضا ما ذكره محمد بشير نجومه سنة 1914م في تقريره، وهذه الأبواب السبعة هي باب العمشة - باب جرانه - باب النجومات - باب الغنم - باب ثانيه - خوخة القاضي - خوخة الراشدي.

وإذا ما أمعنا النظر في أسماء الأبواب نلاحظ أن أغلبها منسوب للأسر أو العائلات التي كانت تقيم قرب الباب والمسئوولة عن أمر فتحه وقفله أمام القادمين والمغادرين، وحسب رواية نجومه فإن الأبواب كانت تفتح أثناء ساعات النهار وتقفل أثناء الليل.

ونلاحظ أيضا أن هناك باب منسوب إلى الأغنام لأن هذا الباب وفقا للروايات المحلية كان مخصصاً فقط لدخول أغنام الأهالي التي كانت ترعى في البادية. أما عن خوخة القاضي والراشدي، فهما أصغر الأبواب جميعا لأن كلمة خوخة بلهجة سوكنة معناها الباب الصغير جدا. وقد ذكر الرحالة جون فرانسيس ليون G.F. Lyon في رحلته أن هناك باب مخصص لدخول القوافل المحملة بالبضائع.
وعلى أي حال فقد كان سور سوكنة مبني على شكل هندسي ذي سبعة أضلاع جعلت به فتحات صغيرة لإطلاق النار ولأغراض عسكرية أخرى كالمراقبة وغيرها.

ما من شك أن سور المدينة قد بني بهذه الطريقة الهندسية الدفاعية كان الهدف منه أولاً هو حماية المدينة من غارات القبائل المجاورة، ثم لحماية قوافل وأموال التجار القادمين للمدينة من غارات أقوام الصحراء، وقد حرص الأهالي دائما على ترميم السور والعناية به، حيث يشير محمد بشير نجومه إلى أن الأهالي قاموا سنة 1840م ببناء دعامات قوية لسور المدينة أثناء تكرر هجمات عبد الجليل سيف النصر على المدينة، ومع مرور الزمن فإن ارتفاع السور وحجمه بدون شك قد تأثر بالعوامل المناخية والظروف السياسية التي مرت بها المدينة، ومن ثم فإن ارتفاع السور ووفقا للروايات الشفوية المحلية كان أعلى بكثير مما هو عليه الآن، وبالتالي فإن إعطاء أرقام وقياسات لارتفاع السور وعرضه أمر صعب - ولكن يمكن أن نذكر هنا أن ارتفاع السور كان يتراوح ما بين مترين ونصف إلى ثلاثة أمتار، وعرضه من نصف متر إلى متر في بعض النواحي، مبني من حجر الكلس أو حجر الطين.

مما لا شك فيه إن مدينة سوكنة كانت مسورة تسويرًا جيدًا، ولم تكن تتجرد المدينة من أسوارها إلا في فترات قليلة من تاريخها، ومع ذلك فإن حرص الأهالي وإدراكهم لأهمية أسوار مدينتهم جعل من عملية الترميم والبناء تستمر إلى أواخر العهد الإيطالي في ليبيا.

إن أهم ما يميز سور مدينة سوكنة عن بقية أسوار المدن في الولاية هو وجود ثلاثة وثلاثين برجًا بنيت على طول سور المدينة. وهي أبراج مبنية على أشكال ما بين المربعة ونصف دائرية. حيث تبرز ثلاثة من أضلاعها خارج ا لسور، والضلع الرابع أو الجزء الرابع من البرج يكون على امتداد اتجاه السور، ويتراوح ارتفاع الأبراج ما بين مترين ونصف إلى ثلاثة أمتار ونصف، وأما مساحتها فإنها تتراوح ما بين 4 × 4 إلى 6 × 5 مترًا.




وتشير إحدى الوثائق التركية أن الحكومة التركية في الولاية قامت بوضع مدفعين فوق أبراج سوكنة سنة 1907م. لزيادة تحصين المدينة التي كانت تتعرض بين الفينة والأخرى لهجمات القبائل البدوية التي تمتهن قطع الطرق والإغارة على القوافل.

وتعرف أيضا بقصر الحكومة، ومما يلفت الانتباه أنه على الرغم من ضخامة المبنى في وسط المدينة التي يعتبر أحد علاماتها المميزة، إلا أن كتب الرحالة لا تحتوي على ما يمكن أن نعتبره معلومات هامة حول هذا المبنى !! فلم يذكرها بعضهم في رحلته كبارث وكلابرتون وأودني والحشائشي وغيرهم، وإن كنا نتوقع من الأخير معلومات كثيرة حولها لأنه زار الزاوية السنوسية الملاصقة لمبنى القلعة، إضافة إلى طول إقامته في سوكنة.

وعلى أي حال فإن أهم ما ورد من معلومات حول هذه القلعة ما جاء في رحلة جيمس ريتشاردسن حيث يقول "…. تصف قلعة سوكنة حسب النظرة الأوربية كأي مبنى متهدم لا يصلح لإيواء أحد، ومع ذلك يظل هو القصر بالنسبة لهم رغم عدم وجودة حجرة واحدة ملائمة به، فقد تساقطت العديد من جدرانه، وملأت الحفر أرضيته …. في الوقت الذي لا يوجد فوق سطحه سوى مدفع صغير كئيب المنظر، ومدفعين آخرين علاهما الصدأ تكت السلم ".

ويقول إسماعيل رأفت "…. قلعة كبيرة بعض جهاتها تخرب يمكن للإنسان الإشراف منها على كل جهات الواحة" . ويبدو أن حالة الخراب هذه قد حلت بالقلعة في سنة 1260هـ/1844م. فقد أرسل الأهالي العديد من الرسائل إلى الوالي في طرابلس طالبين مد يد العون لترميم القلعة والاهتمام بها، وقد صرفت مبالغ من الولاية وأمر الوالي بالعناية بالقلعة وترميمها. ولكن ذلك لم يحدث إلا في أواخر العهد العثماني الثاني.

ومهما يكن من أمر فإن قلعة سوكنة التي تتوسط تماما المدينة تعتبر أعلى وأكبر مبنى بها، كان بها مقر الحاكم أو القائمقام ومدير القضاء، وبها يجتمع المجلس البلدي، وتقام المحاكم، وتجمع الضرائب.


وتبلغ مساحتها تقريبا 35×45 مترا وارتفاعها يتراوح ما بين 40 - 45 مترا، بها خمس حجرات ومخازن وبئر ماء، وحجرة كبيرة بعض الشيء قرب مدخل القلعة ربما كانت المكان الذي تعقد به الاجتماعات، لأنها أكبر الحجرات جميعا وأخيرا فإن للقلعة ساحة أو فناء تفتح فيه جميع الحجرات.

