الخميس، سبتمبر 10، 2020

وهم المعاصرة وثقافة الهدم

 

حوش قنابة- مدينة طرابلس القديمة


جمال اللافي

 

انطلاقا من قناعة، أن التأصيل للعمارة المحلية:

·   لا يعني التقوقع في الماضي، بقدر ما هي سيرورة في التاريخ، لا تتراجع إلى الخلف ولا تتوقف عند نقطة ولا تنحرف عن المسار. فهي مرتبطة بجذورها في الماضي وتتفاعل مع معطيات الحاضر، سواء تعلق الأمر بانفتاح الفكر المعماري على كل الاتجاهات المعمارية المعاصرة في العالم، أو بمواد البناء وتقنيات الإنشاء المستجدة، أو بما يستجد على الناس من حاجات ومتطلبات.

 

·   لا يرفض التطور( لا في الأشكال والتفاصيل، ولا في مواد البناء وتقنيات الإنشاء، ولا في التوزيع الفراغي للمباني)، فالتطور أمر حتمي ولا مفر منه، فهو ينبع من الفطرة البشرية، ولكنها تخطو خطواتها الثابتة وفق أصول وقواعد تضبطها وتحدد مسارها في الاتجاه الصحيح، الذي يبني على ما قبله ولا يهدم.

 

يمكن هنا الخوض في الحديث عن مفهوم المعاصرة من حيث اعتباره ظرف زمان من جهة ومن جهة أخرى حالة فكرية.

فالمعاصرة تعني الفعل في الزمن الحاضر. وكل فعل حاضر بالضرورة يبتعد بمرور الساعات والأيام والأعوام من ظرف الزمان الحاضر ليدخل في ظرف الزمان الماضي، في دورة لا تنتهي إلى قيام الساعة.

لهذا فالمعاصرة كفعل إبداعي في حقيقتها حالة حاضرة كزمن ورؤية فكرية أصيلة عندما تتولد من معطيات بيئية واحتياجات فعلية مستجدة للمجتمع المستهدف بها طرحاً ومنتوجاً مادي.

واختصاراً للموضوع سنسقط مفهوم المعاصرة على المسكن الليبي المعاصر. وهنا أمر يغيب عن عامة الناس يتعلق بتصميم المسكن. فلا يفرقون بين المسكن الذي تتوفر فيه شروط المحلية إلى جانب المعاصرة. والبيت الاستعراضي أو المستورد بحذافيره الذي لم يراع فيه المصمم أي اعتبارات تتعلق بالنواحي التالية:

1.     الخصوصية السمعية والبصرية:

·   بين أهل البيت والجيران، من حيث المواد المستخدمة في البناء التي لا تحقق العزل الصوتي. أو في تصميم مساحات وظيفية مفتوحة على إطلالة أنظار الجيران، فلا يمكن استعمالها كمساحات للجلوس خارج جدران البيت في الشهور المعتدلة أو في الصيف الحار.

·        وبين الضيوف وأصحاب البيت.

·        وبين حجرات النوم (التي تتطلب الهدوء) والمعيشة التي يكثر فيها صخب العائلة وضجيج التلفاز.

هنا نتحدث عن غياب الراحة والاستقرار والسكينة. وقصور في كفاءة التوظيف والاستعمال.

2.     الظروف البيئية المناخية:

فنجد المصمم يكثر من النوافذ الكبيرة وأبواب الشرفات الزجاجية التي تحتل كامل الحوائط دون ساتر لها من أشعة الشمس. ودون اعتبار لخاصية الزجاج الذي يسمح بدخول أشعة الشمس الساطعة التي تزعج النظر، وفي المقابل لا يسمح للحرارة المتولدة عنها بالخروج، مما يستدعي استخدام المكيفات بطاقة عالية لتبريد البيت واستعمال السواتر والكاسرات لحجب أشعة الشمس.

هنا نتحدث عن انعدام الراحة الحرارية وزيادة كلفة تنفيذ البيت ومصاريف توليد طاقة التكييف اليومية (عدم مراعات الكلفة وزيادة الأعباء الاقتصادية) بالإضافة لما يتسبب فيه التكييف الصناعي من مخاطر صحية.

3.     مواد البناء المتوفرة بالسوق المحلي وتقنبات إنشاء مكلفة:

فيضع المصمم مواد تشطيب لا وجود لها في السوق المحلي وتستعصي على صاحب المشروع استيرادها على حسابه، لوجود عوائق مادية أو خلافها. إلى جانب استخدام تقنيات إنشاء مكلفة لا تتوفر العمالة الفنية القادرة على تنفيذها بغير نظام الهيكل الخرساني الذي يستهلك كميات كبيرة من الاسمنت والحديد.

4.     كفاءة المبنى من حيث الاستعمال والوظيفة:

فيصممون فراغات ضائعة مهمتها الوحيدة إبراز جماليات الكتلة أو إحدى الواجهات. أو تصميم فراغات أساسية كحجرات النوم مثلا بمساحات إما صغيرة بحيث لا يمكن تأثيثها بكامل عناصر التأثيث المطلوبة، أو تكون بمساحات كبيرة يصعب ملؤها بعناصر التأثيث، أو تكون في جميع حوائطها فتحات لنوافذ طولية أو أبواب كبيرة فلا يمكن وضع عناصر التأثيث في أماكنها.

5.     اعتبارا ا للهوية المحلية والثقافة الإسلامية للتصميم واختلاف الطابع المعماري بين مدينة وأخرى وبيئة وأخرى:

حيث يقوم المعماري بتصميم أشكال رغم كل ما تحمله من جماليات ونقاء في تشكيلها المعماري، إلا أنها لا تنتمي إلى بيئة المكان المحلية التي صممت لها بتنوع تضاريسها ومناخها بين منطقة وأخرى. وخصوصية المجتمع وعاداته وتقاليده. إضافة إلى أنها لا تستمد مقومات حضورها في الكتلة المعمارية من المفردات المعمارية والزخارف المحلية الأصيلة، لا بالنقل الحرفي ولا بالاستنباط المعتمد على التجديد غير المُخل، حتى يمكن تعريفها وتحديد البيئة التي نشأت فيها وتنتمي إليها.

