أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

{فأما الزَّبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}- سورة الرعد، الآية 17

الثلاثاء، سبتمبر 30، 2025

نحو مشروع إبداعي ليبي: من التفكيك إلى البناء

قراءة تأسيسية في سؤال الانطلاقة الثقافية ومسؤولية الفعل الإبداعي

 


جمال الهمالي اللافي

في لحظة صامتة من مساء ليبي متقلب، وبين جدران لا تزال تحتفظ بصدى الحكايات القديمة، يتوقف المعماري، أو الكاتب، أو الفنان، أمام مشروعه القادم. لا يسأل: "كيف أُبهر؟" بل "لماذا أبدأ؟"
تتراكم حوله أدوات العصر، وتُغريه المنصات، وتُلح عليه الجوائز وتستهويه المعارض الخارجية المشتركة مع أقرانه، لكنه يعرف أن المشروع الذي لا ينبثق من حاجة محلية، يظل زخرفًا، مهما بدا متقنًا. في تلك اللحظة، لا يعود الإبداع فعلًا فرديًا، بل موقفًا من العالم. لا يعود التصميم مجرد شكل، بل خطاب. ولا تعود الكتابة وسيلة تعبير، بل وسيلة مقاومة للغفلة. هنا، في هذا المفترق، يبدأ السؤال الحقيقي: كيف نُنجز مشروعًا ليبيًا خالصًا، لا ليُلفت أنظار الآخر، بل ليُعيد بناء الذات؟ كيف نُفكك التشويش، لا لنُدين، بل لنفهم؟ وكيف نُعيد البناء، لا لنُنافس، بل لنُفيد؟

1.   كيف نضمن أن تنطلق مشاريعنا الإبداعية من رغبة صادقة للنهوض بالوطن، لا من مجاراة للموضات العالمية أو انتصار لوجهات نظر شخصية؟

2.      وكيف نجعل هذه المشاريع خالصة للمجتمع الليبي، تتحرى الصدق في الطرح والإخلاص في الغاية، لا لتلفت أنظار الآخر أو تنال اعترافه؟

في زمن تتكاثف فيه الظواهر وتتشابك فيه المرجعيات، لم يعد السؤال عن انطلاقة المشاريع الإبداعية مجرد ترف فكري، بل أصبح ضرورة وجودية تمس جوهر الفعل الثقافي في ليبيا. فالمشروع الذي لا ينبثق من رغبة صادقة للنهوض بالوطن، يظل عرضة للتشويش، مهما بدا متماسكًا أو متقنًا.

إن مجالات العمارة، والتصميم، والفنون التشكيلية، والإبداع الأدبي، والخطاب الفكري والسياسي، لا يمكن أن تُنجز من موقع المجاراة أو الانبهار، أو التبعية العمياء، بل من موقع المسؤولية. فكل مشروع يُصاغ من رغبة في الظهور أو انتصار لوجهة نظر شخصية، هو مشروع هش، يفتقر إلى الجذر، ويعيد إنتاج التشويش الذي يدّعي مقاومته.

التفكيك كمرحلة تأسيسية لا عدميّة

التفكيك هنا لا يُستعار من النظرية التفكيكية لجاك دريدا، بكل ما حمله معه من مضامين التمرد على والقواعد المنضبطة بالقيم الدينية والأخلاقية، بل يُعاد توظيفه في سياق ليبي خاص، بوصفه فعلًا نقديًا يهدف إلى فهم الواقع لا زعزعة المعنى. نحن لا نمارسه على النصوص المجردة، بل على الخطابات والممارسات الثقافية التي تشكل الوعي الجمعي.

التفكيك لا يعني الهدم، بل إعادة ترتيب المفاهيم، وتحريرها من التزييف أو التكرار. وهو لا يُنجز دفعة واحدة، بل عبر تراكم النصوص التي تفضح الغفلة وتدعو للوعي، وتُعيد الاعتبار للسياق المحلي بوصفه مرجعية لا بوصفه عائقًا.

كل شيء قابل للتفكيك، مهما تعقدت تقنياته وكثرت تفاصيله. ذلك ممكن متى توفرت الإرادة، لا الرغبة فقط. فالبنية الثقافية المشوشة تحمل في داخلها تناقضاتها، وكثرة التفاصيل لا تعني صلابة، بل قد تكون دليلًا على ارتباكها. والالتحام الظاهري يخفي هشاشة داخلية، حين يُبنى على مجاراة لا على قناعة.

البناء كفعل مسؤول يتلو الفهم

لكن التفكيك وحده لا يكفي. إن توقفنا عنده، نكون قد شخّصنا المرض دون أن نُقدّم العلاج. لذلك، لا بد أن يتلوه بناءٌ موازٍ، لا يُستعجل، بل يُنجز على مهل، بعد أن تتضح الغايات وتُصاغ الأهداف من داخل السياق الليبي، لا من خارجه.

البناء الذي يُنجز دون فهم مسبق، هو إعادة إنتاج للتشويش، ولو بدا متماسكًا. وهو غالبًا ما يُستدرج إلى مجاراة الآخر، أو إلى استعراض داخلي لا يملك مرجعية واضحة. لذلك، لا بد أن يتأخر البناء قليلًا، لا لضعف في الإرادة، بل لحكمة في التوقيت.

إعادة تعريف المشروع الإبداعي الليبي

لهذا، فإننا ندعو إلى منهج نقدي ليبي مستقل، يبدأ بالتفكيك لفهم الواقع، ويتلوه بناء مسؤول يعيد الاعتبار للبساطة والصدق. لا نطلب اعترافًا خارجيًا، بل نُراهن على الزمن كحكم أخير. فما ينتفع به الناس يبقى، وما يُحبس في الأدراج يختفي.