نظرا لكون منازل المدينة مبنية بشكل متلاصق الجدران فإن شوارع المدينة وأزقتها كانت عشوائية المظهر، تختلف من حيث الطول والاتساع من شارع لآخر، ومن حي لآخر، إلا أنها في عمومها ضيقة بعض الشيء، وليس كما وصفها جون فرانسيس ليون G.F. Lyon بأنها ضيقة جدا. إذ يتراوح عرض بعض الشوارع ما بين مترين إلى ثلاثة أمتار وقد تصل إلى خمسة أمتار، كما أنها لم تكن على استقامة واحدة بل تكثر فيها الانعطافات، وكان بعضها مسقوفا وليس بها سوى كوة لإدخال الضوء.

وعلى أي حال فإن شارع باشاله (2) يعتبر أطول شوارع سوكنة حيث يبدأ من زنقة (3) الفراحيت (4) إلى ساحة القصر، ويعتبر هذا الشارع أيضا أعرض شوارع سوكنة، وأما أضيق شوارع سوكنة فهو شارع عِرّقِيق الذي لا يتعدى اتساعه مرور رجل واحد فقط من خلاله. ومن أهم شوارع سوكنة التي يمكن أن نعتبرها رئيسية هي شارع باشاله، الطوالبية - عرقوب - الفوارسية - الدلاوحه - ونزريك - الرغويات - بنشكي - بن عيسى - الهميلية (5).

ويزين تلك الشوارع الأقواس التي يبلغ ارتفاعها من ثلاثة إلى أربعة أمتار، ولا يكاد يخلو شارع في سوكنة منها، وهي على شكل نصف دائرة، كما يزين الشوارع أيضا تلك الممرات العلوية التي تعرف عند الأهالي باسم الخطامات. وهي عبارة عن ممر مسقوف يربط بين بيتين من أعلى الشارع وعادة ما يكون أصحاب البيوت التي تربط بينها تلك الممرات من ذوي الأسرة الواحدة أو أقارب، وكانت هذه الممرات تستخدم في العادة من قبل النساء، وهي طراز معماري تنفرد به سوكنة عن بقية الواحات والمدن الليبية بصفة عامة، ويتراوح طول هذه الممرات من مترين إلى ثلاثة أمتار حسب عرض الشارع.



وتنتهي شوارع سوكنة في العادة بساحات واسعة تعرف عند الأهالي باسم -الوسعاية - أو السماح- والتي غالبا ما يكون بها آبار للمياه، ومن أشهر تلك الساحات -الهميلية - الصديقية - الجباره - حلاله - وسعاية الجامع العتيق - السنوسية – سماح القصبة. ويعتبر أكبر تلك الساحات ميدان أو سماح القصبة ثم ميدان السنوسية، ويعد ميدان بئر الصديقية أصغر الساحات جميعا.
وتنتشر البيوت حول تلك الساحات وتكون ملتقى لأبناء وبنات البلدة لتبادل الأخبار، وإن كان بعض من تلك الساحات ما كان يستخدم لبيع المواشي واستقبال القوافل.

كانت البيوت السوكنية بطابقيها الأرضي والعلوي محط انتباه الرحالة الأجانب الذين زاروا سوكنة، حيث تحدث عند هذه البيوت كل الرحالة الأجانب دون استثناء ودونوا عدة ملاحظات هامة تعكس مدى إعجابهم بطراز المدينة المعماري الفريد في ذلك الوقت.

ويقول محمد سليمان أيوب "ولا زالت سوكنة للآن محتفظة بطابعها القديم، فلا زالت منازلها ذات الطابقين تشيد على الطراز العربي وما زالت هذه المنازل قائمة..".

إن أهم ما يلاحظ على منازل سوكنة أن طرازها المعماري قد جمع بين الطراز المعماري للمدن الساحلية والطراز المعماري للقرى الفزانية وفي ذلك يقول الرحالة التركي عبد القادر جامي ".. أبنيتها على طراز متوسط بين نمط المدن الساحلية والقرى الفزانية..".


ولعل أهم معلومات نجدها حول منازل سوكنة وطرازها المعماري في رحلة الرحالة الإنجليزي جون فرانسيس ليون G.F. Lyon الذي دون العديد من الملاحظات الهامة حول منازل سوكنة، وهي معلومات نادرة وهامة لا نجدها في غيره من المصادر الأخرى، إذ يقول في جملة ملاحظاته "..المنازل مشيدة من الطين المخلوط بالحصى..". ويقول أيضا "..معظم المنازل لها طابق ثان يرتفع فوق الطابق الأرضي، وفي كل منزل فناء صغير يتوسط الدار وتصطف حوله الحجرات التي لا يدخلها الضوء إلا من الأبواب..". ويقول أيضا "..أما الحجرات الأخرى فهي في مستوى الأرض، ومن بين الحجرات توجد اثنتان أو ثلاثة خالية من النوافذ، وتؤدي إلى الحجرة الكبيرة سالفة الذكر، وتتلقى هذه الحجرات الضوء من الأبواب فقط .. والأبواب مدهونة بطلاء أسود يصنعونه من رماد الخشب مضافا إليه بعض الصمغ ..". مصنوعة من خشب النخيل الذي تسقف به البيوت أيضا.

ويقول لايون Lyon: "وتشييد جميع المنازل على نمط واحد تقريبا، فمن فناء مربع صغير عند المدخل توصلك بعض الدرجات إلى غرفة مفتوحة تشكل الحجرة الأساسية في حيث تقع باقي الحجرات في مستوى سطح المدخل وتتصل حجرة أو اثنين بالحجرة الرئيسية المطلية بلون أسود..". إذ يقوم الأهالي بطلاء جدران الغرفة على شكل شريط أسود على ارتفاع مستوى الصدر لطرد إبليس والشياطين من دخول البيت عند ولادة الطفل خوفا من إلحاق الأذى أو نظرة سوء تصيب المولود الذكر في أيام الولادة الأولى. ولا بد أن اعتقادهم أي السكان والذين في غالبيتهم من البربر في أرواح الشر ساكنة البيوت المظلمة والكهوف والمياه وغيرها كانت واسعة الانتشار بينهم، وقد لاحظ ألفرد بل هذه الظاهرة عند أغلب القبائل البربرية في شمال أفريقيا.