وأقل وصف لها أنها عمارة دولية تنتهج البساطة في تصميم الكتلة وعناصرها وبياض لونها، تضعها في أي بيئة فلا تشكل فارقاً، بقدر ما تطرح هذه الإشكاليات عندما تصطدم بمسألة الخصوصية الثقافية والاجتماعية والظروف البيئية والمناخية والحالة الاقتصادية للمجتمع ونذرة مواد البناء والتشطيب وغياب التقنيات الإنشائية والعمالة الفنية.

أشكال تبهر العين تعتمد على تمكن المعماري من برامج الإظهار المعماري. وعند المباشرة في التنفيذ تبدأ المشاكل في الظهور وتبدأ معها التعديلات في تصميم الخريطة لتتوافق مع الواقع. يعقبها تقديم التنازلات عن العديد من مواد البناء والتشطيب التي استعملها المعماري لتحقيق عنصر الإبهار.

 

ومن خلال هذا الاستعراض يمكننا تحديد خصائص العمارة المحلية للمسكن بتلك التي تأخذ في اعتبارها النقاط التي تم طرحها سالفا.

الجمعة، يونيو 26، 2020

بيت القادة لا بيت العبيد




جمال اللافي

راودتني هذه الأيام رغبة شديدة بإعادة إدخال خريطة معمارية صممتها ورسمت مساقطها الأفقية على الورق في منتصف التسعينيات من القرن الماضي، ونقلها على برنامج الرسم المعماري (SketchUp)، لأقوم باستكمال ما بدأته فيها وتحويل المساقط الأفقية إلى كتلة معمارية وواجهات. ومن تمّ إعادة النظر فيها وتعديلها من وجهة نظر جديدة بعد مرور كل هذا الزمن على تصميمها الأولي.

هذه الخريطة أعادتني بدورها إلى بداياتها في نفس الفترة، حين اتصل بي الفنان التشكيلي علي العباني، ليخبرني أنه قام بتزكيتي عند أحد أركان اللجان الثورية من أبناء مدينة ترهونة كان يتولى منصب مدير الشؤون الإدارية والمالية بمكتب الاتصال باللجان الثورية واسمه حسين السويعدي. وذلك لتصميم خريطة معمارية لمسكن سيخصص لقائدهم بمدينة ترهونة، تزامناً مع حملة تخصيص بيت له في كل مدينة.

حيث رأي هذا العضو باللجان الثورية، وربما كان ما خلص إليه هو نتاج حوار دار بين مجموعة من قيادات المدينة إلى جانب الفنان التشكيلي علي العباني (وفي قناعتي أنه صاحب الفكرة)، أن قائدهم كان يرفض هذه البيوت التي تقدم له في كل مدينة ويقوم بإهدائها إلى أحد زبانيته بتلك المدينة أو غيره. فتفتق ذهن هذه المجموعة على بناء مسكن بالمزرعة التي تم تخصيصها له بمنطقة الخضراء، بحيث يتمتع هذا البيت بمواصفات العمارة المحلية الريفية لمدينة ترهونة ويتم تصميمه الداخلي بعناصر تأثيث مستوحاة مما تمتاز به هذه المدينة من عناصر تأثيث ومفروشات. كذلك زراعة حديقته بأنواع النباتات العطرية والأشجار المثمرة التي تمتاز بها أيضاً مدينة ترهونة.

تحمست للفكرة بمجملها لقناعتي الشخصية أنها ستكون الفرصة التي انتظرها لتحقيق رؤيتي للعمارة المحلية بهذه المدينة مدعومة بكل الإمكانيات المادية والتقنية المطلوبة والخبرات الفنية التي ستجند له، في زمن شُحّت فيه الفرص والإمكانيات معاً. والتقيت بهذا العضو في الفندق الكبير صحبة الفنان التشكيلي علي العباني، ودار حوار حول الموضوع، وأبديت استعدادي التام لتحقيق هذه الفكرة بالصورة المطلوبة بعد توفيق الله سبحانه وتعالى لي.

مضت أيام على ذلك اللقاء وبعد زيارتي للمزرعة المخصصة لهذا المشروع بمنطقة الخضراء، جلست فيها على طاولة التصميم، حتى وصلت إلى النتيجة التي تمكنني من مناقشتها مع ذلك العضو. التقيت به في مكتبه بشارع عمر المختار، وأخبرته بأنني قد وصلت إلى النتيجة المطلوبة، الأمر الذي يستدعي الحديث حول الأمور المالية المتعلقة بأتعاب التصميم( متجاهلا نصيحة الفنان التشكيلي علي العباني بعدم الخوض في الأمور المالية وتقديم المشروع كهدية لقائدهم، الأمر الذي سيتيح لي فرصة طلب أي شيء منهم مستقبلا قد يكون مجزياً لي أكثر من ثمن الخريطة المعمارية). وكان موقفي هذا نابعاً من عدم رغبتي بالتورط معهم في تعاملات مستقبلية ليس لها علاقة بمجالي المعماري، إلى جانب اعتبار أن التنازل عن حقي المادي لإرضاء قائدهم أو أي مسؤول منهم عني هو بمثابة سقوط بالنفس في منحدر التزلف والتسول على موائدهم.
                     رد هذا المسؤول مُستهجناً: كيف!... هذا القائد ولا يصح أن تطلب مقابلاً على خدمة أُتيحت لك الفرصة لتقدمها له.
         فأجبته: الأخ القائد يملك الملايين من الأموال والسيارات والبيوت ومتزوج ولديه أبناء. أما أنا فلا أملك منها شيئا. والتصميم المعماري هو مصدر رزقي الوحيد. وأنا لا أطالب بغير حقي.
                     ابتسم، ثم سألني: كم تريد سعراً لهذه الخريطة؟
                     ذكرت له السعر المحدد لهذه الخريطة.
                     فأجابني: هل سيدفعها نقداً أم بشيك مصدق على حسابي في المصرف.
         فكان ردي: بشيك مصدق باسم مكتب الميراث للأعمال الهندسية. وحين سيتم تحويل المبلغ سأباشر بتسليم الخريطة المعمارية لكم، في حالة لم تكن هناك أي ملاحظات عليها.

انتظرت فترة طويلة تجاوزت السنة دون أن استلم المبلغ المطلوب، وبدوري لم أُسلّم في المقابل الخريطة المعمارية. حتى اتصل بي يوماً من مدينة ترهونة ابن خالتي محمود الشوشي (هما من نفس القبيلة)، ليخبرني أنهم يريدون هذه الخريطة، وأن المبلغ سيصلني، وهو الضامن لذلك.
فكان ردي عليه: سأسلمك الخريطة مادمت ضامناً لحصولي على اتعابي. وفي حالة لم تصلني هذه الأتعاب فسيكون ذلك على مسؤوليتك.
أستلم الخريطة. ولم استلم اتعابي حتى يومنا هذا.

