الأحد، سبتمبر 28، 2025

عندما تبهت ملامح العمارة ويلمع حضور الفن التشكيلي


جمال الهمالي اللافي

    منذ أن انتقلت العمارة من مرحلة ما بعد الحداثة إلى التفكيكية، بدأ حضورها يتراجع أمام سطوة الرؤية التشكيلية التي باتت تتحكم في ملامح المشاريع. لم تعد الوظيفة، ولا استجابة المبنى للبيئة، هي ما يشغل كبار المعماريين، بل أصبح التلاعب بالألوان والنحت البصري للكتل هو ما يستحوذ على اهتمامهم. الكتلة الخارجية تُصمم لتُبهر، بينما يُترك الفراغ الداخلي يتأقلم معها قسرًا، يُرصّ أو يُمطّط ليخدم الشكل، لا الإنسان.


    أما المواد، من اللدائن إلى الشرائح المعدنية وقطع الفسيفساء، فلم تعد تُختار لمقاومة الزمن أو الظروف المناخية، بل لجاذبيتها البصرية. المكيفات تعمل بلا توقف، والترميم والصيانة باتا جزءًا من دورة حياة هذه المباني، فقط كي يستمر حضور الفن التشكيلي ويُفرض على المخططات الحضرية.

    حتى هذه المخططات لم تسلم، إذ تُعاد صياغتها لتُبرز الكتل المعمارية من جميع الجهات، وتُمنح مساحات تُظهرها كمعالم سياحية، لا كمرافق وظيفية. المدينة تُعاد تشكيلها لتُصبح خلفية لكتلة، لا بيئة حية.


الصورتان المرفقتان ليستا سوى مثالين على هذا التحول، حيث تُختزل العمارة إلى واجهة، ويُستبدل بها الفن، ويُقصى الإنسان.

الثلاثاء، سبتمبر 23، 2025

طرابلس القديمة: من فضاء إلى منهج



مدخل للنص: الذاكرة كمنهج

ليست العمارة مجرد بناء، بل هي ذاكرة تتجسد في المكان، وتُعيد تشكيل الذات عبر الزمن. وفي سياق التجربة الليبية، حيث تتداخل الجغرافيا بالتاريخ، ويُثقل التراث كاهل الحاضر، تصبح العلاقة بالمدينة الأولى أكثر من مجرد انتماء، إنها علاقة تكوين.

هذا النص لا يُروى بوصفه سيرة شخصية، بل بوصفه شهادة تلمذة واعية، تُعيد الاعتبار لطرابلس القديمة كمعلمة، لا كمتحف. فالمعماري لا يُصاغ فقط في قاعات الدراسة، بل في الأزقة، والفراغات، والتفاصيل التي تُلقّنه الصبر، وتُعلّمه التدرج، وتُهذّب انفعاله.

في هذا النص، أكتب من موقع النضج، لا لأستعرض، بل لأوثّق العلاقة التي شكّلت منهجي، ووجّهت رؤيتي، وألهمتني مقاومة الاستلاب البصري والوظيفي. ولا أكتب عن طرابلس القديمة بوصفها "محبوبة"، بل بوصفها "منهجًا"، يُعلّم ولا يُدلّل، يُنقّح ولا يُغوي، ويُبقي المعماري على صلة بالجوهر، لا بالانبهار.

 

هذا النص كتب بعد استقالتي في العام 2001 من عملي بمشروع تنظيم وإدارة المدينة القديمة:

لكل معماري، في ليبيا أو في العالم، معلمٌ تتلمذ على يديه، ويدين له بالفضل الأكبر فيما بلغ من فهمٍ وممارسة. وغالبًا ما ينعكس أثر هذا المعلم في أعمال تلميذه، ظاهرًا أو خفيًا.

أما أنا، وقد دخلت عقدي السابع، فأدين بكل الفضل لمعلمةٍ نهلت من معينها منذ مراحل مبكرة. انتبهت لشغفي بالعمارة وأنا لا أزال في المرحلة الإعدادية، ففتحت لي أبواب فضائها الرحب، وأدخلتني عالمها الواسع، وبدأت تلقنني أسرارها في سلسلة من الدروس الممتعة والمشوقة. علمتني كيف أصبر عليها، وألا أطالبها بكل شيء دفعة واحدة، بل أتلقى معارفها بالتدرج، مبنيًا على الملاحظة والفهم العميق لكل سر من أسرارها. حتى حببتني في العمارة، وجعلتها هدفي ورسالةً أعبر من خلالها عن رؤيتي وفهمي لدوري في هذه الحياة.

وبعد التحاقي بقسم العمارة والتخطيط العمراني بجامعة طرابلس، بقيت هي معلمتي الحقيقية، وحرصت على التواصل معها دون انقطاع، في فضائها الذي لا يضيق. ومن أجلها، التحقت بمشروع تنظيم وإدارة مدينة طرابلس القديمة، لأكون قريبًا منها، لا يشغلني عنها شيء. وحتى بعد انقطاعي عن العمل في هذه المؤسسة، حافظت على صلتي بها، ولا زلت حتى اليوم أزورها، فتزودني بما يضيء الطريق، وتحتضن هواجسي، وتستوعب أفكاري، وتمنحني من أصالتها ما يُبقيني على صلة بالجوهر.

ولأجل ألا توصم علاقتي بمدينة طرابلس القديمة، كما يروق للبعض أن يصفها، بالعشق أو الجنون، أُوضح أن هذه العلاقة ليست اندفاعًا عاطفيًا ولا انبهارًا غير واعٍ:

  • فالعاشق لا يرى في محبوبته أي عيب أو قصور، ويختزن في عقله اللاواعي صورةً مخالفةً للحقيقة، تجعله يتصرف وفق تصور مغلوط، بعيد عن الواقع.
  • والمجنون لا يعقل ولا يدرك ماهية الأشياء من حوله، وأعماله لا تخضع للمنطق السليم، ولا تستند إلى علاقة تفاعلية واعية ومدركة بين الأنا والموضوع، قائمة على البحث والاستقصاء والتقييم المنهجي.

