الثلاثاء، سبتمبر 02، 2025

العمارة كفعل أخلاقي – من القيم التي لا تُشترى إلى المباني التي تُهذّب

 

جمال الهمالي اللافي

بالنظر إلى منظومة القيم التي لا تُشترى بالمال، كما وردت في الصورة المرفقة، ثم ما أضيف إليها من نقاء وتواضع وواقعية، تتضح ملامح علاقة عميقة بين العمارة وبين البنية الأخلاقية والنفسية للمجتمع. ليست هذه القيم مجرد فضائل فردية، بل هي شروط تأسيسية لأي بيئة معمارية سوية، قادرة على احتضان الإنسان وتشكيل سلوكه.

العمارة كمرآة للقيم

تتأسس العمارة على منظومة من القيم غير المادية، تشكل جوهرها وتنعكس في كل تفاصيلها. الأخلاق، الاحترام، النزاهة، الصبر، الحب، وغيرها، ليست مفاهيم مجردة، بل تظهر في توزيع الفراغات، في شكل الكتلة، في لون الطلاء، وفي علاقة المبنى بمحيطه العمراني. فالمبنى الذي يُصمم دون احترام لهذه القيم يتحول إلى عبء بصري ونفسي، يكرّس التوتر ويغذي الانفصال عن الذات والمجتمع.

النقاء، الذي لا يظهر في القائمة الأصلية، يمثل صفوة هذه القيم. إنه الصفاء الذي يجعل المعمار صادقاً، غير ملوث بالادعاء أو التزويق، ويمنح المبنى قدرة على بث الطمأنينة في النفس. أما التواضع، فهو ما يقي العمارة من الغرور البصري، ويعيدها إلى وظيفتها الإنسانية. والواقعية، بدورها، تمنح التصميم صدقاً وظيفياً، وتبعده عن المبالغة أو التزييف.

القيم التي لا تُشترى: أساس العمارة السوية

القائمة التي وردت في الصورة- الأخلاق، القيم، الاحترام، الشخصية، الحس السليم، الثقة، الصبر، الرقي، النزاهة، الحب- ليست مجرد فضائل فردية، بل هي شروط تأسيسية لأي بيئة معمارية سوية. فالمبنى الذي يُصمم دون احترام لهذه القيم، يتحول إلى عبء بصري ونفسي، يكرّس التوتر، ويغذي الانفصال عن الذات والمحيط.

·         الأخلاق والاحترام: تظهر في احترام السياق العمراني، وعدم التعدي على خصوصية الجوار.

·         الشخصية والنزاهة: تتجلى في صدق التعبير المعماري، وابتعاد التصميم عن الزيف أو الاستعراض.

·         الحس السليم والثقة: تُترجم إلى منطقية توزيع الفراغات، وسهولة التنقل، ووضوح الوظائف.

·         الرقي والحب: ينعكسان في العناية بالتفاصيل، والاهتمام بجماليات الضوء والظل، والمواد الطبيعية.

أما النقاء، الذي غاب عن القائمة، فهو جوهر هذه القيم جميعاً. إنه الصفاء الذي يجعل المعمار صادقاً، غير ملوث بالادعاء أو التكرار، ويمنح المبنى قدرة على بث الطمأنينة في النفس.

العمارة كعلاج نفسي

استوقفتني قصة رواها أحد المتابعين لصفحتي، عن حالة مرضية في إحدى الدول الأوروبية، تعاني من اضطرابات نفسية واكتئاب. لم تُجدِ الجلسات النفسية نفعاً، فاقترح الطبيب زيارة منزل المريض. قام بتغيير ألوان الحوائط والسجاد، وتعديل نوعية الأثاث وتوزيعه، فحدث تحسن كبير في الحالة، بل أعلن المريض أنه شُفي تماماً.

هذه القصة ليست استثناءً، بل تؤكد أن العمارة ليست محايدة، بل لها أثر مباشر على الصحة النفسية. الألوان، الإضاءة، توزيع الأثاث، وحتى ملمس المواد، كلها عناصر تؤثر في المزاج، وتعيد تشكيل العلاقة بين الإنسان ومحيطه. في مجتمعاتنا، حيث تسود التوترات وسوء الأخلاق، فإن جزءاً من الأزمة يعود إلى بيئات عمرانية منفصلة عن القيم، تفتقر إلى التواضع، وتغرق في التزويق دون معنى.