إن العمارة التي لا تُصمم من حاجة محلية، تظل زخرفًا. والتصميم الذي لا يُراعي السياق، يصبح تكرارًا. والفن الذي لا يُنصت للوجدان الليبي، يتحول إلى استعراض. والأدب الذي لا يُكتب من موقع التماسك، يُقرأ من موقع الشفقة. والخطاب السياسي الذي لا يُبنى على فهم الواقع، يُعيد إنتاج أزماته.

نحن نكتب ونصمم ونفكر، لا لنُنافس، بل لنُعيد بناء الوعي. لا لنُبهر، بل لنُفيد. لا لننال الاعتراف، بل لنستحقه.

هذا النص ليس إعلانًا نظريًا، بل خطة طريق لكل من يكتب أو يصمم أو يفكر من موقع الالتزام، لا من موقع الاستعراض. وهو دعوة مفتوحة لإعادة تعريف المشروع الإبداعي الليبي، لا بوصفه منتجًا، بل بوصفه موقفًا.

الاثنين، سبتمبر 29، 2025

لماذا أكتب تحت باب "تأملات في المعمار"؟

  


جمال الهمالي اللافي

لا يُكتب هذا الباب من موقع امتياز أكاديمي، ولا يُقدَّم بوصفه خطابًا مؤسسيًا. بل هو مساحة شخصية مفتوحة على الهمّ العام، تُصاغ من تجربة ميدانية امتدت لعقود، ومن وعيٍ تشكّل خارج أسوار المؤسسات الأكاديمية، لكنه لم يفقد دقته ولا مسؤوليته.

في بلدٍ يُلاحق فيه التعبير الحرّ إن لم يكن ممهورًا بختمٍ الأكاديمي، تصبح الكتابة فعلًا مقاومًا لا تنظيريًا، ومساحة لحماية القناعات من الحجر، لا للعرض أو الاستعراض. ولأن الحالة النقدية تُصادَر غالبًا لصالح من يحملون شهادات عليا، يُنظر إلى من يكتب خارج هذا الإطار بوصفه متطفلًا أو غير مؤهل. لكنني لا أكتب لأثبت جدارة، بل لأعيد الاعتبار لما يُقصى عمدًا من الخطاب الرسمي: الحس النقدي المتجذر في الميدان، والوعي المعماري الذي لا يحتاج شهادة كي يكون صالحًا أو مؤثرًا.

باب تأملات في المعمار ليس تصنيفًا تقنيًا، بل خيارًا واعيًا لتفادي التصنيفات التي تُقصي، ولإبقاء النصوص مفتوحة على التأمل، لا على الادعاء. هو مساحة تُكتب من موقع من عاش التجربة، لا من موقع من دُرّب على تحليلها، دون الوعي بغاياتها ومآلاتها. هو أيضًا محاولة لتثبيت ما يستحق البقاء، لا بوصفه موروثًا جامدًا، بل كفعل ثقافي حيّ، يُعاد توظيفه دون أن يفقد روحه.

ما يُنشر هنا لا يطلب اعترافًا، ولا ينافس الأكاديمية، بل يكشف محدوديتها حين تُختزل في الشهادة وتُفرغ من التجربة. وما يُكتب في هذا الباب، يُكتب من باب الالتزام، لا من باب التكليف. لذا، فإن تأملات في المعمار ليست بابًا للنشر فقط، بل بيان استقلال فكري، ومساحة للكتابة بوصفها فعلًا تأسيسيًا من موقع راسخ ومسؤول.

تكامل الجهود لحماية الموروث الثقافي المحلي في المدن الليبية

 


جمال الهمالي اللافي

في ظل التحديات المتزايدة التي تواجه الهوية الثقافية والمعمارية الليبية، تبرز الحاجة إلى مشروع جماعي ينهض بمسؤولية الحفاظ على الموروث المحلي، لا بوصفه ترفًا تراثيًا، بل كضرورة وجودية تعيد الاعتبار للبساطة والصدق في التعبير، وتقاوم الاستلاب البصري والوظيفي. هذا المشروع ينبغي أن يُبنى على رؤية تأسيسية واضحة، تُفعّل دور المجتمع المحلي والجهات المعنية في صياغة فعل ثقافي مستدام، لا مؤقت ولا استعراضي."

1.      التشريعات الحامية للتراث

يتطلب الأمر إرساء منظومة قانونية واضحة تحمي المعمار التقليدي وتمنع تشويهه، عبر:

  • سنّ قوانين تحظر الهدم العشوائي للمباني التاريخية وتلزم بترميمها وفق معايير تحفظ طابعها الأصلي.
  • اعتماد لوائح تُشجع إعادة توظيف المباني القديمة في وظائف ثقافية أو مجتمعية، دون تفريغها من معناها.
  • ربط هذه التشريعات بالهوية البصرية للمدينة، من خلال توجيه التصميمات الجديدة نحو استخدام المواد المحلية والألوان ذات الدلالة الثقافية، كالأخضر والأبيض في بعض السياقات الليبية.

2.      المعارض والمسابقات المعمارية

لا يكفي الحفاظ، بل يجب تجديد العلاقة مع التراث عبر الفعل الإبداعي، وذلك من خلال:

  • تنظيم مسابقات تصميم تستلهم من العمارة التقليدية وتعيد توظيف عناصرها بأساليب معاصرة دون استعراض.
  • إقامة معارض تعرض نماذج ناجحة من ترميم المباني القديمة، وتبرز دور الحرفيين المحليين في استعادة التفاصيل المنسية.

3.      دعم الحرف التقليدية

الحرف اليدوية ليست ترفًا زخرفيًا، بل امتدادٌ للهوية في تفاصيل الحياة اليومية. لذا يُقترح:

  • تنظيم ورش عمل لتعليم الأجيال الجديدة الحرف التقليدية، وربطها بالتصميم المعماري كعنصر تعبيري.
  • دعم الصناعات الصغيرة التي توظف هذه الحرف في منتجات معمارية أو ثقافية، دون تحويلها إلى سلعة مبتذلة.