علاقتي بمدينة طرابلس القديمة:

  • علاقة واعية، مدركة، مستقلة عن أي اندفاع عاطفي أو استلاب عقلي يثير الشفقة.
  • علاقة تلمذة واعتراف بالفضل، وتحديد للمدرسة التي استلهمت منها منهجي الفكري ورؤيتي المعمارية لمستقبل العمارة في بلادنا.

كبرت معلمتي في السن، وبدأت الأمراض تنهش جسدها الجميل، لكنها بالنسبة لي لا تزال فتية، تنبض بالحياة، ولا تنقطع عن العطاء.

معلمتي الفاضلة، مدينة طرابلس القديمة، لكِ فائق التقدير على كل ما تعلمه منك تلميذٌ يفتخر بأنك معلمته الأولى والأخيرة.

الاثنين، سبتمبر 22، 2025

الهوية المعمارية: بين الفناء كفراغ، والبيت ككيان

 

 

جمال الهمالي اللافي

الهوية ليست ترفًا فكريًا، بل شرط وجود. إنها ما يربط جيل الحاضر بجذور الأجداد، ويمنحه كيانًا حرًا قائمًا بذاته. في العمارة، لا يكفي أن نضع فناءً في قلب البيت لنقول إننا استحضرنا الهوية. فالفناء، رغم حضوره في جميع الحضارات، ليس أكثر من فراغ وظيفي ما لم يُشبَع بروح المكان.

يكفي أن الفناء ظهر أولًا في الحضارة الرومانية، ويكفي أن العمارة الغربية المعاصرة لا تزال تستخدمه كحل بيئي، حتى نفهم أنه ليس امتيازًا محليًا ولا دليلًا على الأصالة. يكفي أن بيوت الخمسينيات والستينيات في بلادنا احتوته، لكنها لم تمنحه أي ملامح من هوية المكان. كان مجرد حل اقتصادي لبيوت متلاصقة، بلا روح.

الهوية هي روح المبنى، والفناء هو رئته التي يتنفس بها، وعينه التي تنظر بها إلى السماء. لكنه لا يُحاكي هوية المكان لمجرد وجوده. فالمعماري الذي يضعه في الحسبان دون وعي بالخطاب الثقافي، لا يصنع هوية، بل يُكرر فراغًا.

شعب بلا هوية، ينتفي عنه الوجود. يعيش حياة بلا قيمة، بلا معنى. حياة بهيمية، حيث لا فرق بين حضيرة وأخرى، ولا بين من يبيت فيها ومن يبيت في غيرها.

العمارة المحلية بين التبعية والادعاء: حين يُختزل الحاضر في الزجاج

من بوابة الزمن إلى مفترق المعنى

شخصان يعبران من قلب طرابلس القديمة نحو المدينة المعاصرة، كأنهما يقطعان المسافة بين ذاكرة المكان وواقعٍ يتبدّل.
هذه البوابة ليست مجرد حجرٍ منحوت، بل حدٌّ فاصل بين عمارةٍ تحكي قصة الناس، وأخرى تروي حكاية الانبهار.
هنا، يقف الموروث شامخًا، بينما المعاصرة تلوّح براياتها الزجاجية في الأفق.
فهل العبور فعلُ تواصلٍ أم قطيعة؟


جمال الهمالي اللافي

يطيب للبعض حين يتحدث عن مدينة ما، أن يصفها بأنها تجمع بين الماضي العريق والحاضر، ثم يسارع إلى استعراض ناطحات السحاب والمباني الزجاجية المغتربة على أنها "رموز حضارية". والمغالطة هنا ليست في التوصيف فحسب، بل في جوهر الفهم: فهذه المباني ليست إلا انعكاسًا لحالة تبعية وانتكاسة حضارية، لا تجديدًا ولا إثراءً.

الحضارة لا تُقاس بمقدار ما نخلعه من جلدنا، بل بقدرتنا على التواصل مع جذورنا وإثرائها. فكل مرحلة عمرانية تحكي عن تواصل حضاري لشعب ما، حيث تتكيف العمارة مع تجدد الاحتياجات دون أن تقطع حبل الوصل بين عمارة الأجداد وعمارة الأحفاد. الحضارة ليست استبدالًا ولا تخليًا، بل سلسلة متصلة لا تنفصم عراها.

هذا الطرح يناقش الفكرة، لا الأشخاص. ومن شمله النقد، فليأخذ المغزى لا المأخذ. لا مجاملة في الحق، ولا خشية من لومة لائم، فقد خرجت الأمور عن نصابها.

حين تكون مرجعيتك مشاريع لوكوربوزييه أو عمارة التفكيك، ثم تدّعي أنك تستلهم من العمارة المحلية، فأنت لا تكذب فقط، بل تضلل. حين تملأ تصاميمك بمسطحات الزجاج والمساحات المفتوحة وتغيب الخصوصية، ثم تزعم مراعاة الظروف المناخية والاجتماعية، فأنت تجهل معنى العمارة المحلية ومقتضياتها ومعطياتها وأصولها ومفرداتها وخصائصها وتاريخها.

العمارة المحلية ليست زخارف ولا أقواس، بل علم متعدد الفروع، يبدأ من توزيع الفراغات ويتفاعل مع البيئة والإنسان. كما قال المهندس صالح المزوغي:

"العمارة المحلية مساقط وفراغات قبل أن تكون أقواسًا وفتحات... تستوقفك لتجلس على ركابة، تستمتع بما حبس أنفاسك، في بيئة وفرها لك المعماري، سواء كان مهندسًا أو بنّاءً أو حتى مقلدًا لمعلم خالد أبقاه الزمان رغم التقنية والتقدم العلمي."