          اليوم وأنا أرى حال مدينة ترهونة وأهلها المزري، وأين وصل بهم الحال، تذكرت هذه القصة، وتساءلت: ماذا لو استلمت حقي في وقتها. ونُفّذت هذه الخريطة كما هو مرسوم لها، مستثمرين الإمكانيات المادية والطبيعية والبشرية وتقنيات ومواد البناء المتاحة بهذه المدينة، التي ستسخر لتنفيذ هذا البيت، كيف كان سيكون تأثير هذا المشروع على مستقبل المدينة وأهلها... بالتأكيد ستكون:
     انطلاقة على منواله يحتذي بها أبناء المدينة في تصميم بيوتهم (بيوت القادة لا العبيد) ومشاريعهم العمرانية الأخرى.
      المدى الذي ستتغير به الكثير من معالم مدينة ترهونة وتحسين بيئتها العمرانية.
     حجم الفرص التي ستتولد عنه لتحسين أوضاع أبناء المدينة المعيشية من خلال فتح أبواب عمل مرتبطة بمجال البناء وملحقاته.
      جعل مدينة ترهونة نموذجاً تحتدى به باقي المدن الليبية.

قد يسهل على المسؤول الليبي الفاسد والبطانة المحيطة به أن يسرق جهد الآخرين وحقهم المادي. ويصعب عليه أن يكون له أي إسهام على أقل تقدير في إعمار مدينته وإصلاح شؤون أهلها ورعايتهم بما يستوجبه الواجب وصلة الأرحام.

كلمة حق تؤلمني كثيراً، وآلمتني أكثر حين سطّرتُها، قبل غيري من أبناء هذه المدينة. ولكن مرارة الآلام حتماً ستوقظ يوماً ما جيلاً سيأتي، يعرف لهذه المدينة حقها عليه، فيعيد إعمارها بالنفوس الخيّرة والقيم الفاضلة قبل إعمارها بالمباني المُشيّدة. فبالأخلاق تتحرر النفوس من ربقة العبودية لغير الله سبحانه وتعالى وبها تعمر المدن وتزدهر الحرف والصناعات والفنون، ويعم السلام والأمن في ربوعها والأمان بين أهلها وجيرانها.

لمدينة ترهونة بعون الله مع المستقبل فرجاً كبيراً وخيراً كثيراً. فما سقطت أمة، إلاّ وآلمت أحرارها. فأعقب سقوطها نهضة عظيمة.



الخميس، يونيو 18، 2020

نظرة على عمارة مدن البحر المتوسط

مما لا شك فيه أن هذا المبنى يتسم بالبساطة والجمال. ولكن هل يمكننا تحديد هويته؟



جمال اللافي

عمارة المدن المحيطة بالبحر الأبيض المتوسط في عمومها وبلا إستثناءات إسلامية التأثر. وهي في بساطة تكويناتها وبياض سطوحها مثلما نهلت من بعضها البعض إلاّ أنها تمايزت عن بعضها في تفاصيل مفرداتها المعمارية والزخرفية ما بين الإطناب والتبسيط. كما تمايزت هذه المدن في فترة الحكم الإسلامي بتعدد ألوان سطوح مبانيها وتنوع تفاصيل مفرداتها المعمارية والزخرفية بما يعكس التمايز في دياناتها وشرائعها.
فكان بذلك اللون مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بشريعة أو عقيدة أصحاب كل بيت من بيوتها وكل مبنى من مبانيها. ولم تخضع حتى وقت قريب العهد هذه الألوان لذوق صاحب البيت أو مالك المبنى، أو لفكرة توحيد اللون في هذه المدن تبعا للعقيدة المسيطرة أو للون الأزرق باعتباره لون هذه البحيرة المتوسطية أو لون سمائها، متجاهلين بذلك (مثلاً) اللون الأخضر باعتباره لون طبيعة أراضيها السائدة، أو الأصفر باعتباره لون شمسها الساطعة طوال أشهر السنة.

مع انتشار ظاهرة الاقتصاد السياحي في منتصف القرن العشرين وسقوط الرمزية العقائدية في اختيار ألوان سطوح المباني ومفرداتها المعمارية والزخرفية، وذلك يعود لسببين جوهريين وهما:
·        انحسار المد الإسلامي على شعوب المنطقة بعد سقوط آخر معاقل الإسلام في الأندلس.
·   التغريب الثقافي الذي واكب احتلال الشعوب الاسلامية من طرف الدول الغربية وهيمنتها على المنطقة لعقود طويلة عسكرياً وإلى يومنا هذا سياسياً وتعليمياً وثقافياً.
انتشر اللون الأزرق وطغى على باقي الألون في طلاء المفردات المعمارية من أبواب وشبابيك وقباب في مدن تونس واليونان بشكل ملفت للنظر. بينما احتفظت العديد من المدن الأخرى بحالة التمايز اللوني تبعاً للعقيدة السائدة. وكانت المدن الساحلية في ليبيا الأكثر تمسكاً بثقافة اللون الأخضر إلى عهد قريب.

استلهم العديد من المعماريون الغربيون المعاصرون معمارهم المعاصر المعتمد على نقاء الكتل وبياض السطوح من العمارة التاريخية لهذه المدن، متجاهلين صرخة الحداثة وما أعقبها من صرخات الثورة على عمارة هذه المدن التاريخية والانطلاق بالعمارة من الصفر. وأضحى تحديد الهوية المعمارية لهذه التصاميم وعلاقتها بالبيئة الثقافية لكل مدينة متوسطية رهين حالتين:

الأولى مرتبطة بلون السطوح والعناصر المعمارية وذلك على هذا النحو:
·   لو طليت هذه العناصر باللون الأزرق وسطوح المباني الخارجية باللون الأبيض فسيتبادر إلى الذهن أن هذا المبنى موجود في اليونان أو تونس مع ترجيح ضعيف أنها موجودة في فرنسا.

·   أما إذا طليت هذه العناصر باللون البني وسطوح المباني الخارجية باللون الأصفر فستذهب الترجيحات المؤكدة إلى إيطاليا ثم إسبانيا وبصورة غير مؤكدة إلى ليبيا والمغرب.