4.      المهرجانات الثقافية

المهرجانات ليست مجرد احتفال، بل فعل جمعي يعيد وصل ما انقطع. ومن هنا:

  • إقامة مهرجانات سنوية تحتفي بالثقافة الليبية، بمشاركة السكان المحليين والزوار، وتعرض نماذج من اللباس، الموسيقى، الطعام، والحرف التقليدية.
  • توظيف هذه المناسبات لتعزيز الانتماء الثقافي، لا لتكريس الصورة النمطية.

5.      تحفيز الاستثمار الثقافي

التراث لا يُصان بالنوستالجيا وحدها، بل يحتاج إلى دعم ملموس، عبر:

  • تشجيع رجال الأعمال المحليين على الاستثمار في مشاريع ثقافية ومعمارية تُعيد الاعتبار للتراث.
  • تقديم مزايا ضريبية أو تسهيلات إدارية للمبادرات التي تلتزم بالمعايير الثقافية الأصيلة.
  • إبراز قصص نجاح لمبادرات محلية ساهمت في إحياء الأسواق القديمة أو إعادة توظيف المباني التاريخية دون تشويه.

6.      حملات التوعية والترويج

الوعي هو فعل مقاومة في ذاته، حتى لو عجز عن التغيير الفوري. لذا يُقترح:

  • إطلاق حملات إعلامية مستمرة تبرز أهمية الحفاظ على التراث، وتشرك الأفراد في مسؤولية الحماية.
  • إدراج مفاهيم التراث في المناهج الدراسية، وربطها بالهوية الوطنية بعيدًا عن الخطاب العاطفي.
  • إشراك الشباب في أنشطة ميدانية توثق وتحتفي بالموروث المحلي، وتعيد ربطهم بجذورهم دون ادعاء.

إن هذا المشروع لا يدّعي امتلاك الحلول الجاهزة، بل يفتح بابًا للحوار حول ما يستحق البقاء، وما يمكن أن يُعاد بناؤه بصدق. فالموروث الثقافي ليس ما نحتفظ به في الأدراج، بل ما يُنتفع به الناس، ويُعاد توظيفه في حياتهم اليومية دون أن يفقد روحه. والمدن الليبية، بما تحمله من تنوع وتجارب، قادرة على أن تكون مرجعًا حيًّا لهذا الفعل، إذا ما توفرت الإرادة وتكاملت الجهود.

الأحد، سبتمبر 28، 2025

عندما تبهت ملامح العمارة ويلمع حضور الفن التشكيلي


جمال الهمالي اللافي

    منذ أن انتقلت العمارة من مرحلة ما بعد الحداثة إلى التفكيكية، بدأ حضورها يتراجع أمام سطوة الرؤية التشكيلية التي باتت تتحكم في ملامح المشاريع. لم تعد الوظيفة، ولا استجابة المبنى للبيئة، هي ما يشغل كبار المعماريين، بل أصبح التلاعب بالألوان والنحت البصري للكتل هو ما يستحوذ على اهتمامهم. الكتلة الخارجية تُصمم لتُبهر، بينما يُترك الفراغ الداخلي يتأقلم معها قسرًا، يُرصّ أو يُمطّط ليخدم الشكل، لا الإنسان.


    أما المواد، من اللدائن إلى الشرائح المعدنية وقطع الفسيفساء، فلم تعد تُختار لمقاومة الزمن أو الظروف المناخية، بل لجاذبيتها البصرية. المكيفات تعمل بلا توقف، والترميم والصيانة باتا جزءًا من دورة حياة هذه المباني، فقط كي يستمر حضور الفن التشكيلي ويُفرض على المخططات الحضرية.

    حتى هذه المخططات لم تسلم، إذ تُعاد صياغتها لتُبرز الكتل المعمارية من جميع الجهات، وتُمنح مساحات تُظهرها كمعالم سياحية، لا كمرافق وظيفية. المدينة تُعاد تشكيلها لتُصبح خلفية لكتلة، لا بيئة حية.


الصورتان المرفقتان ليستا سوى مثالين على هذا التحول، حيث تُختزل العمارة إلى واجهة، ويُستبدل بها الفن، ويُقصى الإنسان.

الثلاثاء، سبتمبر 23، 2025

طرابلس القديمة: من فضاء إلى منهج



مدخل للنص: الذاكرة كمنهج

ليست العمارة مجرد بناء، بل هي ذاكرة تتجسد في المكان، وتُعيد تشكيل الذات عبر الزمن. وفي سياق التجربة الليبية، حيث تتداخل الجغرافيا بالتاريخ، ويُثقل التراث كاهل الحاضر، تصبح العلاقة بالمدينة الأولى أكثر من مجرد انتماء، إنها علاقة تكوين.

هذا النص لا يُروى بوصفه سيرة شخصية، بل بوصفه شهادة تلمذة واعية، تُعيد الاعتبار لطرابلس القديمة كمعلمة، لا كمتحف. فالمعماري لا يُصاغ فقط في قاعات الدراسة، بل في الأزقة، والفراغات، والتفاصيل التي تُلقّنه الصبر، وتُعلّمه التدرج، وتُهذّب انفعاله.

في هذا النص، أكتب من موقع النضج، لا لأستعرض، بل لأوثّق العلاقة التي شكّلت منهجي، ووجّهت رؤيتي، وألهمتني مقاومة الاستلاب البصري والوظيفي. ولا أكتب عن طرابلس القديمة بوصفها "محبوبة"، بل بوصفها "منهجًا"، يُعلّم ولا يُدلّل، يُنقّح ولا يُغوي، ويُبقي المعماري على صلة بالجوهر، لا بالانبهار.