الإلمام الواعي بخصوصية العمارة المحلية يجعل المعماري يتعامل معها بعقلية الجراح، لا المغامر. فليس من مهامه قلب الطاولة، بل إعادة ترتيبها بحكمة.

المعادلة التي لا يفقهها كثيرون: ما نبنيه اليوم هو عمارة المستقبل، وما بناه أجدادنا كان عمارة حاضرنا. حين هدمنا تلك الصروح بزعم أنها "ماضٍ"، كنا في الحقيقة نهدم حاضرنا. فخسرنا الجميل، وورثنا القبح، ونعمل جاهدين لنصدّره لأحفادنا.

التصميم المعماري الناجح لا يكتفي بالإبهار، بل يحكي قصة ترتبط بالتاريخ والواقع. أما من يتقن نسج الحكايات حول تصاميمه ليغري بها مالك المشروع، ثم يناقضها في التنفيذ، فهو كاذب. لأنه يعلم أن المجتمع لا يفرق بين الحكاية والواقع، ويحب من يخدعه أكثر من من يصارحه، ما دام ذلك المخادع يملك أدوات الإبهار القادمة من وراء البحار.

الأحد، سبتمبر 21، 2025

التفاصيل المعمارية: هوية مهدورة في العمارة الليبية المعاصرة

 بين غفلة المعماري ووعي الحرفي: التفاصيل كجسر بين الذات والآخر

دار القبول بحوش يوسف باشا القره مانللي

جمال الهمالي اللافي


في زمنٍ تتسارع فيه وتيرة الاستنساخ المعماري، وتُختزل فيه العمارة إلى مفردات وظيفية مجردة، تبرز التفاصيل المعمارية كعنصر مقاوم، لا بوصفها ترفًا زخرفيًا، بل باعتبارها جوهرًا ثقافيًا يعكس رؤية المجتمع للحياة والفن. هذه التفاصيل، التي يبدعها الحرفي المحلي، هي ما يمنح العمارة خصوصيتها، ويُخرجها من عباءة التكرار إلى فضاء التمايز.

التفاصيل: بطاقة هوية لا زخرفة

ليست القبة ولا القوس ولا الباب هي ما يميز عمارة منطقة عن أخرى، بل هي المعالجات الدقيقة لهذه العناصر، وتوظيفها ضمن سياق ثقافي بصري متكامل. في العمارة المتوسطية مثلًا، تتشابه المفردات، لكن التفاصيل هي التي تصنع الفارق، وتمنح كل منطقة نكهتها الخاصة. هذه التفاصيل ليست انعكاسًا لثراء مادي، بل لثراء فكري وروحي، وهي التعبير الأصدق عن فلسفة الحياة في كل بيئة.

الإنسان والاختلاف: العمارة كمرآة للذات

يميل الإنسان بطبعه إلى التمايز، ويبحث عن الاختلاف في محيطه ليشعر بفرادته. حين تغيب التفاصيل، يغيب التمايز، ويحل الملل محل الانبهار، مما يفضي إلى خواء نفسي يدفع البعض إلى التمرد، وربما إلى العنف، فقط ليقول "أنا مختلف". العمارة، حين تفقد خصوصيتها، تفقد قدرتها على التعبير عن الإنسان، وتتحول إلى قطيع بصري لا يثير فضولًا ولا يحرك وجدانًا.

العمارة الليبية المعاصرة: قطيعة مع الذات

منذ بدايات القرن العشرين وحتى عام 2025، شهدت العمارة الليبية انحسارًا شبه تام في التفاصيل المعمارية، نتيجة تبني رؤية تعليمية متأثرة بعمارة الحداثة الغربية، التي أقامت قطيعة مع الموروث المحلي. هذه الرؤية، التي اعتبرت التفاصيل تغطية لعيوب، تجاهلت أن العمارة الليبية سبقت الحداثة في صراحتها الكتلية ورفضها للإطناب الزخرفي. لكن المعماري الليبي، بدلًا من أن يطرح بديلًا يمنح العمارة الليبية خصوصيتها، استنسخ مفردات وتقنيات مغتربة، تجاوزها مبتكروها منذ قرن.

الحرفي الليبي: حامل الهوية المنسية

في المقابل، أبدع الحرفي الليبي في التعبير عن الذات الجمعية، وابتكر تفاصيل أصيلة دمجها بذكاء مع المفردات المعمارية، ليصنع عمارة ناطقة بالهوية. لكن هذا الإبداع لم يجد صداه في منجزات المعماريين المعاصرين، الذين تجاهلوا التفاصيل، لا لقصور في الإمكانات، بل لقصور في الرؤية.

خاتمة

إن استعادة التفاصيل في العمارة الليبية ليست مجرد استرجاع للماضي، بل هي فعل مقاومة ضد التبعية البصرية والوظيفية، ومحاولة جادة لإعادة بناء خطاب معماري نقدي يعيد الاعتبار للبساطة والصدق، ويمنح للبيت الليبي المعاصر خصوصيته المتفردة. فالتفاصيل ليست ترفًا، بل هي جوهر التمايز، وهي ما يجعل العمارة فعلًا ثقافيًا لا مجرد بناء.

السبت، سبتمبر 20، 2025

المباني التي لا تُشبهنا: بين الابتكار والاستيراد


جمال الهمالي اللافي

في الغرب، لا تُبنى العمارة على فراغ، بل تنبت من تربة الوعي الجمعي، وتتشكل من عناصر البيئة، واحتياجات المجتمع، وقيمه المتجددة. فالمعماري الغربي، حين يخطّ مشروعه، لا يستورد أدواته من الخارج، بل يستنبتها من سياقه المحلي، مستندًا إلى تقنيات ومواد أنجزها حرفيوه، وإلى هوية معاصرة صاغها مفكروه ومبدعوه. ورغم اختلاف الأساليب بين الكلاسيكية والمعاصرة، فإن ما يجمعهما هو انتماؤهما إلى بيئة واحدة، لا إلى موضة عابرة أو مرجع مستعار.