ومهما يكن من أمر فإنه لدراسة مركز عمراني مثل سوكنة من حيث أنه تعبير عن رغبات الإنسان وحاجياته في بيئة معينة وفي عصر معين تنعكس عليها عوامل بيئية وتتجسم فيها مظاهر نشاط الإنسان والطور الذي بلغه من الحضارة - أهمية جغرافية - فالمسكن من حيث مادته وتنسيقه ونظامه الداخلي له دلالته التي لا تخفى من حيث توافر مواد خام معينة تستخدم للبناء، كما أن مادة البناء وطبيعة السكن ترتبط ارتباطا وثيقا بمهنة الإنسان والغرض من بنائه وأسلوب معيشة سكانه من حيث مدى استقرارهم.

فالبيت أو السكن السوكني بشكله المستطيل أو المربع، وبغرفه التي يتوسطها صحن مسقوف أو مظلل أو مكشوف وما ينتشر حوله من الشرفات المكشوفة يختلف عن الزريبة التي تبنى من جذوع النخيل وفروعه وكلاهما يدخل في بنائه النخيل بأجزائه المختلفة، كما يختلف هذان النوعان من المساكن عن خيام البدو المصنوعة من شعر الماعز.

وليس المسكن وحده له أهميته الجغرافية، بل إن نظام توزيع المساكن ليتألف منها مركز عمراني متفرق ومتجمع ثابت دائم أو متنقل مؤقت له دلالته على الظروف الجغرافية الطبيعية منها أو الظروف الاقتصادية والنظم الاجتماعية السائدة.

ومما تجدر الإشارة إليه هنا أن نمط بناء البيوت في سوكنة يختلف عن نمط بيوت فزان بصفة عامة، فبيوت فزان منخفضة جدا وأغلبها كالأكواخ يتم بناؤها من الطين أو الطوب المجفف في الشمس. وأحيانا بالتراب والطين مما يؤدي إلى انهيارها بسرعة عند سقوط الأمطار بغزارة، وقد ذكر الرحالة التونسي محمد بن عثمان الحشائشي ذلك وهو يتحدث عن مباني مدينة مرزق بالقول " …. وإذا نزل المطر فإن كل الدور تتهدم ولهذا السبب فقد أعيد بناء المدينة ثلاث أو أربع مرات في ظرف قرن".

كما أن بيوت فزان كانت في غالبها تتكون من طابق واحد، مستثنين من ذلك عدد من البيوت في غدامس، أما مرزق فإن أغلب بيوتها كانت تتكون من طابق واحد إلا عدد من البيوت التي كانت تتكون من طابقين وهي بيوت تعود ملكيتها لعدد من تجار سوكنة الأغنياء المقيمين في مرزق، وقد أشار إلى ذلك الرحالة التونسي في رحلته إلى مرزق.

وحتى تكون الصورة أوضح لدراسة الفارق المعماري بين مدينة سوكنة وعدد من الواحات الصحراوية في بلاد فزان وغيرها من الواحات الليبية الأخرى والتي تعتبر سوكنة الحد الشمالي لها، نورد هنا بعض النصوص من كتب الرحالة الأجانب الذين زاروا عددا من تلك الواحات الصحراوية، حيث يقول الرحالة الألماني فريدريك هورنمان وهو يصف مدينة زويلة " بيوتها من طابق واحد وتضاء الحجرات من فتحات الأبواب.".

ويقول أيضا ‘‘منازل فزان صغيرة مبنية من قطع الحجارة أو الطوب المصنوع من تراب الكلس أو الصلصال، ويجفف في الشمس …. والسقف وهو عجينة من الحجر الجيري وتتم هذه الخطوة بطريقة يدوية.’’.

ويقول وهو يصف واحة أوجله ‘‘البلدة مشيدة بطريقة بدائية، شوارعها ضيقة وقذرة وبنيت المنازل من الحجارة وتتكون من طابق أرضي واحد، وهي مظلمة لا يدخلها الضوء إلا من الأبواب وتنتظم الحجرات حول ردهة حيث يتقابل أبوابها بغية توفير الإضاءة’’.


مما سبق يتضح أن المساكن في فزان بصفة عامة بما في ذلك سوكنة تتفق فيما بينها من ناحية كون جميع الحجرات تفتح أبوابها في ردهة البيت وذلك لغرض الإضاءة نظرا لعدم وجود نوافذ تطل على الشارع العام يمكن أن يدخل منها الضوء. كما أنها تتشابه من حيث مادة البناء وهي الطين والصلصال وخشب النخيل، والاختلاف يكمن في كون أن بيوت سوكنة تتكون من طابقين، وأكبر مساحة من بقية البيوت المنتشرة في فزان والتي تتكون في الغالب من طابق واحد. إضافة إلى الاختلاف في توزيع الحجرات وما يحتويه البيت من مرافق ومخازن، حيث يحتوي الطابق الأرضي في سوكنة على مكان خاص للحيوانات، ووجود عدد من المخازن، وبئر للماء، وهو ما لا نجده في بقية المساكن في الجنوب الليبي بينما نجده في طرابلس وعدد من المدن الساحلية الأخرى.

وإذا رأينا المباني في شمال ليبيا وفزان نلاحظ أن مدينة سوكنة فعلا وكما قال عبد القادر جامي في رحلته أنها تجمع بين طراز المدن الساحلية والقرى الفزانية. وهو أمر ليس بغريب لأن مدينة سوكنة تحتل موقع الوسط بين المنطقتين، وأمر الاقتباس من الحضارات المجاورة رغم صعوبة تتبعه يفسر لنا أيضا بعض الأنماط الشائعة من المساكن، ومما يزيد هذا الأمر صعوبة موقع سوكنة بالتوسط كملتقى لتيارات حضارية متباينة، فمن الجنوب يبدو أنها لم تتلق إلا أثرا محدودا، لأنه رغم قدوم عدد كبير من الزنوج الأفارقة للاستقرار بها، إلا أن تعدد المواطن التي جلبوا منها كأرقاء قد أضعف من تأثيرهم.

ورغم انتشار المساكن ذات الغرف المربعة أو المستطيلة التي تحيط بفناء يتوسطها، وذلك في أطراف السودان الشمالية فإن مصدر هذه الطراز من المساكن ما زال موضع جدال! هل هو قادم من الشمال أو وفد من الجنوب؟. أو أنه نشأ نشأة مستقلة في كل منهما؟. أما من الغرب فالقصور المنتشرة في الصحراء في جنوب الجزائر وحتى غات، هناك احتمال كبير في انتشارها حتى سوكنة.
وعلى أي حال فإن البيوت في سوكنة تتشابه من حيث طريقة البناء، ومن حيث التقسيم الداخلي للبيت، ولكنها تختلف من حيث كبر المسافة وصغرها وذلك وفقا لحالة صاحب البيت المادية.