·   وفي حالة طليت هذه العناصر باللون الأخضر وسطوح المباني باللون الأبيض فمن المؤكد أن المبنى موجود في ليبيا وتأتي في المرتبة الثانية إيطاليا ثم إسبانيا.

ومن هنا نستنتج مدى تأثير ثقافة اللون على الصورة الذهنية لموقع المبنى وهويته المعمارية. والاستثناءات موجودة بصورة محدودة في كل مدينة متوسطية تم ذكرها أو لم يتم التطرق إليها بالذكر.

وهذا يقودنا إلى نقطة أخرى وهي الثانية في مسألة تحديد هوية المبنى بين المدن المتشابهة في ألوان مبانيها، وهي تلك التفاصيل المعمارية والزخرفية المتعلقة بالمشغولات الخشبية كالأبواب والنوافذ وعناصر التأثيث، والمشغولات الزخرفية المعدنية المرتبطة بحديد الحماية، بالإضافة إلى الأعمال الجصية التي تدخل في زخرفة الأسقف والحوائط. فهي التي تُضفى خصوصيتها على كل مدينة من المدن المتوسطية وكل بيت من بيوتاتها تبعا لعقيدة الساكن وثقافة المدينة. وما يحدث اليوم من تجاوز لهذا الأمر يعود لمسألة انتفاء هذه الخيارات من انتمائها لثقافة العقيدة، والتماهي مع ثقافة التقليد المرتبطة بالتبعية  أو التأثر بثقافات الدول المستعمرة سواء كانت عن وعي وإدراك أو عن جهل معرفي.

إلغاء هذه التفاصيل المرتبطة باللون والزخرفة من حسابات المعماري المعاصر في تصاميمه لا يعبر عن محاولة للنأي بنفسه عما يسميه استنساخ ولصق لهذه العناصر والتفاصيل، إنما يعني ذلك أنه يفقد تصاميمه تلك الخصوصية التي تميز هوية المبنى وموقعه من رقعة هذا العالم الممتد. كما يفقد المبنى تواصله مع التاريخ، ليرمي به في منحدر الحداثة التي دعت قبل سقوطها المدوي إلى القطيعة مع الماضي (وهي تستهدف به بالدرجة الأولى ماضي الأمة الإسلامية) والانسلاخ من الهوية الثقافية المرتبطة بالعقيدة والانطلاق من نقطة الصفر (التي تعني بداية موجة الاحتلال العسكري وتوابعه التعليمية والثقافية)، التي وضع منظروها الغربيين أساساتها واتجاهاتها ومبادئها وعناصرها، وبالتالي سقوط المعماري (المسلم) من حيث يعلم أو لا يعلم في مطب التقليد المقرون بالتبعية الذي يدعي الترفع عنه.

وهنا يمكننا القول، من حيث المبدأ، قد نُقر من حيث المبدأ أن من حق هذا المعماري أن لا يصبغ عمارته بهويتها التي تعبر عن البيئة التي صممت لها، فهذا شأنه الخاص مادامت قوانين الدولة وتشريعات مبانيها تقر له بذلك. ولكن في مقابل ذلك لا يحق له أبداً الادعاء بأنه يقدم طرحاً معاصراً لعمارته المحلية بمجرد طلاء عناصر مبناه باللون الأخضر. فاللون هو أحد العناصر التي تشكل هوية المبنى وليس كل ما فيه. فاللون الأخضر منتشر في العديد من المدن المتوسطية بغض النظر عن اللون المسيطر على تلك المدينة أو عقيدة ساكنها.

ولا يفوتني هنا الإشارة إلى أن تفاصيل بعض العناصر المعمارية كفتحات النوافذ في مساحتها التي تتسع أو تضيق طولاً وعرضاً تبعاً للظروف المناخية والمؤثرات الاجتماعية، بين بيئة تبحث عن الحماية من أشعة الشمس الساطعة وارتفاع درجات حرارة الجو، والبحث عن الخصوصية. وبيئة أخرى باردة- في غالب فصول السنة- تبحث عن الدفء المفقود، ولا تضع اعتباراً للخصوصية في جميع الأحوال. بل وصل الأمر بالعمارة الأوروبية المسيحية الاتجاه إلى زيادة رقعة المساحات المفتوحة (النوافذ) من حيث العدد في الواجهة الواحدة وأبعادها دون مراعاة لمسألة سطوع الشمس وارتفاع درجات الحرارة في الدول المتوسطية المقابلة للشاطئ الأوروبي ضاربين بالخصوصية عرض الحائط السميك.

كذلك لا يعني الانفتاح على الأفنية والاتجاه بفتحات المبنى إلى الداخل أننا اكتفينا بهذا الحل للتعبير عن انتماء المبنى لعمارته المحلية. فهذه أيضا من القواسم المشتركة لعمارة مدن البحر المتوسط وغيرها من العمائر التاريخية والمعاصرة.

وأخيرا/
أن مرد هذه السطحية التي يتعامل بها المعماري في تصاميمه، وتلك النظرة القاصره في فهمه لمعنى التأصيل والمعاصرة، ناتج بالدرجة الأولى عن فقره المعرفي الذي يحدد ضحالة ما يدعيه، وهو الأمر نفسه الذي يدفع غيره من أفراد المجتمع إلى القبول بهذا المنتوج الذي يقدمه لهم هذا المعماري أو ذاك على علاته دون مراجعة أو تمحيص وفي الغالب دون مبالاة، في ظل الجهل المعرفي الذي أحاط بأفراد المجتمع بخواصه وعوامه. بل أن جهل الخواص أشد من جهل العوام. وهم من قاد مسيرة التجهيل لتصل إلى ما نحن عليه اليوم من تطاول على الموروث الثقافي، وخوض محموم في أوحال التبعية وقذاراتها المنتشرة اليوم في مدننا المعاصرة تحت مسمى الحداثة والمعاصرة.



الأربعاء، مايو 27، 2020

حول دور المعماري




د رمضان الطاهر أبوالقاسم
جامعة طرابلس
قسم العمارة والتخطيط العمراني

منذ الأزل برز المعماري كأحد الشخصيات المهمة في بناء المجتمع  والحضارات من فيتروفيوس المعماري الروماني الى زها حديد المعمارية العربية ذات الشهرة العالمية الواسعة. وأهمية المعماري  برزت من خلال شمولية مسئوليته وما قدمه للمجتمع من أفكار ونظريات وما صممه من صروح ومعالم الكثير منها لا يزال يجذب إليه المهتمين الذين يشدون الرحال لزيارة وتفقد مباني البعض منها أطلال وكثير منها قيد الاستعمال.