وهنا يتضح الفارق بين التقليد والابتكار: فالتقليد يكتفي باستنساخ الشكل، ويغفل عن الروح التي أنتجته. أما الابتكار، فهو فعل مقاومة للفراغ، واستجابة واعية للزمن والمكان. إنه لا يرفض الماضي، بل يعيد تأويله، ويمنحه امتدادًا حيًّا في الحاضر. العمارة المبتكرة لا تُعرض، بل تُحاور؛ لا تُبهر، بل تُعبّر. وهي بهذا، ليست مجرد بناء، بل خطاب ثقافي بصري، ينهض من الأرض التي يقف عليها، ويخاطب الناس بلغتهم، لا بلغة مستعارة.

في المدن التي غزتها العمارة المستوردة، يبدأ التحوّل النفسي بصمت: يشعر الناس أن الفضاء لا يُشبههم، أن النوافذ لا تُطلّ على ذاكرتهم، وأن الألوان لا تُخاطب وجدانهم. ومع الوقت، يتحول هذا الشعور إلى حياد بصري، ثم إلى اغتراب داخلي. المباني التي لا تُشبهنا لا تُطمئننا، بل تُربكنا. إنها لا تحتضننا، بل تُقصينا.

هذا الاستلاب لا يقتصر على الشكل، بل يتسلل إلى تفاصيل الحياة اليومية: في طريقة الجلوس، في توزيع الضوء، في علاقة الداخل بالخارج. حتى الحميمية تُعاد قولبتها وفق نمط لا نعرفه، ولا نختاره. وهكذا، يُعاد إنتاج الغربة في كل زاوية، ويُعاد تشكيل الذائقة الجمعية وفق مرجع لا علاقة له بالبيئة أو بالعادات أو بالوجدان.

الخطير في الأمر، أن هذا التحوّل لا يُواجه غالبًا بالوعي، بل يُمرّر تحت شعار "الحداثة" أو "التطور"، وكأن الانتماء إلى الذات صار تهمة، وكأن الأصالة لا تُناسب العصر. وهنا، لا يكون الاستيراد مجرد خيار تصميمي، بل فعلًا ثقافيًا يُعيد تشكيل الهوية من الخارج، ويُضعف قدرة المجتمع على إنتاج رموزه البصرية الخاصة.

العمارة، حين تُفقد وظيفتها التعبيرية، تتحول إلى قشرة. وحين تُستورد دون وعي، تُصبح أداة لإعادة إنتاج التبعية، لا وسيلة للتعبير عن الذات. والمجتمع الذي يعيش في فضاء لا يُشبهه، لا يملك إلا أن يُعيد إنتاج الغربة، حتى في تفاصيل حياته اليومية.

خاتمة

ليس المطلوب أن نُغلق الباب أمام التأثر، بل أن نُعيد فتحه بوعي. فالمعماري الذي يُنصت لنبض المكان، ويُصغي لذاكرة الناس، لا يخشى الابتكار، بل يُعيد تعريفه. والعمارة التي تُشبهنا، لا تُعيد إنتاج الماضي، بل تُعيد الاعتبار للانتماء.

الجمعة، سبتمبر 19، 2025

العصرنة كغيبوبة جماعية: حين يُستبدل المعنى بالعرض


جمال الهمالي اللافي

هل تبحث عن تصاميم عصرية؟

لمساكن، مباني تجارية، إدارية، مطابخ، صالونات، نوم، معيشة؟

سؤال استغفالي، استدراجي... وفخ العصرنة!

وما أدراك ما العصرنة؟

استبدال السمين بالغث، والطيب بالخبيث، والصالح بالطالح.

استبدال المناسب بالمتعارض، والوعي بالغيبوبة.

والغائب عن وعيه، لا يُخاطَب بمنطق.

لن يسمع، لن يعقل

أيقِظه أولًا، ثم حدّثه بما تشاء.

قبل ذلك، أنت تخاطب أمواتًا يمشون.

هذا هو الواقع.

العصرنة كقناع لغوي

في الخطاب المعماري والإعلاني، تُستخدم مفردات مثل "حديث"، "راقي"، "مودرن" كأقنعة لغوية تُخفي وراءها تغييبًا للهوية، وتفريغًا للفضاء من روحه. لا تُقاس جودة التصميم بمدى صدقه أو ارتباطه بالبيئة، بل بمدى مطابقته لمعايير خارجية، مستوردة، لا تُراعي السياق المحلي ولا الذاكرة الجمعية.

الذوق الجماعي كمنتَج إعلامي

الذوق العام لم يعد نابعًا من التجربة أو الحاجة، بل من الصورة. الإعلام لا يعرض فقط، بل يُملي. يُكرّر النموذج حتى يتحول إلى معيار، ويُغرق المتلقي في رغبة لا يملكها أصلًا. وهنا، يصبح الذوق الجماعي غيبوبة جماعية، لا وعيًا مشتركًا.

العمارة كخطاب مفرغ من المعنى

في المدن العربية، تُبنى مساكن لا تُشبه أهلها، وتُصمم مبانٍ لا تُراعي وظيفتها، وتُستورد أنماط لا تُحاكي المناخ ولا الثقافة. يُستبدل الصدق بالزخرفة، والبساطة بالاستعراض، والوظيفة بالعرض. ويُهمّش المعماري الواعي لصالح المقاول السريع، ويُقصى النقد لصالح الترويج.

في الحاجة إلى يقظة قبل الحوار

حين يغيب الإدراك، لا يُجدي الخطاب. لا يمكن إقناع من لا يرى، ولا يمكن محاورة من لا يسمع. لذلك، فإن أول خطوة في مقاومة هذا الواقع ليست في تقديم البديل، بل في فضح الزيف، وفي استعادة القدرة على التمييز. الوعي، حتى لو كان عاجزًا عن التغيير، هو فعل مقاومة في ذاته.