وتبدأ عملية البناء في سوكنة بعد تحديد الأرض بوضع الأساسات الأولى للبيت وهي عبارة عن قاعدة من الحجر والطين بارتفاع نصف متر إلى متر أحيانا، ثم يشرع بعد ذلك في وضع قوالب الطين المجففة بأشعة الشمس والتي تتكون من الطين المخلوط بالحصى والماء. توضع بعد خلطها بالماء في قوالب من الخشب يتراوح حجمها من 20 إلى 30 سم وطولها من 25 إلى 30 سم. وارتفاعها من 10 إلى 15 سم تقريبا. ثم يترك في الشمس لعدة أيام حتى يجف ثم يحمل بعد ذلك في عربات تجرها الحمير تعرف عند الأهالي باسم الكرطون إلى مكان البيت، وعادة ما كانت تتم هذه العملية في الساحات العامة في فصل الصيف.

وتستمر عملية البناء بوضع كمية من الطين المبلول بين القوالب الطينية المجففة حتى تصل عملية البناء إلى مرحلة السقف، وهنا توضع جذوع النخيل لتصل بين الحائط والآخر، ويوضع فوقها جريد النخيل ثم يوضع فوق الكل عجينة من الحجر الجيري وروث الحيوانات الذي يحل محل الاسمنت، فتزيد هذه الخلطة صلابة وتماسك الطين، وتستمر عملية البناء لبناء الطابق الثاني بالخطوات السابقة نفسها باستثناء وضع أو بناء القواعد الحجرية كما في الطابق الأول. ويسقف الطابق الثاني بالطريقة نفسها التي سقف بها الطابق الأول مع إضافة وضع ممرات من جذوع النخيل المجوفة والمفتوحة من أعلى لتسهل انسياب مياه الأمطار منها أثناء سقوطها وتعرف عند الأهالي باسم ميزاب وجمعها موازيب.

ومن الجدير بالذكر هنا أن عملية البناء تلك كانت في الغالب تتم بتعاون أبناء البلدة فيما بينهم، ولكن في بعض الأحيان فإن عدداً من الأهالي الأغنياء يقومون بتأجير عدد من العمال المهرة المشهود لهم بفن العمارة ويدفعون لهم مقابل عملهم أجراً يومي أو شهرياً، حيث تذكر إحدى الوثائق المؤرخة بتاريخ 1260هـ/1844م إلى أن أجرة فني البناء الشهرية تساوي ثلاث ريالات، وفي وثيقة أخرى بتاريخ 1282هـ/1865م تذكر أن أجرة أسطى البناء في سوكنة 240 ليرة.

وينقسم البيت السوكني إلى ثلاثة أقسام، قسم للمعيشة والنوم وقسم خاص للحيوانات مع المنافع الأخرى وهي المطابخ – الساحة – المخازن – الشيعة. والقسم الثالث وهو الطابق الثاني من البيت ويكون للمعيشة فقط وبه دورة مياه – وتعرف بلهجة سوكنة بالسَّقاط وحمام وعدد من الغرف، وساحة مفتوحة تعرف بالمجلس تستخدم للجلوس والراحة في ليالي الصيف.



ويبدأ البيت بباب كبير مصنوع من خشب النخيل، يتراوح ارتفاعه من متر وعشرين سنتيمتر إلى ثلاثة أمتار، وعرضه ما بين مترين إلى ثلاثة أمتار. ثم الدراقة (6)، فالمربوعة (7) ثم حجرة الجلوس الشتوية فالمتعدية (8) ثم الدار المقابلة (9) التي غالبا ما يبنى بها حجرة صغيرة تستعمل كمخزن للذهب والمجوهرات الثمينة يبلغ عرضها نصف متر، ثم السقيفة (10)، فالظل لاله (11)، ثم الدار الشرقية فوسط الحوش أو الردهة ويختلف اتساعها من بيت لآخر. فقد ذكر الرحالة كلابرتون في رحلته أن البيت الذي أقام به في سوكنة كانت له ردهة أو فناء مساحتها 18 قدم مربع، ويحتوي وسط الحوش كما يعرف بلهجة سوكنة على السلم، الذي يكون في أسفله على غالب الأحيان مخزن صغير إلى جانب مربع مبني من الطين يرتفع عن الأرض بمقدار نصف متر تقريبا يستخدم للجلوس، ويعرف عند الأهالي باسم الركابة.

أما القسم الثاني من البيت والذي يعرف عند الأهالي باسم تفالي (12) ويفصل هذا الجزء عن بقية البيت الأرضي باب يعرف بباب الدشع (13) ويتكون تفالي من المطبخ والمخازن وردهة مستطيلة على الغالب تفصلهما عن الشيعة والمولي (14) والكنيف (15) . أما القسم الثاني من البيت فيعرف عند الأهالي بالسطح ويحتوي على عدد من الغرف والمجلس (16)، والساباط (17) والسَّقاط (18) والكنيف.

إن الشيء الملاحظ على مساكن سوكنة بصفة عامة هو اختفاء النوافذ التي تطل على الشارع العام وخاصة في الطابق الأرضي من البيت، في حين أنها تكون موجودة وذات شكل هندسي فني رائع في الطابق الثاني من البيت.
وتفسير ذلك في رأينا يعود إلى العوامل البيئية والمناخية، فشوارع سوكنة رملية مما يسهل دخول الأتربة والغبار للبيوت خاصة الحجرات التي تطل على الشارع العام، إضافة إلى أن ارتفاع سقف البيوت ليس عال جدا ومن ثم فإن وجدت النوافذ سوف تكون في مستوى رؤية المار من الشارع وهو أمر يخالف العادات والتقاليد التي يحرص عليها السكان، ومن ثم اهتم السكان بتصميم الأفقية الداخلية للبيت والعناية بها، وجعلوا الفتحات الهامة الرئيسية تتصل بفناء البيت من الداخل والذي يكون مفتوح من أعلى أي غير مسقوف.

ونلاحظ أيضا أن الأهالي كانوا يركزون بشكل هام على المدخل الرئيسي للبيت، حيث نرى أنه كان يصمم بطريقة خاصة تتلاءم مع التقاليد العربية الأصيلة، فنجد أن المدخل لا يؤدي مباشرة إلى الفناء -وسط الحوش- بل يوصل إلى رحبة مربعة تعرف بالدراقة والرحبة توصل إلى ردهة أخرى هي المتعدية ثم إلى وسط البيت. وذلك حتى لا يتمكن أي عابر أو مار من الشارع أن يرى ما بداخل البيت.