في المقابل يبرز المشهد المعماري المعاصر بصورة مثيرة وغير واضحة المعالم  تجعل البعض يتساءل عن دور المعماري في هذا المشهد. فتعدد "أساليب"  التصميم وطرق البناء وتزايد التخصصات المهنية المتعلقة بالعمارة ضيق على المعماري من حيث المسئولية وأبعد العمارة عن بعدها المكاني. وأصبح مستوى  ممارسة المهنة لحرفة العمارة  مستوى عالمي فكثير من المعماريين العالميين لهم فرق مهنية  متنوعة التخصصات تعمل معهم ومكاتب في عواصم مختلفة ويتنقلون من مكان لآخر لمتابعة مشاريعهم. هذا التطور أحدث نوع من اللبس في دور المعماري الذي عرف به عبر التاريخ  كسيد البنائيين “Master Builder”   .

إن أهمية التفكير في مستقبل العمارة ومستقبل المهنة لا يعفي من أهمية قراءة الوضع الحالي وواقعه على الأقل على المستوى المحلي. حيث تبرز الحاجة لوقفة لمراجعة إرث المعماري ودوره في المجتمع. خاصة وأن المجتمع المعاصر أصبح في سباق مستمر مع الكثير من التطورات الثقافية والمكانية والإقتصادية. والمعماري بطبيعة تكوينه المهني له مسئولية، بالاضافة للتصميم والبناء، اجتماعية وهذه المسئولية تتعدى البعد المهنى لتشمل البعد الاجتماعي الاخلاقي .

التركيز على مناقشة دور المعماري أو المصمم في المجتمع سيكون بمثابة التنويه بأهمية النقد الذاتي بدل التغافل وتسليط الضوء على متغيرات خارجية بعيدة عن سيطرة المعماري حيث قدرته التاثيرية فيها محدودة. طرح دور المعماري في المجتمع وتوضيحها ببعض تجارب المعماريين على المستوى المحلي والعالمي قد يتيح الفرصة لإعادة تموضع المعماري والمهني في الموقع "الصحيح "الذي يجب أن يكون فيه داخل مجتمعه.

يتبلور دور المعماري بما يتلقاه من معارف وعلوم خلال مرحلة تعليمه المعماري. وتأهيله يختلف عن التعليم والتأهيل في العلوم والمعارف الأخرى حيث يشمل جوانب إبداعية وفنية وعلوم إنسانية وسلوكية وتقنية عديدة. وتوفر المدرسة المعمارية والمشهد المحيط  بداية مهمة لهذه النشأة . وقد عرف هذا من متابعة سيرة رواد العمارة . والمعماري الفرنسي الشهير هنري لابروست (1801 -1875) ينتمي الى أكثر جيل عرف بالقوة والحماس والحيوية لشعوره بأن الحياة  في القرن التاسع عشرتحتاج للتغيير على المستوى الفكري والاجتماعي والاخلاقي. في صيف 1830 وبعد رجوعه من روما لمدينة باريس وجد برنامج الأكاديمية لم يغير. فكتب لأخية خطاب يقول فيه: " ماذا يجب أن أقول لك عن المدرسة (مدرسة الفنون الجميلة)، برنامج المواد الدراسية دائماً غير مشوق وسيء الترتيب. وطلابها يفتقدون الحماس. وأساتذة الاستوديو التعليمي يستنزفون أنفسهم من خلال مجهود عقيم في برنامج مثل هذا .....  العمارة يجب الا تكون رهينة برامج دراسية  كتلك التي تتبع في مدرسة الفنون الجميلة. الإصلاح مطلوب فهل لدى أساتذة المدرسة الشجاعة لجعل هذا المطلب المُلح (الاصلاح والتغيير لفننا "العمارة) غايته".     (Giedion, S. 1973 p. 219)

المعماري في عمله ومن خلال خبرته المهنية والعملية لديه القدرة على بلورة ما اكتسبه من مهارات وتقديمها من خلال برامج ومقترحات مختلفة. لقد افتتح لابروست مدرسته الخاصة مقابل مدرسة الفنون الجميلة  وجعل طلابه يجتهدون ويعملون بجد الأمر الذي جعله يشعر بالسعادة لوجوده بينهم رغم عداء خصومه  من الأكاديميين الذي حال بينه وبين الحصول على أعمال. انتظر لابروست أكثر من اثنى عشر عاماً  للحصول على فرصة لإظهار قدراته في عمل يتم تنفيذه وعلى قدر من الاهمية. حيث جاءت الفرصة لتصميم وتنفيذ  سانت جينفياف في باريس سنة (1843-1850) Giedion, S. 1973 p. 220),).

في زمننا المعاصر، تغير دور المعماري تغيراً كبيراً وتجاوز التصميم ليشمل التفكير في متطلبات المشروع المختلفة وإيجاد مصادر لتمويل المشاريع وجمع شركاء المشروع وتوجيههم للعمل كفريق واحد متجانس للمشروع وهذا في كثير من الأحيان يتطلب تخصصات دقيقة ومتشعبة وكثيرة. هذا التغير تولد عنه ملل وارتباك ولبس على مستوى الأدوار بين المعماريين والناس. ما الذي يجب عمله وما هو المخرج من الفوضى.

هناك حاجة لفهم واع لدور المعماري في المجتمع architect critical role”" ، من نحن، فقد عرف المعماري خلال وجوده في فصول دراسته الجامعيه أن دوره يكمن في تهيئة البيئة المحيطة "من حيث التصميم" وإعدادها لرفاهية الإنسان وإزدهار الحياة. وهذا الفضاء أو المحيط الذي يستهدفه المعماري هو ذلك الحيزالذي يشترك فيه الجميع، المعماري وشركاءه حيث تنطلق الحياة من الفرد وتمتد لتكّون بعدها الاجتماعي.

ففي الوقت الذي توّلد لدى بعض المعماريين القناعة الكافية بالإنشغال بهموم وتحديات الحياة الحديثة وتقديم مقترحات لبدائل تصميم تستجيب للموارد المتاحة والبيئة المحيطة وترسخ وجود الإنسان واحتياجاته عكس آخرون ميول متذبذبة بين أساليب "نجوم" العمارة المعاصرة  لترويج، أعمال "تصميمية" إستعراضية خالية الجوهر وشاذة عن المحيط الموجودة به.  حيث عكست مثل تلك الأعمال أحاسيس مختلفة وغير ثابتة لأصحابها تجاه العمارة.