في زمن العرض، يبقى الوعي هو الفعل الوحيد الممكن

ليست الأزمة في غياب التصاميم الصادقة، بل في غياب من يطلبها. ليست المشكلة في المعماري، بل في الذوق الذي أُعيد تشكيله خارج الوعي. وحين يتحول الذوق إلى غيبوبة، يصبح الخطاب عبثًا، والنقد ترفًا، والبديل غير مرئي. لكن حتى في هذا الزمن، يبقى الوعي فعلًا مقاومًا، ولو كان عاجزًا عن التغيير. يبقى التمييز بين الغث والسمين، بين الطيب والخبيث، هو أول خطوة نحو استعادة المعنى. والمعنى، حين يُستعاد، لا يحتاج إلى زخرفة. يكفيه الصدق.

الثلاثاء، سبتمبر 16، 2025

من التنظير إلى التحقق: تحديات المعمار في غياب التنفيذ


جمال الهمالي اللافي

ليس الإنسان كائنًا نظريًا، بل هو ابن ما يراه ويختبره. الفكرة، مهما بلغت منطقها، تبقى معلّقة في الفراغ ما لم تجد أرضًا تُزرع فيها. وفي حقل العمارة، حيث تتقاطع الرؤية مع المادة، يصبح الحرمان من التنفيذ ضربًا من الإقصاء المعرفي، لا المهني فقط.

حين تُحرم المشاريع من التحقق، لا يعود للخطاب المعماري ما يسنده سوى الكلمات. والكلمات، مهما صيغت بإتقان، لا تُقنع من اعتاد أن يصدّق ما يُبنى لا ما يُقال. وهكذا، تتآكل الحجة، ويبهت المنهج، ويُختزل المعماري في دور المتأمل لا الفاعل.

الخبرة لا تُكتسب من التأمل وحده، بل من الاحتكاك بالواقع، من التجريب، من الخطأ والصواب. وكل فرصة ضائعة للتنفيذ، هي خصم من رصيد الخبرة، وجرح في جسد الممارسة. وبين النظرية والتطبيق، هوّة لا تُردم بالشرح، بل بالعمل.

حين تُخيفنا الفخامة وتُطمئننا البساطة


جمال الهمالي اللافي

عندما تتصادم الفخامة مع البساطة، ينحاز الناس للفخامة، حتى وهم مقتنعون بأن البساطة أصدق.
ذلك لأن البساطة، في ثقافة البشر، تُقرن غالبًا بالضعف، بينما تُقرن الفخامة بالقوة والهيبة.
والناس، بطبيعتهم، يميلون إلى الاحتماء بالقوة، لأنها تمنحهم شعورًا بالأمان، وتغطي على عجزهم عن صناعة قيمة نابعة من ذواتهم.

لكن التاريخ لا يُنصف هذا الميل. فالغلبة، في أحداثه، كانت دائمًا للبساطة. لأن الفخامة تفرض نفسها بالخوف، بينما تفرض البساطة حضورها بالاحترام. ومشاعر الأمن الحقيقي لا تنبع من الهيبة، بل من الطمأنينة التي تولدها البساطة في النفوس.

وفي المعمار، تتجلى هذه المفارقة بوضوح. المدن التي تأسست على الفخامة والهيبة، لتُرهب وتُبهر، صارت مجرد أثر بعد عين. بينما المدن الشعبية، التي نشأت من الناس ولهم، ما زالت تواصل تجذرها في مسارب التاريخ حتى يومنا هذا. لا لأنها أفخم، بل لأنها أبسط، وأصدق، وأكثر قدرة على البقاء.

الاثنين، سبتمبر 15، 2025

 العمارة بذرة لا قالبًا . ليست فعلًا يُفرض على الأرض، بل نبتة تنمو من تربتها، وتتشكل وفق مزاجها ومناخها وذاكرتها. كل مشروع حقيقي يبدأ من الإصغاء للمكان، لا من استدعاء شكل مسبق. البيئة ليست خلفية، بل هي الحاضنة، والمجتمع ليس مستخدمًا، بل هو الشريك.

لهذا، لا أُسقط تصميمًا على موقع، بل أستنطقه حتى يبوح بما يستحق أن يُبنى فيه. فالعمارة التي لا تنمو من بيئتها، تبقى دخيلة مهما تجمّلت.

جمال الهمالي اللافي

من رغيف الخبز إلى عمارة البيت: كيف يُقاس تراجع الإبداع في تفاصيلنا اليومية؟

  

جمال الهمالي اللافي

ما يحدث لفردة الخبز، يحدث لجدار البيت، ولتفصيل الباب، ولتوزيع الضوء في المسكن. غياب الشغف في صناعة الخبز هو ذاته غيابه في تصميم البيت الليبي المعاصر، حين يُستبدل الحس بالمخطط، والضمير بالمقاول، والهوية بالاستيراد البصري. هذا الربط ليس مجازًا بل واقعًا، يُظهر كيف أن الرداءة لم تعد استثناءً، بل نمطًا معمّمًا في تفاصيل الحياة اليومية.

1.      الشغف كشرط للإبداع

في زمنٍ غير بعيد، كانت الحرف تُنجز بشغف، من فردة الخبز التي تُخبز بحب، إلى زخرفة الأبواب التي تُنقش بصبر. كان الصانع، والمعماري، والحرفي، والفنان، ينهلون من معين التأني، ويُقبلون على الصنعة كمن يُقبل على عبادة، لا كمن يُؤدي وظيفة. الشغف لم يكن ترفًا، بل شرطًا للإبداع، وكان الصبر بوابته، والاتقان ذروته. أما اليوم، فقد تحولت الحرفة إلى أداء وظيفي مجرد، تُنجز على عجل، وتُفرغ من معناها، وتُباع بلا روح.