 

هذا النص كتب بعد استقالتي في العام 2001 من عملي بمشروع تنظيم وإدارة المدينة القديمة:

لكل معماري، في ليبيا أو في العالم، معلمٌ تتلمذ على يديه، ويدين له بالفضل الأكبر فيما بلغ من فهمٍ وممارسة. وغالبًا ما ينعكس أثر هذا المعلم في أعمال تلميذه، ظاهرًا أو خفيًا.

أما أنا، وقد دخلت عقدي السابع، فأدين بكل الفضل لمعلمةٍ نهلت من معينها منذ مراحل مبكرة. انتبهت لشغفي بالعمارة وأنا لا أزال في المرحلة الإعدادية، ففتحت لي أبواب فضائها الرحب، وأدخلتني عالمها الواسع، وبدأت تلقنني أسرارها في سلسلة من الدروس الممتعة والمشوقة. علمتني كيف أصبر عليها، وألا أطالبها بكل شيء دفعة واحدة، بل أتلقى معارفها بالتدرج، مبنيًا على الملاحظة والفهم العميق لكل سر من أسرارها. حتى حببتني في العمارة، وجعلتها هدفي ورسالةً أعبر من خلالها عن رؤيتي وفهمي لدوري في هذه الحياة.

وبعد التحاقي بقسم العمارة والتخطيط العمراني بجامعة طرابلس، بقيت هي معلمتي الحقيقية، وحرصت على التواصل معها دون انقطاع، في فضائها الذي لا يضيق. ومن أجلها، التحقت بمشروع تنظيم وإدارة مدينة طرابلس القديمة، لأكون قريبًا منها، لا يشغلني عنها شيء. وحتى بعد انقطاعي عن العمل في هذه المؤسسة، حافظت على صلتي بها، ولا زلت حتى اليوم أزورها، فتزودني بما يضيء الطريق، وتحتضن هواجسي، وتستوعب أفكاري، وتمنحني من أصالتها ما يُبقيني على صلة بالجوهر.

ولأجل ألا توصم علاقتي بمدينة طرابلس القديمة، كما يروق للبعض أن يصفها، بالعشق أو الجنون، أُوضح أن هذه العلاقة ليست اندفاعًا عاطفيًا ولا انبهارًا غير واعٍ:

  • فالعاشق لا يرى في محبوبته أي عيب أو قصور، ويختزن في عقله اللاواعي صورةً مخالفةً للحقيقة، تجعله يتصرف وفق تصور مغلوط، بعيد عن الواقع.
  • والمجنون لا يعقل ولا يدرك ماهية الأشياء من حوله، وأعماله لا تخضع للمنطق السليم، ولا تستند إلى علاقة تفاعلية واعية ومدركة بين الأنا والموضوع، قائمة على البحث والاستقصاء والتقييم المنهجي.

علاقتي بمدينة طرابلس القديمة:

  • علاقة واعية، مدركة، مستقلة عن أي اندفاع عاطفي أو استلاب عقلي يثير الشفقة.
  • علاقة تلمذة واعتراف بالفضل، وتحديد للمدرسة التي استلهمت منها منهجي الفكري ورؤيتي المعمارية لمستقبل العمارة في بلادنا.

كبرت معلمتي في السن، وبدأت الأمراض تنهش جسدها الجميل، لكنها بالنسبة لي لا تزال فتية، تنبض بالحياة، ولا تنقطع عن العطاء.

معلمتي الفاضلة، مدينة طرابلس القديمة، لكِ فائق التقدير على كل ما تعلمه منك تلميذٌ يفتخر بأنك معلمته الأولى والأخيرة.

الاثنين، سبتمبر 22، 2025

الهوية المعمارية: بين الفناء كفراغ، والبيت ككيان

 

 

جمال الهمالي اللافي

الهوية ليست ترفًا فكريًا، بل شرط وجود. إنها ما يربط جيل الحاضر بجذور الأجداد، ويمنحه كيانًا حرًا قائمًا بذاته. في العمارة، لا يكفي أن نضع فناءً في قلب البيت لنقول إننا استحضرنا الهوية. فالفناء، رغم حضوره في جميع الحضارات، ليس أكثر من فراغ وظيفي ما لم يُشبَع بروح المكان.

يكفي أن الفناء ظهر أولًا في الحضارة الرومانية، ويكفي أن العمارة الغربية المعاصرة لا تزال تستخدمه كحل بيئي، حتى نفهم أنه ليس امتيازًا محليًا ولا دليلًا على الأصالة. يكفي أن بيوت الخمسينيات والستينيات في بلادنا احتوته، لكنها لم تمنحه أي ملامح من هوية المكان. كان مجرد حل اقتصادي لبيوت متلاصقة، بلا روح.

الهوية هي روح المبنى، والفناء هو رئته التي يتنفس بها، وعينه التي تنظر بها إلى السماء. لكنه لا يُحاكي هوية المكان لمجرد وجوده. فالمعماري الذي يضعه في الحسبان دون وعي بالخطاب الثقافي، لا يصنع هوية، بل يُكرر فراغًا.

شعب بلا هوية، ينتفي عنه الوجود. يعيش حياة بلا قيمة، بلا معنى. حياة بهيمية، حيث لا فرق بين حضيرة وأخرى، ولا بين من يبيت فيها ومن يبيت في غيرها.

العمارة المحلية بين التبعية والادعاء: حين يُختزل الحاضر في الزجاج

من بوابة الزمن إلى مفترق المعنى

شخصان يعبران من قلب طرابلس القديمة نحو المدينة المعاصرة، كأنهما يقطعان المسافة بين ذاكرة المكان وواقعٍ يتبدّل.
هذه البوابة ليست مجرد حجرٍ منحوت، بل حدٌّ فاصل بين عمارةٍ تحكي قصة الناس، وأخرى تروي حكاية الانبهار.
هنا، يقف الموروث شامخًا، بينما المعاصرة تلوّح براياتها الزجاجية في الأفق.
فهل العبور فعلُ تواصلٍ أم قطيعة؟


جمال الهمالي اللافي

يطيب للبعض حين يتحدث عن مدينة ما، أن يصفها بأنها تجمع بين الماضي العريق والحاضر، ثم يسارع إلى استعراض ناطحات السحاب والمباني الزجاجية المغتربة على أنها "رموز حضارية". والمغالطة هنا ليست في التوصيف فحسب، بل في جوهر الفهم: فهذه المباني ليست إلا انعكاسًا لحالة تبعية وانتكاسة حضارية، لا تجديدًا ولا إثراءً.