لقد كان الفناء الداخلي في بيوت سوكنة معالجة معمارية تحجب عن الساكن كل عوامل الطبيعية الخارجية، وتترك له التمتع المطلق بالسماء وحدها. وبذلك فالفناء الداخلي معالجة معمارية ناجحة في رأي الباحث نابعة من بذور الفكر الصحراوي واستجابة صريحة لمقتضيات المناخ. لقد ركزت هذه المعالجة المعمارية للمنازل على الأفنية الداخلية وعولجت على أنها فراغات محدودة ثابتة وذات طابع خاص، حيث كانت الأفنية الداخلية إضافة إلى ما سبق غرفة للمعيشة الرئيسية تجري فيها أنشطة الحياة اليومية وخاصة في فصل الصيف لبرودتها.

والمساكن في سوكنة من الخارج بصفة عامة بسيطة المظهر متواضعة الشكل، ولم ينل الشكل الخارجي قسطا كبيرا من العناية، إذ تعطي الخوارج -وفق ما يرى الباحث- إحساسا عميقا بأن صاحب المسكن كان يبني لكي يعيش ويستمتع بحياته في هدوء، ولا يهتم بالحصول على إعجاب الناس من الخارج، في حين يدل عدد الحجرات واتساعها وكثرة المخازن في البيت على مكانة صاحب البيت الاجتماعية ومقدار ثرائه.

وبناء على ما سبق فإن أهم ما يلاحظ على البناء المعماري للبيوت في سوكنة ما يلي:

1-      تخصيص حجرة رئيسية هامة تواجه الشمال -البحري- وتطل على الفناء الداخلي الذي كان يعتبر عنصرا أساسيا في تصميم البيت.

2-   أن يكون المدخل متعرجا على نفسه مرة واحدة على الأقل ليمنع المارة من رؤية ما بداخل المنزل.

3-     احتواء الدور الأول على حجرة استقبال للرجال متسعة ومزدانه بالسجاد(19)، وهي ما تعرف عن الأهالي باسم المربوعة.

4-   احتواء الطابق الأرضي على قسمين -قسم للمعيشة وقسم للحيوانات والمنافع، واحتواء الطابق الثاني على غرف وشرفات ومنافع.

5-    اقتصار وجود النوافذ على الغرف الموجودة في الطابق الثاني.

6-   كثرة المخازن في البيوت ووجود آبار المياه داخل المنازل.

7-    كان يتم بناء البيوت من مواد خام موجودة في المدينة.

8-    كانت الحوائط تبنى على مداميك منظومة من الحجر والطين لتقوية دعائم البيت.

9-   كانت أبواب الحجرات كلها تفتح في فناء البيت المفتوح من أعلى لتلقى الضوء.

10-           كانت الأبواب تصنع من خشب النخيل، وتعد الأبواب الرئيسية أكبر حجما من الأبواب الداخلية، حيث يبلغ في العادة عرض الأبواب الرئيسية ما بين متر وعشرين سنتيمتر ومتر ونصف وارتفاعها مترين، أما الأبواب الداخلية فلا يتعدى عرضها التسعين سنتيمتر وارتفاعها متر واحد أو متر وعشرين سنتيمترا.

11-   وأما من حيث الشكل Form فإن الأشكال المختلفة التي اتسمت بها العمارة في مدينة سوكنة كانت ولا شك نتيجة طبيعية لعضوية مبسطة، وأن الطابع المميز لها هو الاستمرار الكتلي والتداخل الفعلي، هذا إذا ما أضفنا إلى ذلك حساسية خاصة لتفهم الشمس وانعكاساتها على الأسطح الملساء المختلفة، نستطيع أن ندرك لماذا تعتبر مدينة سوكنة آية في التشكيل الفني بأسطحتها البيضاء وفتحاتها الصغيرة. ومن ثم فقد وصفها إسماعيل رأفت بقوله أنها مدينة جيدة البناء.

هذه اللوحات الزيتية الفنية المعبرة تظهر ملامح ومعالم مدينة سوكنه في حقبة من الزمن كما عبر عنها الفنان محمد حجي في مجلده الفني (رسومات من ليبيا ) وهذا دليل يجسد التراث الليبي المترابط في شتى المدن الليبية , ما تناوله الفنان في جولته والتي شملت جميع إنحاء ليبيا الغالية ومن يريد المزيد من رسومات هذا الفنان يمكنكم الاطلاع على مجلده والمسمى (رسومات من ليبيا ) الدار العربية للكتاب..... أ علي أحمد يامي



الأحد، ديسمبر 31، 2017

التجربة النقدية المعمارية في ليبيا






جمال اللافي

يظن عموم المعماريين في ليبيا أنه ليس هناك حركة نقدية معمارية في ليبيا بتاتا. والحقيقة غير ذلك. فهي موجودة بدءا بتأسيس أول قسم للعمارة في ليبيا في جامعة طرابلس في العام 1969 م. ومع أول مشروع لمعماري خريج من هذا القسم ينفذ على أرض الواقع. هذا في حالة لم نعتبر مناقشة مشاريع الطلاب داخل قسم العمارة حالة نقدية تستهدف الارتقاء بالعمل المعماري وتحسين جودته.

أول مشروع معماري ينفذ، تعرّض هو وما بعده من مشاريع لحالة إهمال شديدة وتجاهل تام من طرف زملائه، لم يحتفوا به، لم يعلقوا عليه، لم ينشر حوله ولا مقالة صغيرة تبشر بمرحلة جديدة للعمارة في ليبيا، لم يتم تسجيله كسابقة معمارية ليبية. (مشروع المجمع السكني بزاوية الدهماني الذي صممه المعماري الطاهر الزلوزي، رحمه الله- كمثال) وغيره من المشاريع والمعماريين الذين تركوا بصمتهم المعاصرة على العمارة الليبية (أ. م. أحمد انبيص، م. خالد عجاج، م. جلال بن محمود، د. مصطفى المزوغي، أ. م. محمد القبلاوي. د. عبدالجواد بن سويسي. د. محمود دازة. م. عزت خيري، م. نوري عويطي، م. صالح المزوغي، م. ظافر الحميدي، م. حسام بورزيزة، م. أحمد ساسي، م. أشرف فرحات، م. أشرف نصر، م. مؤيد الفازع، م. حاتم الشكشوكي، م. أيمن العالم، م. أكرم العلوص، م. نعمان كرداش، م. هدى الفيتوري، م. هيثم دازه، أ. م. وليد التركي، م. لؤي بورويس... وغيرهم من المعماريين والمعماريات والمصممين ممن لم تحضرن أسماؤهم عند كتابة هذه المقالة). أعمال تستحق أن يقف عندها الناقد المعماري، ليسجل رؤيته النقدية حولها ويعطيها بعضا من وقته الثمين، دون أن يجحفها حقها.