2.      الخبز كمجاز حضاري

فردة الخبز التي تباع اليوم في المخابز، ليست مجرد منتج رديء، بل هي مجاز حضاري لانهيار المعايير. نعلم جميعًا كيف صار حالها، مثلما نعلم كيف كانت حين كان الشغف مغلفًا بالإبداع، ومخافة الله تسبق اليد إلى العجين. هذا التدهور لا يمس الخبز وحده، بل يمتد إلى العمارة، واللباس، والفنون، وكل ما يُفترض أن يُصنع ليُكرّم الإنسان، لا ليُهين ذائقته. حين يُفقد الحس الجمالي والمهني، يُفقد المعنى، ويُفقد الإحساس بالكرامة في تفاصيل الحياة اليومية.

تنويه واجب: الخبز ليس مجرد صنعة

إن امتهان صناعة الخبز بالتحديد، ورفع سعره رغم رداءة صنعته، هو امتهان مباشر لكرامة المواطن في أبسط حقوقه المعيشية. فالمسألة هنا تتجاوز الإهمال في إتقان الصنعة، لتُلامس جوهر الحق في الغذاء الكريم، وفي الحد الأدنى من الاحترام لاحتياجات الإنسان اليومية. لكنها لا تقف عند حدود الرغيف، بل تمتد إلى جدار البيت، وسقف المسكن، وتفصيل الباب، وتوزيع الضوء. فما يُمارس على الخبز من رداءة في التصنيع وغلاء في السعر، يُمارس أيضًا على المباني وموادها، حيث ترتفع الكلفة وتنهار الجودة، ويُقدّم للمواطن منتج معماري لا يراعي بيئته، ولا يُكرّم ذائقته، ولا يُحترم فيه حقه في السكن الكريم. حين يُباع الرديء بسعر مرتفع، يُصبح المواطن ضحية مرتين: مرة في جسده، ومرة في كرامته، سواء أكان ذلك في رغيفه أو في سقف بيته. وهذا ليس خللًا في السوق فحسب، بل خلل في منظومة القيم، حيث يُستباح ما لا يُستباح، ويُهان ما لا يُهان، ويُختزل الإنسان في مستهلك لا يستحق إلا ما يُلقى إليه.

3.      المواطن كطرف في المعادلة

المواطن الليبي يتحمل المسؤولية الكاملة في الرضى بقبول ما خالف أصول الصنعة. يدفع الثمن مرتين: مرة في سعرها المرصود، ومرة في صحته، وراحة باله، ونفسيته، ومتعة النظر، وجمال المنظر في مخبره قبل مظهره. القبول بالرداءة ليس مجرد ضعف، بل هو تواطؤ صامت، يُكرّس الرداءة ويمنحها شرعية الاستمرار. ولا يُطلب من المواطن أن يثور، بل أن يستعيد وعيه، لا من باب التوبيخ، بل من باب المقاومة الصامتة، التي تبدأ برفض الرديء، والمطالبة بالأجود، والامتناع عن تمويل الرداءة.

الإبداع لا يُستورد، بل يُستعاد حين نُعيد الاعتبار للشغف، ونُعيد الصنعة إلى أهلها.

الأحد، سبتمبر 14، 2025

بيان البلاغ: من عبيد الوهم إلى وعي التصميم



جمال الهمالي اللافي

يتردد في الذهن سؤالٌ ملحّ: من هم "عبيد الوهم"؟

هم أولئك الذين يكتبون أو يقرأون لا طلبًا للمعرفة، بل لتأكيد ما يعتقدونه مسبقًا، ولإثبات قناعاتهم مهما كانت هشاشتها. لا يقرؤون ليتحرروا، بل ليزدادوا قيدًا. يتعاملون مع النصوص كمرآة لأنفسهم، لا كنافذة على العالم. يرفضون مساءلة الفكرة، ويخشون أن تهتزّ الصورة التي رسموها لأنفسهم.

هذا النص وُلد من مساءلة هذا النمط، لا من الرغبة في مهاجمته. جاء ليعيد الاعتبار لفعل القراءة بوصفه بحثًا عن الحقيقة، لا إثباتًا للهوى. وليؤكد أن المرجعية القرآنية، حين تُستعاد سلطتها، تُعيد ترتيب المفاهيم، وتمنح الإنسان ميزانًا لا يختل، مهما تبدّلت النظريات أو تعاقبت الأهواء.

في زمنٍ تتكاثر فيه الأصوات وتقلّ فيه البصائر، يظلّ الرجوع إلى المصدر فعلًا مقاومًا لا ترفًا فكريًا. فالقرآن الكريم، المرجعية التي لا يعتريها الخلل، لا يُستدعى لتأكيد القناعات، بل لتفكيكها، ومساءلتها، وإعادة ترتيب الواقع حولها لا العكس.

الذين يكتبون ليؤكدوا ما آمنوا به مسبقًا، لا ليختبروا صدقه، هم عبيدٌ لوهمٍ يتزيّاً بثوب المعرفة. أما من يقرأ ليقارن، ويفهم، ويزن الأمور بميزان لا يختل، فهو شاهدٌ على الطريق، ولو كان وحده.

الواقع المفروض لا يعفي من مسؤولية الكلمة. والبلاغ لا يُقاس بمدى الاستجابة، بل بصدق النية، ووضوح الاتجاه. فحين يُعاد الاعتبار للنص القرآني، لا بوصفه أداة جدل، بل مرجعية جامعة، يحدث التغيير في الاتجاه الصحيح، الذي يخدم البشرية جمعاء.

ليس في القرآن تصادم، بل تحذير من الزلل، ودعوة للتعارف، وتكريم للتقوى. وما جلب الشر على الناس إلا حين تخلّوا عن هذا الميزان، واستبدلوه بنظريات تهدم بعضها بعضًا، وتُفصّل الحق حسب الأهواء.