الحضارة لا تُقاس بمقدار ما نخلعه من جلدنا، بل بقدرتنا على التواصل مع جذورنا وإثرائها. فكل مرحلة عمرانية تحكي عن تواصل حضاري لشعب ما، حيث تتكيف العمارة مع تجدد الاحتياجات دون أن تقطع حبل الوصل بين عمارة الأجداد وعمارة الأحفاد. الحضارة ليست استبدالًا ولا تخليًا، بل سلسلة متصلة لا تنفصم عراها.

هذا الطرح يناقش الفكرة، لا الأشخاص. ومن شمله النقد، فليأخذ المغزى لا المأخذ. لا مجاملة في الحق، ولا خشية من لومة لائم، فقد خرجت الأمور عن نصابها.

حين تكون مرجعيتك مشاريع لوكوربوزييه أو عمارة التفكيك، ثم تدّعي أنك تستلهم من العمارة المحلية، فأنت لا تكذب فقط، بل تضلل. حين تملأ تصاميمك بمسطحات الزجاج والمساحات المفتوحة وتغيب الخصوصية، ثم تزعم مراعاة الظروف المناخية والاجتماعية، فأنت تجهل معنى العمارة المحلية ومقتضياتها ومعطياتها وأصولها ومفرداتها وخصائصها وتاريخها.

العمارة المحلية ليست زخارف ولا أقواس، بل علم متعدد الفروع، يبدأ من توزيع الفراغات ويتفاعل مع البيئة والإنسان. كما قال المهندس صالح المزوغي:

"العمارة المحلية مساقط وفراغات قبل أن تكون أقواسًا وفتحات... تستوقفك لتجلس على ركابة، تستمتع بما حبس أنفاسك، في بيئة وفرها لك المعماري، سواء كان مهندسًا أو بنّاءً أو حتى مقلدًا لمعلم خالد أبقاه الزمان رغم التقنية والتقدم العلمي."

الإلمام الواعي بخصوصية العمارة المحلية يجعل المعماري يتعامل معها بعقلية الجراح، لا المغامر. فليس من مهامه قلب الطاولة، بل إعادة ترتيبها بحكمة.

المعادلة التي لا يفقهها كثيرون: ما نبنيه اليوم هو عمارة المستقبل، وما بناه أجدادنا كان عمارة حاضرنا. حين هدمنا تلك الصروح بزعم أنها "ماضٍ"، كنا في الحقيقة نهدم حاضرنا. فخسرنا الجميل، وورثنا القبح، ونعمل جاهدين لنصدّره لأحفادنا.

التصميم المعماري الناجح لا يكتفي بالإبهار، بل يحكي قصة ترتبط بالتاريخ والواقع. أما من يتقن نسج الحكايات حول تصاميمه ليغري بها مالك المشروع، ثم يناقضها في التنفيذ، فهو كاذب. لأنه يعلم أن المجتمع لا يفرق بين الحكاية والواقع، ويحب من يخدعه أكثر من من يصارحه، ما دام ذلك المخادع يملك أدوات الإبهار القادمة من وراء البحار.

الأحد، سبتمبر 21، 2025

التفاصيل المعمارية: هوية مهدورة في العمارة الليبية المعاصرة

 بين غفلة المعماري ووعي الحرفي: التفاصيل كجسر بين الذات والآخر

دار القبول بحوش يوسف باشا القره مانللي

جمال الهمالي اللافي


في زمنٍ تتسارع فيه وتيرة الاستنساخ المعماري، وتُختزل فيه العمارة إلى مفردات وظيفية مجردة، تبرز التفاصيل المعمارية كعنصر مقاوم، لا بوصفها ترفًا زخرفيًا، بل باعتبارها جوهرًا ثقافيًا يعكس رؤية المجتمع للحياة والفن. هذه التفاصيل، التي يبدعها الحرفي المحلي، هي ما يمنح العمارة خصوصيتها، ويُخرجها من عباءة التكرار إلى فضاء التمايز.

التفاصيل: بطاقة هوية لا زخرفة

ليست القبة ولا القوس ولا الباب هي ما يميز عمارة منطقة عن أخرى، بل هي المعالجات الدقيقة لهذه العناصر، وتوظيفها ضمن سياق ثقافي بصري متكامل. في العمارة المتوسطية مثلًا، تتشابه المفردات، لكن التفاصيل هي التي تصنع الفارق، وتمنح كل منطقة نكهتها الخاصة. هذه التفاصيل ليست انعكاسًا لثراء مادي، بل لثراء فكري وروحي، وهي التعبير الأصدق عن فلسفة الحياة في كل بيئة.

الإنسان والاختلاف: العمارة كمرآة للذات

يميل الإنسان بطبعه إلى التمايز، ويبحث عن الاختلاف في محيطه ليشعر بفرادته. حين تغيب التفاصيل، يغيب التمايز، ويحل الملل محل الانبهار، مما يفضي إلى خواء نفسي يدفع البعض إلى التمرد، وربما إلى العنف، فقط ليقول "أنا مختلف". العمارة، حين تفقد خصوصيتها، تفقد قدرتها على التعبير عن الإنسان، وتتحول إلى قطيع بصري لا يثير فضولًا ولا يحرك وجدانًا.