الغرض من مناقشة دور المعماري ليس إلقاء اللوم على المعماري كونه السبب في كثير من مشاكل المجتمع وكما أنه لا توجد نية للإنتقاص من إبداعات المعماري أو التسويق لبعض "الأفكار المتطرفة" فإن الهدف تسليط الضوء على دور المعماري داخل مجتمعه وتشجيع الخوض في مناقشة هذا  الدور على أمل استرجاع الثقة بالنفس واسترجاع ثقة المجتمع في المعماري. إن المساهمة في بناء إطار معرفي للعمارة عالى المستوى. يتم بتاكيد وعي المعماري بدوره داخل المجتمع ومسئوليته تجاه إرثه أو مهنيته نظرياً وعملياً. مشاكل المجتمع ليست من صنع المعماري ولكن يمكن للمعماري المساهمة في تقديم "حلول" أو مقترحات تخفف من وقع هذه المشاكل. فبفكره  وخبرته العملية  يكون المعماري  مؤهلاً لدور فاعل. والمعماري على مدى تطور تاريخ العمارة أثبت هذا الدور الإيجابي.

كلود نيكولا لودو Claude Nicolas Ledous 1756-1806
من أوائل رواد العمارة الفرنسية "الحديثة" ، Visionary architects ، حيث طوّع معارفه النظرية لتصميم مباني متنوعة وتخطيط مدن تجسد رؤية مكانية متميزة استطاع ترجمتها لواقع في كثير من الأمثلة، مثل مباني بوابات مدينة باريس والمدينة الصناعية القريبة من مدينة جنيف. مدينة Saltworks at Arc-et-Senans 1775-1779. يرى الكثير من النقاد هذه المدينة كنموذج للمدينة الصناعية الحديثة وتحفة أعمال المعماري لودو الذي يتجسد فيه المواءمة بين العمارة والمتطلبات التقنية الصناعية الحديثة دون سيطرة أحدهما على الآخر. لقد استطاع المعماري أن يبين اهتمامه بجودة العمل المعمارى بغض النظر عن طبيعة التصميم حيث ظهر تصميم المدينة كتصميم معلم معماري آخر مثل القصر. فالفخامة يمكن تحقيقها حتى في تخطيط المدينة الصناعية وتصميم مبانيها.


 المدينة الصناعية (لودو 1775-1779)
جين نيكولا لويس دوران Jean-Nicolas-Louis Durand 1834-1760
كأمثاله من رواد العمارة الذين مهدوا الطريق لتطوير العمارة الحديثة يعتبر المعماري دوران من الوجوه المعمارية الرائدة لتطوير العمارة حيث لم يقتصر دوره على التصميم بل شمل التنظير والتأليف عن العمارة والتدريس بالمدرسة التقنية بباريس منذ 1795.

هذه الحماسة لتبني انشغالات الفترة وللعمل المعماري جعلته يقدم العديد من النماذج لتصميم المباني التي تتطلبها الحياة العصرية وقد استندت مقترحاته في مجملها على استخدام نظام الوحدات الصناعية الحديثة للمباني. قد تكون خلفية المعماري التعليمية، والتي تتلمذ فيها على يد اتيان لويس بوليي والمهندس المدني جين رادولف بيروني، ساهمت في الجمع بين بصيرة المعماري وعقل  المهندس. لقد استمر تأثير نهج دوران التصميمي ليظهر واضحا في أعمال المعمارين المعاصرين.



نماذج تصميم مباني للمعماري دوران

رواد العمارة الحديثة Modern architects

تمثل "الفترة المتأخرة"من العمارة الحديثة، الربع الأول من القرن العشرين فترة تشبع وتدافع كبيرين على مستوى العطاء المعماري النظري والعملي حيث تعددت التيارات والمواقف النقدية بشأن ما يجب أن تكون عليه ملامح العمارة الحديثة وزاد من هذا التعدد تداخل التوجهات الفنية لرواد الفن الحديث وامتزاجها مع رؤى  المعماريين ويبرز هذا في تيار المستقبليين في منتصف العقد الثاني من القرن العشرين أو اتجاهات الحركة البنائية نهاية العقد الثاني من نفس القرن أو تقليد مدرسة الباوهاوس الذي استطاع بعد فترة مخاض أن يُرسي قواعد للتعليم المعماري الحديث وممارسة المهنة ولو أن هذه المدرسة لم يكتب لها التمتع بمبادىء روادها والتعايش مع النظام السياسي.

رغم التحديات، استطاع جمع من المعماريين أن يتحدوا في مشروع جامع يقدم نموذجاً لمجابهة مشكلة العصر، مشكلة توفير المسكن الملائم والميّسر.
فالمشروع السكني ويزنهوف  Weissenhof Estate   والمشيد في شتوتجارت بألمانيا سنة 1927 أقيم لجمعية الفنانين والمعماريين والصناعيين الألمان والتي تأسست سنة 1907 ليكون معرضاً لنماذج السكن الحديث وللترويج لنمط العمارة الحديثة أو الطراز العالمي الحديث. وقد شارك في هذا المعرض العديد من المعماريين أمثال لوكوربوزييه الذي قدم نموذجين من المباني وهانس شارون الذي صمم "فيلا" سكنية عند أحد أطراف الموقع وجي بي اوود الذي ساهم بتصميم عدد من المساكن المتلاصقة. وميس فان دوروه الذي تمثل مقترحه في مبنى سكني متعدد الأدوار. استمر عطاء ميس فان دروه بعد ذلك حيث قدم سنة 1952 مقترح حل لمشكلة السكن يتمثل في تصميم  بيت 50 ×50 لم يكتب له فرصة تنفيذه على أرض الواقع ولكن وجد من أنجز له مجسم للعرض بنصف مقياسه الحقيقي.