القرآن الكريم رسم الطريق، وبيّن الثوابت، وترك للإنسان مساحة الاجتهاد في المتغيرات، دون أن يخلط بينهما. من هنا، لا خوف من الزلل، ولا تقوقع على حال، ما دام الميزان حاضرًا، والنية صادقة، والمرجعية محفوظة.

ما علينا إلا البلاغ.

والبلاغ، حين يُفهم بوصفه مسؤولية لا تنفصل عن الفعل، يمتد أثره إلى كل حقل من حقول التعبير، بما في ذلك التصميم المعماري.

بين البلاغ والتصميم: بيان المسار

هذا النص ليس معزولًا عن اشتغالي المعماري، بل هو امتداد له في الجوهر والمنهج. فكما أن البلاغ لا يُؤجل، فإن التصميم أيضًا لا يُفصل عن الوعي. ما أكتبه في نقد العمارة المحلية، وما أصممه من مشاريع غير استعراضية، ينطلق من المرجعية ذاتها: القرآن الكريم، بوصفه ميزانًا لا يختل، ومن الفهم النقدي الذي يفرّق بين الثابت والمتغير، ويعيد الاعتبار للبساطة والصدق في التعبير.

الخط الذي أسير عليه في صياغة منشوراتي المعمارية ليس تقنيًا فقط، بل فكري أيضًا. أرفض فيه الانبهار، وأقاوم فيه الاستلاب البصري، وأعيد فيه بناء المفاهيم على أساسٍ من التواضع المعرفي والوعي بالبيئة والهوية. كل تصميم عندي هو بلاغ، وكل بلاغ هو مسؤولية. وهذا النص، بما يحمله من مساءلة وتوضيح، هو بيانٌ لما قبل التصميم، وما بعده؛ هو مرآة للنية التي تسبق كل مشروع، ولكلمة الحق التي تسبق كل شكل.

الموروث الحرفي بين الإثراء والتشويه


جمال الهمالي اللافي

في كثير من الأحيان، لا يكون الخلل في غياب الإبداع، بل في توجيهه نحو التشويه بدلًا من الإثراء. يحدث ذلك حين يُعاد إنتاج عناصر الموروث الثقافي- من عمارة وحرف فنية وملبوس وأكل وعادات وتقاليد- دون دراسة عميقة لمفرداته وتفاصيله، أو فهمٍ لجمالياته التي انطلقت من بيئته المحلية ومصادره الأصلية، أو حتى مؤثراته الخارجية التي امتزجت معه تاريخيًا دون أن تبتلعه.

إن العناصر الزخرفية والتفاصيل التي تدخل في تشكيل جماليات المنتج المحلي المعاصر، قد تكون مدخلًا للإثراء حين تُستعاد بوعي، لكنها تتحول إلى أدوات للتشويه حين تُستبدل بعناصر دخيلة لا تنتمي إلى السياق الثقافي أو البيئي. فتغدو العمارة، والصناعات الحرفية، والزي التقليدي، وحتى المأكولات، مجرد نسخ متقنة لما يبدعه الآخر، لا امتدادًا لما أبدعه الحرفي الليبي في لحظة صدق مع بيئته.

لقد طال هذا التشويه الزي التقليدي للرجال والنساء، حيث بات يُعاد إنتاجه وفق أذواق مستوردة، تُفرغ الملبوس من رمزيته وتحوّله إلى زينة سطحية. كما أصابت العدوى صناعة الفخار في موطنه الأصلي بغريان، حيث تُستبدل تقنيات الصنع اليدوية بمنتجات شبه صناعية لا تحمل روح المكان ولا ذاكرته. أما المدينة القديمة، فتعاني من موجة "صيانة" لا تراعي أصول الترميم، حيث يُستبدل الطين بالحجر، والحجر بالإسمنت، فتُطمس المعالم تحت ادعاءات التحديث، ويُمحى التاريخ باسم الحفاظ عليه.

وواقعنا اليوم يشهد على حرب شعواء تُشنّ على الموروث الثقافي، لا من الخارج، بل من الداخل، حين يُنسب إلى مؤثرات دخيلة، ويُعاد إنتاجه بمنطق الاستلاب لا بمنطق الاستيعاب. ويبدو ذلك جليًا في الخطاب السائد حول العمارة المحلية، التي تُختزل في قوالب مستوردة، وتُحاكم بمعايير لا تنتمي إلى تربتها.

في ضوء ما سبق، يتضح أن الإشكالية لا تكمن في مجرد تغيّر الشكل أو تطوّر الوسائل، بل في غياب الوعي النقدي الذي يميّز بين الإثراء الواعي والتشويه المقنّع. فحين يُستبدل الموروث الحرفي بعناصر دخيلة دون فهمٍ لجذوره أو احترامٍ لخصوصيته، لا نكون بصدد تحديث أو تطوير، بل نكون أمام فعل محوٍ تدريجي للذاكرة الجمعية، يُنفّذ بأدوات محلية وبأيدٍ تظن أنها تُحسن صنعًا.

إن ما يحدث في غريان من تراجع في صناعة الفخار، وما يُرتكب بحق المدينة القديمة تحت شعار "الترميم"، وما يُعاد إنتاجه من زيّ تقليدي منزوع الدلالة، ليست حالات معزولة، بل مؤشرات على خلل أعمق في فهم العلاقة بين الهوية والممارسة. فالموروث ليس مادة خامًا تُعاد صياغتها حسب الذوق، بل هو خطاب بصري وثقافي يحمل في طياته طبقات من التاريخ والرمزية والانتماء.

ولذلك، فإن الدفاع عن الموروث لا يعني تجميده أو تقديسه، بل يعني مساءلة كل تدخل فيه: هل يُعيد الاعتبار لما كان؟ أم يُعيد إنتاج ما لا يجب أن يكون؟ وهل نحن نُعيد بناء الذاكرة، أم نُعيد إنتاج النسيان؟ هذه الأسئلة وحدها كفيلة بأن تضع كل ممارسة حرفية أو تصميمية أمام امتحان الصدق، لا أمام استعراض الإتقان.