العمارة الليبية المعاصرة: قطيعة مع الذات

منذ بدايات القرن العشرين وحتى عام 2025، شهدت العمارة الليبية انحسارًا شبه تام في التفاصيل المعمارية، نتيجة تبني رؤية تعليمية متأثرة بعمارة الحداثة الغربية، التي أقامت قطيعة مع الموروث المحلي. هذه الرؤية، التي اعتبرت التفاصيل تغطية لعيوب، تجاهلت أن العمارة الليبية سبقت الحداثة في صراحتها الكتلية ورفضها للإطناب الزخرفي. لكن المعماري الليبي، بدلًا من أن يطرح بديلًا يمنح العمارة الليبية خصوصيتها، استنسخ مفردات وتقنيات مغتربة، تجاوزها مبتكروها منذ قرن.

الحرفي الليبي: حامل الهوية المنسية

في المقابل، أبدع الحرفي الليبي في التعبير عن الذات الجمعية، وابتكر تفاصيل أصيلة دمجها بذكاء مع المفردات المعمارية، ليصنع عمارة ناطقة بالهوية. لكن هذا الإبداع لم يجد صداه في منجزات المعماريين المعاصرين، الذين تجاهلوا التفاصيل، لا لقصور في الإمكانات، بل لقصور في الرؤية.

خاتمة

إن استعادة التفاصيل في العمارة الليبية ليست مجرد استرجاع للماضي، بل هي فعل مقاومة ضد التبعية البصرية والوظيفية، ومحاولة جادة لإعادة بناء خطاب معماري نقدي يعيد الاعتبار للبساطة والصدق، ويمنح للبيت الليبي المعاصر خصوصيته المتفردة. فالتفاصيل ليست ترفًا، بل هي جوهر التمايز، وهي ما يجعل العمارة فعلًا ثقافيًا لا مجرد بناء.

السبت، سبتمبر 20، 2025

المباني التي لا تُشبهنا: بين الابتكار والاستيراد


جمال الهمالي اللافي

في الغرب، لا تُبنى العمارة على فراغ، بل تنبت من تربة الوعي الجمعي، وتتشكل من عناصر البيئة، واحتياجات المجتمع، وقيمه المتجددة. فالمعماري الغربي، حين يخطّ مشروعه، لا يستورد أدواته من الخارج، بل يستنبتها من سياقه المحلي، مستندًا إلى تقنيات ومواد أنجزها حرفيوه، وإلى هوية معاصرة صاغها مفكروه ومبدعوه. ورغم اختلاف الأساليب بين الكلاسيكية والمعاصرة، فإن ما يجمعهما هو انتماؤهما إلى بيئة واحدة، لا إلى موضة عابرة أو مرجع مستعار.

وهنا يتضح الفارق بين التقليد والابتكار: فالتقليد يكتفي باستنساخ الشكل، ويغفل عن الروح التي أنتجته. أما الابتكار، فهو فعل مقاومة للفراغ، واستجابة واعية للزمن والمكان. إنه لا يرفض الماضي، بل يعيد تأويله، ويمنحه امتدادًا حيًّا في الحاضر. العمارة المبتكرة لا تُعرض، بل تُحاور؛ لا تُبهر، بل تُعبّر. وهي بهذا، ليست مجرد بناء، بل خطاب ثقافي بصري، ينهض من الأرض التي يقف عليها، ويخاطب الناس بلغتهم، لا بلغة مستعارة.

في المدن التي غزتها العمارة المستوردة، يبدأ التحوّل النفسي بصمت: يشعر الناس أن الفضاء لا يُشبههم، أن النوافذ لا تُطلّ على ذاكرتهم، وأن الألوان لا تُخاطب وجدانهم. ومع الوقت، يتحول هذا الشعور إلى حياد بصري، ثم إلى اغتراب داخلي. المباني التي لا تُشبهنا لا تُطمئننا، بل تُربكنا. إنها لا تحتضننا، بل تُقصينا.

هذا الاستلاب لا يقتصر على الشكل، بل يتسلل إلى تفاصيل الحياة اليومية: في طريقة الجلوس، في توزيع الضوء، في علاقة الداخل بالخارج. حتى الحميمية تُعاد قولبتها وفق نمط لا نعرفه، ولا نختاره. وهكذا، يُعاد إنتاج الغربة في كل زاوية، ويُعاد تشكيل الذائقة الجمعية وفق مرجع لا علاقة له بالبيئة أو بالعادات أو بالوجدان.

الخطير في الأمر، أن هذا التحوّل لا يُواجه غالبًا بالوعي، بل يُمرّر تحت شعار "الحداثة" أو "التطور"، وكأن الانتماء إلى الذات صار تهمة، وكأن الأصالة لا تُناسب العصر. وهنا، لا يكون الاستيراد مجرد خيار تصميمي، بل فعلًا ثقافيًا يُعيد تشكيل الهوية من الخارج، ويُضعف قدرة المجتمع على إنتاج رموزه البصرية الخاصة.

العمارة، حين تُفقد وظيفتها التعبيرية، تتحول إلى قشرة. وحين تُستورد دون وعي، تُصبح أداة لإعادة إنتاج التبعية، لا وسيلة للتعبير عن الذات. والمجتمع الذي يعيش في فضاء لا يُشبهه، لا يملك إلا أن يُعيد إنتاج الغربة، حتى في تفاصيل حياته اليومية.

خاتمة

ليس المطلوب أن نُغلق الباب أمام التأثر، بل أن نُعيد فتحه بوعي. فالمعماري الذي يُنصت لنبض المكان، ويُصغي لذاكرة الناس، لا يخشى الابتكار، بل يُعيد تعريفه. والعمارة التي تُشبهنا، لا تُعيد إنتاج الماضي، بل تُعيد الاعتبار للانتماء.