مشروع ويزنهوف السكني ، مدينة شتتجارد
 


مقترح ميس لتصميم بيت 50X50
ساهم المعماريون في هولندا في تطور العمارة قديماً وحديثاً. وظهرت مجموعات وفرق تنافست وقدمت احسن ما لديها لتطوير العمارة. ومن اشهر المجموعات مجموعة DeStijl   التي ضمت عدد من الفنانين والمعماريين الذين رأو في انفسهم مسئولية إحداث التغير على صعيد التصميم المعماري وممارسة المهنة. وقد بدأ مهمتهم بمقالات منشورة في المجلات الفنية وتحت أسماء مستعارة تحرّض على التحديث.
وكان المعماري هندريكسبيتروس بيرلاج 1856-1934 والذي يعتبر مؤسس العمارة الحديثة في هولاندا وله تأثير كبير ومُلهماً للمعماريين المعاصرين له والذين جاؤوا من بعده سواء كان ذلك ناتجاً من إرثه المعرفي الذي تركه على هيئة كتابات عن العمارة أو أعماله المعمارية التي امتدت لفترة الأربع عقود. ومن أشهر أعمال برلاج تخطيطه للجزء الجنوبي من مدينة امستردام سنة 1915. لقد أتاح مشروع تطوير الجزء الجنوبي لمدينة امستردام الفرصة للمعماري لتطبيق رؤيته عن العمارة . اعتقد برلاج أن المجتمع الحديث فقد الكثير من قيمه الروحية التي تربطه وأن هناك فرصة لاسترجاع هذه القيم من خلال ربط العمارة التقليدية والحديثة وتسخيرها لتوفير بيئة معيشية مريحة.




مشروع برلاج السكني، امستردام هولاندا



نموذج التخطيط الذي اقترحه لبرلاج لتطوير الجزء الجنوبي من مدينة امستردام

حسن فتحي
تعرض  المعماري حسن فتحي لنقد متباين حول نجاح أو فشل  فلسفته المعمارية خاصة في مشروع قرية "قرنة الجديدة" الموجودة على الجانب الغربي من نهر النيل  في مدينة الأقصر في صعيد مصر.في تصميمه لمكونات القرية المختلفة، حرص حسن فتحي  على المحافظة على خصائص العمارة المحلية في ريف مصر وتجنب أي شيء يتعارض مع طريقة عيش السكان  وتوفير بديل يضمن الإستقرار لأهالي المنطقة والمحافظة على الآثار بالمنطقة.

التوزيع الفراغي للقرية  والبيوت تم تصميمها وفق طريقة عيش السكان وعلاقات الترابط الاجتماعي بينهم. كما استخدم الطوب الطيني وتقنات البناء المحلية في بناء القرية وتم إحياء واستعمال عناصر التحكم البيئي مثل ملاقف الهواء لتلطيف الهواء الداخلي . لقد رأى حسن فتحي في مقترحه لقرية قرنه نموذجاً للتنيمة المكانية في الأرياف.

حسن فتحي بالنسبة للكثيرين نجح في ترسيخ نظريةالاعتماد على الذات (  a theory of self-help  )  من خلال احترامه للخصائص الاقتصادية والاجتماعية للمكان. أحد النقاد ذكر أن تصور حسن فتحي لمسكن للعائلة الريفية وضع وفق احتياجات ورؤى الفلاحين وليس وفق رؤية المصمم ساكن الحضر.
تمثل تجربة حسن فتحي تجسيداً لفكرة الاعتماد على الذات والجدوى الاقتصادية لها.  كما تمثل  جهوده أهمية البحث عن التقنية الملائمة  من خلال التأكيد على أهمية استخدام أساليب البناء التقليدي وبساطته. المحافظة على قيم الموروث المعماري تعتبر إنجازاً آخر يضاف لمساهمة  فكر حسن فتحي وممارسته المهنية. ويظهر هذا في حرصه على استخدام العناصر المعمارية المختلفة المستوحاة من البيئة  المحيطة للمحافظة عليها. لقد نجح حسن فتحي في ترسيخ دور "العمارة الاسلامية" كعمارة مستدامة  في وقت انبهار الكثيرون ب"العمارة الحديثة".


قرية القرنة الجديدة

الخاندرو أرافينا
الخاندرو أرافينا مهندس معماري من مدينة سنتياجو بتشيلي ولد سنة  1967 حازت أعماله المعمارية على عدة جوائز كما لديه مؤلفات عن العمارة  وهو ايضا استاذ زائر بجامعة هارفرد الأمريكية تعكس أعماله فلسفة خاصة قوامه الاستدامة والبيئة والتشبت  بالمشاركة المجتمعية في العمل المعماري، وهذا قد يكون مصدره اعتقاده الراسخ بأنه ليس نجماً بل مقدم خدمة للمجتمع وكذلك إيمانه بأن تعقد المشكل المعماري حله يكمن في بساطة المقترح المقدم بالخصوص. وأن العمارة، بالنسبة لالخاندرو ، نوع من الجهاد لتحقيق جودة البيئة المعيشية.

ويعتبر مشروع الإسكان الاجتماعي في مدينة ايكيك المتاخمة لصحراء تشيلي ، مشروع كونتا مونر"Quinta Monroy" الذي مهد طريق الشهرة للمعماري . في هذا المشرع اعتبر الخاندرو أن المسكن ليس مجرد سقف لحماية الساكن ولكن استثمار اقتصادي للمالك يمكن أن يعود عليه بكثير من النفع. فرغم الميزانية المحدودة جداً التي وضعتها الحكومة لهذا المشروع إلا أنّ المعماري لم يتنازل على جودة البيئة المعيشة التي يمكن أن تتحقق عند استكمال التصميم. فهو يرى أن جودة المسكن تتضاعف قيمتها عبر الزمن. ويعتبر الاهتمام بالجودة في المساكن الحكومية العامة أمر غير مسبوق في تشيلي وغيرها من البلدان. صحيح أن أهداف المصمم  لم تتحقق كاملة ولكنه  نفّذ جزء من التصميم والذي فكرته تبلورت حول فكرة "نصف مسكن  جيد   ” half of a good house” وليترك استكماله للمالك وحسب رؤيته ووضعه الاقتصادي.