كيف تتشرب العمارة القيم؟

العمارة لا تفرض القيم، بل تتشربها من نية المصمم، من ثقافة المجتمع، ومن فلسفة المكان. ثم تعكسها عبر:

  • شكل الكتلة: هل هي متضخمة أم متزنة؟ هل تعبر عن سلطة أم عن احتواء؟
  • الزخرفة: هل هي صادقة أم متكلفة؟ هل تحترم التراث أم تبتذله؟
  • الألوان: هل تبعث على الطمأنينة أم على التوتر؟ هل تنسجم مع المحيط أم تتصادم معه؟
  • الفراغات الداخلية: هل تتيح التأمل أم تكرّس العزلة؟ هل تحفّز الحوار أم تغلقه؟

من البيت إلى المجتمع

حين تُبنى البيوت على هذه القيم، فإنها تخرج لنا مجتمعاً سوياً، يتشرب الاحترام، ويُمارس النزاهة، ويُقدّر الصبر والرقي. العمارة هنا ليست انعكاساً فقط، بل محفّزاً للتغيير. إنها تربية صامتة، تُمارس أثرها دون خطابة، وتُعيد تشكيل الإنسان من خلال المألوف اليومي: الباب، النافذة، الضوء، والظل.

إن المبنى، في نهاية المطاف، يكون نتاجاً لمؤثراتنا، ثم يبدأ هو في التأثير علينا، في أخلاقنا وسلوكياتنا. وهذا ما يجعل من العمارة فعلاً أخلاقياً بامتياز، لا ينفصل عن منظومة القيم التي تُبنى بها، وتُبني بها الإنسان.

في ذكرى انقلاب 1969: حين بدأت الرداءة تُبنى

 


جمال الهمالي اللافي

لم يكن انقلاب سبتمبر مجرد حدث سياسي، بل كان نقطة تحول في بنية المجتمع الليبي، امتدت آثارها إلى الحرفة والكرامة والمهنة. قبل هذا التاريخ، كانت شركات المقاولات الليبية تملأ السوق، والعمالة الوطنية تقود الورش بكفاءة وانضباط، والمعماري الليبي يربط بين الفكرة والتنفيذ، لا يكتفي بالرسم ولا يُقصى عن الموقع.

لكن ما تلا الانقلاب كان تفكيكًا ممنهجًا لمنظومة العمل الوطني: أُغلقت الشركات، وأُقصيت العمالة الليبية، وجرى تحويل الحرفيين إلى موظفين في مؤسسات بيروقراطية، تحت شعارات التدريب العسكري والانضباط الثوري. فُرغت المهنة من معناها، وأُهينت كرامة المواطن، وتحوّل المعماري إلى متفرج على تنفيذ مشوّه، تقوده عمالة مستوردة لا تملك وعيًا تصميميًا ولا التزامًا مهنيًا.

اليوم، تسيطر العمالة المصرية على سوق البناء في ليبيا، لا من باب الكفاءة، بل بفعل سياسات التسهيل والاحتكار التي همّشت كل بديل. والنتيجة: غش في المواصفات، تلاعب في التنفيذ، أعمال معلقة، ومباني بلا روح.

إن استعادة الحرفة بأيدي الليبيين ليست مطلبًا مهنيًا فحسب، بل هي فعل مقاومة، واستعادة للكرامة، وبُعد من أبعاد الأمن القومي. فحين يُبنى الوطن بأيدي أبنائه، تُستعاد السيادة من بوابة الإنتاج، لا من بوابة الشعارات.

المعماري ليس مجرد مصمم، بل قائد ميداني، ومثقف بصري، وضامن للجودة. وإقصاؤه عن الموقع هو إقصاء للوعي، وتشويه للعمارة، وتفريط في الهوية.

فلنعد بناء الورشة الليبية، لا فقط بالمباني، بل بالكرامة.

أنماط البيوت التقليدية في ليبيا

المسكن الطرابلسي التقليدي المنزل ذو الفناء " الحوش " جمال الهمالي اللافي مقدمة / يعتبر(...