الجمعة، سبتمبر 19، 2025

العصرنة كغيبوبة جماعية: حين يُستبدل المعنى بالعرض


جمال الهمالي اللافي

هل تبحث عن تصاميم عصرية؟

لمساكن، مباني تجارية، إدارية، مطابخ، صالونات، نوم، معيشة؟

سؤال استغفالي، استدراجي... وفخ العصرنة!

وما أدراك ما العصرنة؟

استبدال السمين بالغث، والطيب بالخبيث، والصالح بالطالح.

استبدال المناسب بالمتعارض، والوعي بالغيبوبة.

والغائب عن وعيه، لا يُخاطَب بمنطق.

لن يسمع، لن يعقل

أيقِظه أولًا، ثم حدّثه بما تشاء.

قبل ذلك، أنت تخاطب أمواتًا يمشون.

هذا هو الواقع.

العصرنة كقناع لغوي

في الخطاب المعماري والإعلاني، تُستخدم مفردات مثل "حديث"، "راقي"، "مودرن" كأقنعة لغوية تُخفي وراءها تغييبًا للهوية، وتفريغًا للفضاء من روحه. لا تُقاس جودة التصميم بمدى صدقه أو ارتباطه بالبيئة، بل بمدى مطابقته لمعايير خارجية، مستوردة، لا تُراعي السياق المحلي ولا الذاكرة الجمعية.

الذوق الجماعي كمنتَج إعلامي

الذوق العام لم يعد نابعًا من التجربة أو الحاجة، بل من الصورة. الإعلام لا يعرض فقط، بل يُملي. يُكرّر النموذج حتى يتحول إلى معيار، ويُغرق المتلقي في رغبة لا يملكها أصلًا. وهنا، يصبح الذوق الجماعي غيبوبة جماعية، لا وعيًا مشتركًا.

العمارة كخطاب مفرغ من المعنى

في المدن العربية، تُبنى مساكن لا تُشبه أهلها، وتُصمم مبانٍ لا تُراعي وظيفتها، وتُستورد أنماط لا تُحاكي المناخ ولا الثقافة. يُستبدل الصدق بالزخرفة، والبساطة بالاستعراض، والوظيفة بالعرض. ويُهمّش المعماري الواعي لصالح المقاول السريع، ويُقصى النقد لصالح الترويج.

في الحاجة إلى يقظة قبل الحوار

حين يغيب الإدراك، لا يُجدي الخطاب. لا يمكن إقناع من لا يرى، ولا يمكن محاورة من لا يسمع. لذلك، فإن أول خطوة في مقاومة هذا الواقع ليست في تقديم البديل، بل في فضح الزيف، وفي استعادة القدرة على التمييز. الوعي، حتى لو كان عاجزًا عن التغيير، هو فعل مقاومة في ذاته.

في زمن العرض، يبقى الوعي هو الفعل الوحيد الممكن

ليست الأزمة في غياب التصاميم الصادقة، بل في غياب من يطلبها. ليست المشكلة في المعماري، بل في الذوق الذي أُعيد تشكيله خارج الوعي. وحين يتحول الذوق إلى غيبوبة، يصبح الخطاب عبثًا، والنقد ترفًا، والبديل غير مرئي. لكن حتى في هذا الزمن، يبقى الوعي فعلًا مقاومًا، ولو كان عاجزًا عن التغيير. يبقى التمييز بين الغث والسمين، بين الطيب والخبيث، هو أول خطوة نحو استعادة المعنى. والمعنى، حين يُستعاد، لا يحتاج إلى زخرفة. يكفيه الصدق.

الثلاثاء، سبتمبر 16، 2025

من التنظير إلى التحقق: تحديات المعمار في غياب التنفيذ


جمال الهمالي اللافي

ليس الإنسان كائنًا نظريًا، بل هو ابن ما يراه ويختبره. الفكرة، مهما بلغت منطقها، تبقى معلّقة في الفراغ ما لم تجد أرضًا تُزرع فيها. وفي حقل العمارة، حيث تتقاطع الرؤية مع المادة، يصبح الحرمان من التنفيذ ضربًا من الإقصاء المعرفي، لا المهني فقط.

حين تُحرم المشاريع من التحقق، لا يعود للخطاب المعماري ما يسنده سوى الكلمات. والكلمات، مهما صيغت بإتقان، لا تُقنع من اعتاد أن يصدّق ما يُبنى لا ما يُقال. وهكذا، تتآكل الحجة، ويبهت المنهج، ويُختزل المعماري في دور المتأمل لا الفاعل.

الخبرة لا تُكتسب من التأمل وحده، بل من الاحتكاك بالواقع، من التجريب، من الخطأ والصواب. وكل فرصة ضائعة للتنفيذ، هي خصم من رصيد الخبرة، وجرح في جسد الممارسة. وبين النظرية والتطبيق، هوّة لا تُردم بالشرح، بل بالعمل.

حين تُخيفنا الفخامة وتُطمئننا البساطة


جمال الهمالي اللافي

عندما تتصادم الفخامة مع البساطة، ينحاز الناس للفخامة، حتى وهم مقتنعون بأن البساطة أصدق.
ذلك لأن البساطة، في ثقافة البشر، تُقرن غالبًا بالضعف، بينما تُقرن الفخامة بالقوة والهيبة.
والناس، بطبيعتهم، يميلون إلى الاحتماء بالقوة، لأنها تمنحهم شعورًا بالأمان، وتغطي على عجزهم عن صناعة قيمة نابعة من ذواتهم.

لكن التاريخ لا يُنصف هذا الميل. فالغلبة، في أحداثه، كانت دائمًا للبساطة. لأن الفخامة تفرض نفسها بالخوف، بينما تفرض البساطة حضورها بالاحترام. ومشاعر الأمن الحقيقي لا تنبع من الهيبة، بل من الطمأنينة التي تولدها البساطة في النفوس.