 


الاسكان الاجتماعي كما تصوره المعماري الخاندرو ارافينا

خلاصة/
تبيّن مما سبق أن نجاح العمارة مرهون بتحقق بعدها الإجتماعي وأن المعماري استطاع عبر الزمن أن يتبنى قضايا محيطه وانشغالات مجتمعه وبرز هذا في مراحل التعليم المعماري ومراحل ممارسة المهنية وتجلى ذلك من خلال استعراض موجز لأعمال رواد كثير ما صنفهم المؤرخون بمسميات جسدت دورهم المتميز .  Visionary architects, Avant-guards architects, Futurism, Constructivism    عناوين قد تفقد مضمونها اذا تم ترجمتها ولكنها تجسد فترات عرفت بتسابق رواد هذه التيارات لتبني أساليب وطرق اعتقدوا أنها ملائمة لنمط حياة مختلفة وروح عصر جديدة. واستمرت النجاحات التي حققها الممارسون لمهنة العمارة والتشييد سواء كان ذلك على المستوى التعليم أو المستوى المادي كثيرة إذا ما تم مقارنتها بما كانت عليه الحالة لعصور تلت.

يبدو أن دور المعماري المعاصر تطور من سيد البنائيين إلى تعريف آخر يختلف عن ما عرف به عبر التاريخ. حيث تم فصل التصميم عن البناء وبذلك تولدت تخصصات وأساليب بناء عديدة. ومع هذا التعدد تراجع دور المعماري واصبحت الاحتياجات المطلوبة منه  بحاجة لتوضيح دقيق. على المستوى المحلي فإن مهنة العمارة لا زالت في بداية طريقها ويبدو أنها في حالة بحث مستمر عن دورها في ظل متغيرات ومستجدات تقنية كثيرة. هذه المستجدات احدثت لبساً في تحديد المهام والأدوار رغم التحسن الطفيف في تعامل العامة مع المعماري.

هناك شعور باليأس لعدم ظهور ما يخفف من وطأة الوضع الحالي وما وصل عليه المشهد الحضري للمدن في ليبيا . فالبناء العشوائي والفوضى انتشرت ولم تقتصر على محيط المدن بل داخل التجمعات الحضرية رغم  تزايد عدد أقسام العمارة بالمدن الليبية وارتفاع اعداد الخريجين.  رغم هذا التزايد فإن مساهمة خريجي أقسام العمارة في ايجاد بيئة معيشية مريحة ترسخ هوية المكان وتحقق الرفاهية  لا تزال محدودة. الإنجازات بقيت فردية وارتبطت بميول تقنية أو بإنحياز "لطراز" معماري  دون "طراز" آخر . ويتضح هذا من:
1.     تبني أحدث ما تم التوصل إاليه من مواد وتقانات بناء.
2.     تكوين فراغات معيشية "حديثة" تهيىء فرص معيشية "معاصرة".
3.  إغفال للمحيط الثقافي (إن وجد) والمكاني والاقتصادي. وتاكيد دورها  في ترسيخ وتحقيق بيئة معيشية تتوفر فيها ظروف آمنة وتتراجع بها مخاطر تهدد وجود الإنسان ومستقبله.
إن تطور الحياة وما صاحبه من تطور في مجال المهنة والتعليم أفرز تخصصات متنوعة أثّرت في دور المعماري . رغم المحاولات للرفع من مستوى أداء المهنة واستحداث تحديد للمهام والمسئوليات المهنية هناك أيضا عدم وضوح على مستوى تعريف هذه المهام لتداخلها مع مهام أخرى  كما هناك لبس على مستوى الأدوار مثل دور شركاء العمل المعماري. انعكس هذا على حقيقة الوضع الحضري المعاصر للمدن في ليبيا. ففي قطاع الاسكان مثلاً، لقد تم تحديد المسكن ومفهومه وتم تداوله، من قبل الكثيرين، بشكل لا يختلف عن أي منتج استهلاكي آخر وحصره في منظور تجاري ضيق دون التفكير مثلا في استراتيجية تضمن العائد أو المردود الاجتماعي والإبداعي والبيئي للتصميم المقدم. لقد غلبت "المصلحة الشخصية " القيم الثقافية ولم يعد هناك نموذج عام أو مصلحة مشتركة  يلتقي عليهاالجميع كتب المهندس نيكولاس برلاج منتقدا عمارة القرن التاسع عشر قائلا:
“But when I speak of ugliness in the realm of the spirit, I am referring to the total lack of what one might call a common purpose in our existence, a sense of working together toward one goal. A certain consecration of life is lacking, ultimately a lack not of education ... but of culture, which is something quite different. For is not culture the accord between a spiritual core, the result of communal aspiration, and its reflection in material form, that is to say, art? Humanity, seen as the community, no longer has an ideal. Personal interests have replaced mutual, spiritual interests and have assumed a purely materialist form, money?”
.

توصيات:
هناك حاجة لتأكد أهمية دور المعماري في المجتمع بشكل شمولي يتجاوز البعد المهني المحدود والذي فرضته ظروف التطور وقد يتم تحقيق ذلك من خلال:
·        بناء تآلف بين المعماريين لقيادة وتوجيه التغير في اتجاهه السليم المختار.
·   اتخاذ زمام المبادرة وبعث مشاريع تطوير خاصة تخدم المجتمع وتوفر احتياجات الشرائح المجتمعية بدل انتظار تكليف بالعمل من جهة عامة.
·   إعادة تموضع داخل المجتمع. تحديد موقع المعماري داخل فضاءه الاجتماعي ليبرز دوره وقدرته في إقناع صُنّاع القرار وبقية الشركاء  بأفكاره بدل تلقي إملاءاتهم.
·   تبني ومناقشة مشاغل المجتمع وإنشغالاته بصوت مرتفع ليكون مسموعاً ويكون له صدى من قبل بقية الشرائح المجتمعية.
·        تحديد المهام والمسئوليات بشكل واضح.
·        الرفع من مستوى التعليم المهني من خلال مواكبة التغيرات والتوسع في البحث والانفتاح على المحيط.



المراجع:
Belgasem,  R T, “HUMAN NEEDS AND BUILDING  EVALUATION: An Approach to Understanding Architectural Criticism,” PhD Dissertation, University of Pennsylvania, 1987.
Chad B. Jones; The Role of the Architect: Changes of the Past, Practices of the Present, and Indications of the Future, Brigham Young University – Provo, 19-03-2006. https://scholarsarchive.byu.edu/cgi/viewcontent.cgi?article=1394&context=etd
Frampton, K., Modern Architecture, A critical History,Oxford University Press, New York, 1980.
Gedion, S., Space Time and architecture, Harvard University Press, Cambridge Mass. Fifth Edition, fourth printing 1973.


أنماط البيوت التقليدية في ليبيا

المسكن الطرابلسي التقليدي المنزل ذو الفناء " الحوش " جمال الهمالي اللافي مقدمة / يعتبر(...