إذاً، يمكننا اعتبار التجاهل والتهميش في حد ذاته حركة نقدية هدامة، تعتمد منهج اللامبالاة بأي منجز يحققه معماري ليبي من طرف زملائه وشركائه في المهنة من جهة. ومن طرف المعماري الناقد من جهة أخرى، فيتحدث أو يكتب عما يجري في العوالم المعمارية الأخرى، ولا يشير بصورة أو أخرى للحالة المعمارية في ليبيا، لا بالغمز ولا باللمز.

النوع الثاني، من الحالة النقدية في ليبيا، تعتمد على الكتابة النقدية التي تتجاهل الإشارة إلى أي محاولة تمت للإرتقاء بالعمارة الليبية المعاصرة، سواء في اتجاه التجديد أو التأصيل. وهي حركة تعتمد منهج الاستهانة بجهود المعماريين الليبيين من طرف زميلهم الناقد، فيتم الحديث أو الكتابة حول غياب هذه المحاولات، وكأني بهذا الناقد يعيش في برجه العاجي، متجاهلا ما يجري على أرض الواقع. مسفها لأي دور يضطلع به زملاؤه في هذا الإطار، والتعاطي مع كتاباته النقدية باعتبارها المحاولة الأولى التي يتبنى فيها ناقد الخوض في معترك النقد المعماري، متجاهلا الإشارة إلى العديد من المحاولات التي سبقته بعقود طويلة في إطار التأسيس لحركة نقدية معمارية ليبية، نراها في كتابات الدكتور رمضان بلقاسم والدكتور مصطفى المزوغي والأستاذ أحمد انبيص والمرحوم الأستاذ علي قانة في مجلة (آثار العرب) في منتصف التسعينيات من القرن الماضي. وأيضا كتاباتهم في (الصفحة الرابعة) بجريدة الشط في بداية هذه الألفية ومن بعدها كتاباتهم في مجلة مربعات. ولا يزال بعضهم يمارس هذه الحالة النقدية إلى يومنا هذا.

أما النوع الثالث، فهو ذلك الذي يتخصص في التعريض بمحاولات التأصيل للعمارة الليبية المعاصرة ووسمها بالتقليد، دون أن يكلف نفسه عبء مطالعة هذه الأعمال وتحليلها وتقييمها النقدي المنصف، بحيث يتم التعرف على مواطن التجديد ومكامن التقليد، عبر قراءة متأنية وموضوعية في أحد هذه الأعمال. ما يحصل ليس أكثر من تسفيه لجهود. وانتقاص لمحاولات جادة لها ما لها وعليها ما عليها من مآخذ.

أنواع أخرى من النقد، الذي امتازت بها الحركة المعمارية في ليبيا عن غيرها- لا تحتمل هذه المقالة سردها- تنبئ عن فراغ فكري أو معوقات نفسية أخلاقية تمنع من التأريخ لحركة نقدية معمارية معاصرة في ليبيا، تسهم بدورها في الارتقاء بالعمارة الليبية لتواكب تطلعات المجتمع الليبي، قبل أن تواكب مثيلاتها في الحراك المعماري العالمي.


الحركة النقدية المعمارية في ليبيا، لابد لها يوما أن ترتقي لتأخذ مسارها الصحيح، لأنها بصورة أو أخرى موجودة، سواء اعتمدت على مبدأ التجاهل والتهميش للمحاولات المعمارية التي تنجز على أرض الواقع. أو اعتمدت على تجاهل الجهود السابقة التي تبذل في إطار التأسيس لحركة نقدية معمارية ليبية. 

عمارتنا بين المادة والروح



  
المعماري/ رشيد كعكول

للعمارة عدة اتجاهات معمارية كل منها تحمل فكرة وتوجه خاص بها ، تيارات ومدارس ونظريات استمدت سيماتها من الثقافة والبيئة والظروف الاقتصادية والسياسية لمكان و مرحلة ما (الكلاسيكية – الوظيفية - العضوية – الحداثة – التفكيككية – الديناميكية – الخضراء ... الخ) هي ما  يمثل الجانب الفلسفي و الروحي لاي عمارة وهي الرابط السحري بين العمارة كفراغ وبين الانسان المستخدم لهذا الفراغ ليعطيه بعداَ يتجاوز فيه الزمان والمكان ، نظريات هي امتداد وتطوير لعمارة سابقة قديمة تشكلت هي الاخري تحت ظروف معينة ، نظريات تتسم بالتطور والتجدد حيناَ وبالاحياء والانتقاء حيناَ اخر عمارة يغديها الفكر والتجربة وهما عاملان مهمان للعملية الابداعية  وهو ماحدت في اوروبا خصوصاَ في الفترة مابين القرن الثامن عشر والعشرين ويستمر هذا الحراك الفكري المعماري الذي يتناول الظروف التي نشأت فيها العمارة في عصر ما والعوامل التي أثرت عليها والاشكال المعمارية والطرز التي انتجتها لديهم الي يومنا هذا ، عالمنا العربي عموما وفي ليبيا خصوصا نفتقد إلى هذا الجانب وهذا الحراك حتي في التقليد أو تبني أحد هذه الاتجاهات في الفكر المعماري فما بالك بالجانب الإبداعي فيه .
عمارتنا القديمة والتي لم تتطور للاسف واصبحت في كثير من الاحيان تتهم بأنها لا تتلائم مع متطلبات العصر الذي بحاجة الي مباني أكبر حجما ومساحة وبحاجة إلى ارتفاعات تتعدد فيها الادوار نتيجة لارتفاع أسعار الأرض والحاجة إلى زيادة عرض الشوارع نتيجة للتطور الصناعي والحاجة إلى دخول الآلة.
قصور اثار الكثير من الجدل ولكن الأهم من ذلك كله حسب وجهة نظري أن القصور الحقيقي يكمن في انحصار العمارة عندنا بمساحة معينة في الفكر المعماري قبل أن تحاصر واقعياَ بنمط آخر من العمارة المجلوبية Exociticism )  ) مما يجعلها جامدة لاتنمو لتثير جدلاَ واسعا بين قطبي العمارة (الوظيفية والشكل) علي مستوي المبني والمدينة علي حد سواء، رغم محاولة بعض المعماريين وخصوصا في المرحلة الإيطالية استنباط الكثير من مفرداتها.