وفي المعمار، تتجلى هذه المفارقة بوضوح. المدن التي تأسست على الفخامة والهيبة، لتُرهب وتُبهر، صارت مجرد أثر بعد عين. بينما المدن الشعبية، التي نشأت من الناس ولهم، ما زالت تواصل تجذرها في مسارب التاريخ حتى يومنا هذا. لا لأنها أفخم، بل لأنها أبسط، وأصدق، وأكثر قدرة على البقاء.

الاثنين، سبتمبر 15، 2025

 العمارة بذرة لا قالبًا . ليست فعلًا يُفرض على الأرض، بل نبتة تنمو من تربتها، وتتشكل وفق مزاجها ومناخها وذاكرتها. كل مشروع حقيقي يبدأ من الإصغاء للمكان، لا من استدعاء شكل مسبق. البيئة ليست خلفية، بل هي الحاضنة، والمجتمع ليس مستخدمًا، بل هو الشريك.

لهذا، لا أُسقط تصميمًا على موقع، بل أستنطقه حتى يبوح بما يستحق أن يُبنى فيه. فالعمارة التي لا تنمو من بيئتها، تبقى دخيلة مهما تجمّلت.

جمال الهمالي اللافي

من رغيف الخبز إلى عمارة البيت: كيف يُقاس تراجع الإبداع في تفاصيلنا اليومية؟

  

جمال الهمالي اللافي

ما يحدث لفردة الخبز، يحدث لجدار البيت، ولتفصيل الباب، ولتوزيع الضوء في المسكن. غياب الشغف في صناعة الخبز هو ذاته غيابه في تصميم البيت الليبي المعاصر، حين يُستبدل الحس بالمخطط، والضمير بالمقاول، والهوية بالاستيراد البصري. هذا الربط ليس مجازًا بل واقعًا، يُظهر كيف أن الرداءة لم تعد استثناءً، بل نمطًا معمّمًا في تفاصيل الحياة اليومية.

1.      الشغف كشرط للإبداع

في زمنٍ غير بعيد، كانت الحرف تُنجز بشغف، من فردة الخبز التي تُخبز بحب، إلى زخرفة الأبواب التي تُنقش بصبر. كان الصانع، والمعماري، والحرفي، والفنان، ينهلون من معين التأني، ويُقبلون على الصنعة كمن يُقبل على عبادة، لا كمن يُؤدي وظيفة. الشغف لم يكن ترفًا، بل شرطًا للإبداع، وكان الصبر بوابته، والاتقان ذروته. أما اليوم، فقد تحولت الحرفة إلى أداء وظيفي مجرد، تُنجز على عجل، وتُفرغ من معناها، وتُباع بلا روح.

2.      الخبز كمجاز حضاري

فردة الخبز التي تباع اليوم في المخابز، ليست مجرد منتج رديء، بل هي مجاز حضاري لانهيار المعايير. نعلم جميعًا كيف صار حالها، مثلما نعلم كيف كانت حين كان الشغف مغلفًا بالإبداع، ومخافة الله تسبق اليد إلى العجين. هذا التدهور لا يمس الخبز وحده، بل يمتد إلى العمارة، واللباس، والفنون، وكل ما يُفترض أن يُصنع ليُكرّم الإنسان، لا ليُهين ذائقته. حين يُفقد الحس الجمالي والمهني، يُفقد المعنى، ويُفقد الإحساس بالكرامة في تفاصيل الحياة اليومية.

تنويه واجب: الخبز ليس مجرد صنعة

إن امتهان صناعة الخبز بالتحديد، ورفع سعره رغم رداءة صنعته، هو امتهان مباشر لكرامة المواطن في أبسط حقوقه المعيشية. فالمسألة هنا تتجاوز الإهمال في إتقان الصنعة، لتُلامس جوهر الحق في الغذاء الكريم، وفي الحد الأدنى من الاحترام لاحتياجات الإنسان اليومية. لكنها لا تقف عند حدود الرغيف، بل تمتد إلى جدار البيت، وسقف المسكن، وتفصيل الباب، وتوزيع الضوء. فما يُمارس على الخبز من رداءة في التصنيع وغلاء في السعر، يُمارس أيضًا على المباني وموادها، حيث ترتفع الكلفة وتنهار الجودة، ويُقدّم للمواطن منتج معماري لا يراعي بيئته، ولا يُكرّم ذائقته، ولا يُحترم فيه حقه في السكن الكريم. حين يُباع الرديء بسعر مرتفع، يُصبح المواطن ضحية مرتين: مرة في جسده، ومرة في كرامته، سواء أكان ذلك في رغيفه أو في سقف بيته. وهذا ليس خللًا في السوق فحسب، بل خلل في منظومة القيم، حيث يُستباح ما لا يُستباح، ويُهان ما لا يُهان، ويُختزل الإنسان في مستهلك لا يستحق إلا ما يُلقى إليه.

3.      المواطن كطرف في المعادلة

المواطن الليبي يتحمل المسؤولية الكاملة في الرضى بقبول ما خالف أصول الصنعة. يدفع الثمن مرتين: مرة في سعرها المرصود، ومرة في صحته، وراحة باله، ونفسيته، ومتعة النظر، وجمال المنظر في مخبره قبل مظهره. القبول بالرداءة ليس مجرد ضعف، بل هو تواطؤ صامت، يُكرّس الرداءة ويمنحها شرعية الاستمرار. ولا يُطلب من المواطن أن يثور، بل أن يستعيد وعيه، لا من باب التوبيخ، بل من باب المقاومة الصامتة، التي تبدأ برفض الرديء، والمطالبة بالأجود، والامتناع عن تمويل الرداءة.

الإبداع لا يُستورد، بل يُستعاد حين نُعيد الاعتبار للشغف، ونُعيد الصنعة إلى أهلها.

أنماط البيوت التقليدية في ليبيا

المسكن الطرابلسي التقليدي المنزل ذو الفناء " الحوش " جمال الهمالي اللافي مقدمة / يعتبر(...