هذا الجمود ليس بسبب فقر في مفرداتها المعمارية والبصرية ولا ملامحها التي اعطتها صبغة خاصة وإنما بسبب عدم دراسة الجانب الفكري الذي يكمن وراء المفردات البصرية. ونتيجة لعدم وجود دراسات حقيقية عميقة لهذه المفرداتها وتحليلها بموضوعية. كذلك نتيجة لانعدام الحركة النقدية المبنية علي أسس علمية صحيحة وعميقة في مفاهيمها للفكر المعماري لعمارتنا، والذي هو سبب لتطوير الحركة المعمارية أسوة بعالم الأدب الذي تطور بسبب تطور الحركة النقدية فيه وكان مفتاحاَ لتقدم بعض الدول عمرانياَ.
إن عدد البحوث والدراسات من الجهات المختصة ولكثير من الطلبة خصوصا طلبة الدراسات العليا بالخارج كبير وكبير جدا لم يتم استغلاله بالصورة المطلوبة ودراستها جيدا وفرزها وتمييز الجيد منها. لأن بعض أصحاب هذه البحوث والدراسات للاسف لجأ الي هذا الجانب  ليس لقناعة به وإنما للحصول علي شهادة لا اكثر ولا اقل. أما العمارة التي ننتمي إليها، فنتغى بها كما نتغنى بالتاريخ في المناسبات واللقاءات الخاصة، بينما الواقع ومانراه من عمارة اليوم شئ آخر.

لذلك نحن بحاجة إلى دراسة نقدية ملحة لفهم الجوهر الحقيقي لعمارة الماضي، دراسة فكرية وليست شكلية تتجاوزالعاطفة والصورة لتسبر اغوارها وتستكشف الافكار وراء المظاهر وتسبقها. فعمارة اليوم التي تحاصرنا ونشاهدها تغزو مدننا وشوارعنا يتم التركيز فيها علي الجانب المادي فقط والمتمثل في الدور الوظيفي للمبني وما يتطلبه من مساحات في تشكيل مشوه لامعني ولا روح فيه. وفي أحسن الأحوال التشكيلات الجمالية ال من أي حياة أو معني هي شطحات أقرب منها الي العمارة. وهي ايضا عمارة لا تستمد سيماتها من البيئة المحيطة والغنية وإن غلفت ببعض مفرداتها.

          نحن نخاف من المحاولة لأننا تقيدنا بقيود وهمية حاصرتنا وحاصرت مفهوم عمارتنا ببعض مفردات بسيطة أصبحت قدسية ومن الكفر المساس بها أو تطويرها. لنحاول ففي المحاولة يوجد النجاح، لنحاول حتي لا تتحول العمارة من حالة فكرية ثقافية إبداعية إلى مجرد أماكن مجردة  لتأدية وظيفة ما، حالة تفقد فيها العمارة الكثير من ماهيتها وأهميتها ودروها الحقيقي والرسالة التي تحملها. نحن بحاجة الي عمارة تعكس احتياجاتنا وأفكارنا ومعتقداتنا، عمارة نبنيها لتبني فينا قيمنا وهويتنا بل تتجاوز ذلك لتحدد أخلاقنا وسلوكياتنا، عمارة تلائمنا وتنظم وتخطط لنا حياتنا كاملة التي تتطور بتطور العصر.

          هذه دعوة إلى تبني دراسة وتحليل نقدي معماري لعمارة نفتحر بالانتماء إليها. يقودنا إلى تطويرها ولتتبلور في الثقافة والممارسة حركة معمارية معاصرة خاصة بنا وبهويتنا وبيئتنا في ظل غزو فكري و ثقافي معماري. 


الخميس، ديسمبر 28، 2017

الهمجية نقيض الحضارة






جمال اللافي

إمتدادا لمقالتي السابقة التي تناولت فيها مفهومي (الحضارة والمدنية) وإلحاقا لها. سأتطرق في هذه المقالة إلى مفهوم الهمجية كنقيض الحضارة والمتصادم معها والمقوض لأركانها ومعول هدمها. ومثلما تقترن المدنية بالحضارة فهي أيضا رديف الهمجية. وقناعها الذي تتستر خلفه بوجهها القبيح ووسيلتها في فرض قوتها الغاشمة، من خلال تطوير المدنية لتقنياتها العسكرية، وشرعنة المفكرين والمنظرين لها لمنطلقاتها وأهدافها وغاياتها ووسائلها القمعية. ولهذا يحصل الخلط عند عامة الناس وبعض مثقفيهم ومتعلميهم حين يرون مظاهر المدنية والتقدم الصناعي والتكنولوجي مزدهرة في بعض البلدان، مقرونة بالتحلل الخلقي والفساد القيمي فيحسبونه من الحضارة في شيء وما هو كذلك. وإنما تزول الحضارات وتندثر عندما تعم الفاحشة وينتشر الفساد القيمي المدعوم بنظم وقوانين ظاهرها خير وباطنها الشر.

والهمجية كعقيدة وفكر وسلوك وممارسة تعتمد في منهجها على مبدأ إقصاء المغاير ورفض فكرة التعايش السلمي أو المساواة معه في الحقوق والواجبات، إلى درجة التصادم والتعدي عليه وإبادته عرقيا ومسخه ثقافيا ونهب مقدراته الطبيعية وإهدار موارده البشرية في معاناة يومية تتعلق بالبحث عن لقمة العيش الكريم وشغلها بسفاسف الأمور. وبذلك تكون الهمجية عاملا رئيسيا وسببا في انتشار مظاهر الفساد والجريمة والتحلل الخلقي والعدوانية والفوضى في أوساط هذه المجتمعات التي تحتلها. لتصل بها إلى مرحلة التدمير الذاتي لمقوماتها الثقافية ومحيطها البيئي، كتعبير عن شعورها بالغبن والتهميش والإهمال والظلم والإقصاء ومصادرة الحريات الذي تتعرض له من طرف المحتل الهمجي أو من طرف من يوظفه هذا المحتل كواجهة صورية.

وقد ينحدر المجتمع المتمتع باستقلاله الذاتي أيضا إلى مزالق ممارسة السلوك الهمجي، تحت سطوة إعلام مضاد وموجه عبر وسائطه المتعددة من طرف مجتمعات أخرى مغايرة أو جهات تمتلك مقومات التأثير والسيطرة على أدواته التقنية، فيحصل الاستلاب الثقافي من خلال تماهي المجتمع مع ما يصدّره إليه هذا الإعلام من ثقافة متحللة من أي قيمة أخلاقية أو نفعية. يروج لها ويعلي من شأنها في مقابل الاستخفاف بقيم الطرف المقابل الأخلاقية والثقافية وإظهارها بمظهر التخلف والعجز عن مجاراة روح العصر ومعطياته. مما يترتب عنها قيام هذا المجتمع بالانسلاخ الطوعي عن قيمه الدينية والثقافية والاجتماعية وتدميره لشواهدها المادية والفكرية والرضا بشيوع التحلل الأخلاقي بين أبنائه، فيصبح المستهجن عنده مطلوبا والمستقبح جميلا، والشاذ مألوفا.

كل ذلك يتم في غياب النظام الحاكم الذي يفترض به أن يتبنى التوجيه والتوعية والتأصيل لقيم المجتمع الثقافية وصون عقيدته وحمايتها من أي مؤثرات خارجية متصادمة معها، عبر توظيف أهم وسيلتين مؤثرتين بشكل فاعل. أولها، التعليم- وخصوصا الحرفي- وثانيها، الإعلام. من خلال وضع رؤية عامة وسن القوانين التي تنظم عمل المؤسسات التخطيطية والتعليمية والإعلامية والثقافية لتحقيق هذه الغاية.



الأربعاء، ديسمبر 27، 2017

الحضارة والمدنية




جمال اللافي


ترتبط الحضارة ارتباطا وثيقا بقيم ومعتقدات الشعوب وعاداتها وتقاليدها المتوارثة. بينما ترتبط المدنية بالتقدم التقني وتطور الأساليب والمعالجات لكل ما يمس حياة الناس ويتعاطى مع احتياجاتهم المادية ويسهل عليهم سبل العيش ويعينهم على تكاليف الحياة.

لهذا نجد أن البون شاسع بين مفهومي الحضارة والمدنية وتطبيقاتهما وانعكاساتهما على الشعوب، فالحضارة ترتبط بالشق القيمي والثقافي من حياة الشعوب، وهو الشق الذي تتراكم فيه التجارب والخبرات والمفاهيم والمعتقدات والقناعات والرؤى التي تشكل أسلوب حياة وطريقة عيش، تتوارثها الأجيال للحفاظ على كينونتها وتمايزها عن الشعوب الأخرى، وبالتالي تشكل لها ملامح لهوية دامغة في مواجهة هوية الآخر. ليس من باب التضارب ولكن من نافذة التعارف، الذي ينتج عنه التلاقح والتزاوج في غالب الأحيان دون أن يفقد كل طرف هويته المستقلة بذاتها عن باقي الهويات.
أما المدنية فترتبط بالشق المادي وهو بدوره جانب متغير يتطور بتقدم التقنيات وزيادة الاكتشافات العلمية. والشق المادي قابل للتصدير والاستيراد دون أن يترتب عنه إخلال بمنظومة قيم أي مجتمع بقدر ما يدعمها ويفتح لها آفاقا جديدة توسع مداركها وتعينها على الارتقاء بأدوات التعبير عن ذواتها بأساليب ومواد وتقنيات جديدة.

الحضارة بمفهومها الشامل تستوعب كافة مظاهر المدنية وتستند عليها في الارتقاء بقيمها وأدوات ووسائل التعبير عنها، وإن كان للمدنية أوجه متعددة تتفاوت تقنياتها من حيث التطور أو البدائية من مجتمع إلى آخر، إلا أن غياب مظاهر التمدن لا يلغي بالضرورة وجود مظاهر الحضارة في المجتمعات، لأن المفهوم الحضارة ووسائل التعبير عنها متفاوت من شعب إلى آخر مثلها مثل مظاهر التمدن. فوجود الإهرامات مثلا أو غيابها لا يعني وجود حضارة أو غيابها. فالإهرامات مجرد أداة تعبير عن مستوى ثقافي معين ونظرة مختلفة إلى الحياة وعلاقة بين الحاكم والمحكوم، يراها آخرون بمنظار مختلف وأدوات تعبير مختلفة تكون رهينة بالعلاقة بين الحاكم والمحكوم أيضا. كما أن المدنية لا تعني بالضرورة الحضارة. فقد يكون هناك مجتمع متطور تقنيا ومتقدم صناعيا ولكنه يفتقر لمقومات الحضارة. وهذا يظهر جليا في المجتمعات الهجينة متضاربة الثقافات والقيم التي يغلب عليها الصراعات العرقية والطبقية. أو المجتمعات الفقيرة قيميا والتي تستورد منتجات ثقافات الشعوب الأخرى لتتقمصها في شكل لغات أو عادات وتقاليد وسلوكيات أو في ملبس ومأكل ومشرب أو في منجزات معمارية وفنية وحرفية وأدبية.

الحضارة، تصنعها الشعوب. أما المدنية فتصنعها الدولة ورؤوس الأموال. وهي بدورها التي تصون الحضارة من مزالق الاغتراب عبر توظيف مؤسساتها التعليمية والثقافية والإعلامية ومواردها الاقتصادية لهذه الغاية. وعندما يسيطر الساسة الفاسدون على مقومات المدنية وتوظيفها لخدمة مصالحهم تنحدر الحضارة إلى أسفل السافلين ويحدث الاغتراب الثقافي أو تعم الفوضى ويشيع الجهل بين أفراد المجتمع.

وتحت هذا الإطار يمكننا قياس مستوى التحضر لأي مجتمع بمقدار التزامه بقيمه الأخلاقية ومعتقداته الدينية وثقافته الأصيلة، ممثلة في عاداته وتقاليده المتوارثة، وذلك على المستوى التطبيقي من خلال الشواهد التي تعكس هذا الالتزام، في العمارة والفنون الحرفية، كذلك إبداعهم الأدبي بمختلف مجالاته وطبيعة المواضيع التي يتناولونها وفي السلوك والمظهر العام وفي مجالات العمل والتعاملات. 
أما مستوى التمدن فيأتي من خلال تقدير مدى التقدم التقني الذي وصل إليه المجتمع في الصناعة بمجالاتها المختلفة وأدواتها المتعددة، مقارنة بما وصلت إليه المجتمعات الأخرى في هذه المجالات. والأهم من ذلك فهي تقاس بمدى قدرة المجتمع نفسه على استحداث هذه التقنيات وإنتاجها من خلال حسن استثماره لموارده الطبيعية والعقول البشرية من ابنائه وليس على العقول التي يستوردها. وتوظيف مؤسساته العلمية والتعليمية لتحقيق هذه الغاية.

  

أنماط البيوت التقليدية في ليبيا

المسكن الطرابلسي التقليدي المنزل ذو الفناء " الحوش " جمال الهمالي اللافي مقدمة / يعتبر(...