السبت، سبتمبر 13، 2025

من رسومات الكهوف إلى الإزميل والماوس: هل تغيّرت الأداة أم تغيّر المعنى؟



تربط هذه الصورة بين الإدراك الحسي والتفكير الإبداعي والتنفيذ اليدوي، وتُظهر كيف تتفاعل الحواس والعقل مع الفعل المعماري. الصورة تُجسد أن المعمار ليس فعلًا تقنيًا فقط، بل مسارًا إدراكيًا متكاملًا، مهما تطورت أدواته.


جمال الهمالي اللافي

في كل مرحلة من مراحل تطور أدوات المعماري، كان هناك من يرفع راية الدفاع عن "الأصالة"، وكأنها حكر على الوسيط اليدوي. من رسومات الكهوف الأولى، إلى الإزميل الذي حفر على الصخور، ثم قلم الرصاص والحبر، وصولًا إلى الماوس والشاشة، ظلّ الخطاب المعماري يتأرجح بين تقديس الأداة ومساءلة الفكرة. واليوم، حين يستعين المعماري ببرامج الرسم الحديثة، يُتهم أحيانًا بالتخلي عن "الروح"، وكأن الإبداع لا يتحقق إلا عبر الورقة والقلم.

لكن هذا النقد، وإن بدا حريصًا على جوهر المهنة، يغفل عن أن جوهر المعمار لا يكمن في الأداة، بل في الفكرة، وفي القدرة على تجسيدها بدقة وصدق. الرسم اليدوي ليس معيارًا للإبداع، بل وسيلة من وسائل التعبير. ومن يجيد التعبير عبر الماوس أو الشاشة لا يقل صدقًا عن من يرسم بالقلم. بل إن البرامج الحديثة، من أوتوكاد إلى سكيتش أب، منحت المعماريين أدوات أكثر توافقًا مع تسارع الأفكار، وحررتهم من عناء التكرار اليدوي، ومن الملل الذي يرافق إعادة تعديل الاسكتشات بعد اكتشاف خلل ما.

لقد رسم بعض النقاد المعماريين صورة شهيرة تُظهر كيف تنتقل الفكرة من الرأس إلى العين إلى اليد، في سلسلة إدراك لا تنكسر. هذه الصورة لا تُدين التحول من الورقة إلى الشاشة، بل تُذكّرنا بأن جوهر العملية التصميمية لم يتغير. الرأس لا يزال يفكر، والعين لا تزال ترى، واليد لا تزال تُنفّذ. ما تغيّر هو القلم والورقة، من رصاص إلى ماوس، ومن ورقة إلى شاشة. ولا ندري ما الجديد الذي سيأتي، لكننا نعلم أن المعماري الصادق سيظل يبحث عن أداة تُجسّد فكرته بأوضح صورة، لا عن وسيلة تُرضي الحنين.

إن الانتقال من الرسم اليدوي إلى الرقمي ليس تخليًا عن الحرفة، بل هو انسجام مع طبيعة المعماري نفسه، ومع حاجته إلى آلية تنفيذ تتفق مع إيقاعه الذهني. فلكل معماري آلية ينفذ بها رسوماته، وليس بالضرورة أن تكون يدوية. وما دامت البرامج تساعده على تحقيق فكرته وتوصيلها بأوضح صورة لزبائنه، فإن التشكيك في مشروعيتها لا يعدو أن يكون حنينًا غير مبرر، أو مقاومة لتغير لا يمكن إيقافه.

الأصالة لا تُقاس بنوع القلم، بل بصدق الفكرة، وبقدرة المعماري على أن يكون مرآة لذاته، لا نسخة من ماضٍ لا يعود. وما يهم في النهاية، ليس كيف رُسمت الفكرة، بل كيف وصلت، وكيف أثّرت، وكيف بقيت.

من الفكرة إلى الواقع: هل تحقق المشروع أم أُضيف إلى التشويه؟

الرسم المعماري، في جوهره، ليس لوحة تشكيلية تُعلّق على الجدار، بل أداة توضيح دقيقة تُوجّه العمالة المنفذة على أرض الواقع. بعد أن يقتنع الزبون بأن هذا هو المشروع الذي يريده، تبدأ مرحلة الاختبار الحقيقي: هل ينجح التصميم في تحقيق معايير الكفاءة والملاءمة؟ أم يتحول إلى كتلة جديدة تُضاف إلى مشهد عمراني مشوّه، تساهم في تفاقمه رغم دقة خطوطها اليدوية ورقيّ إخراجها على الورق؟

العبرة ليست في جمال الرسم، بل في صدق التنفيذ. فكم من مشروع رُسم بإتقان، لكنه عند التنفيذ أضحى جزءًا من العشوائية، لا من الحل. وهنا يتضح أن الأداة، سواء كانت قلمًا أو ماوسًا، ليست هي الحكم، بل النتيجة التي تترك أثرها في الواقع، وتُعيد تشكيله أو تُشوّهه.

النافذة التي لا تُطل

 


جمال الهمالي اللافي

تأملات في التوتر المعماري بين الرغبة والرهبة

في تصميم الاستراحات، يطلب الزبائن نوافذ واسعة، يطمعون في إطلالة على الطبيعة، كأنهم في بلادٍ لا تُقلقهم الهواجس. وحين تُنفذ، لا يطيلون النظر إلى الخارج، بل يطيلون التحديق في احتمالات التعدي على خصوصيتهم. تبدأ المطالبات: حديد حماية لا يمنع ولا يسمح، زجاج لا يكشف ولا يعزل، إطلالة لا تُرى ولا تُراقب.

النافذة، التي كانت وعدًا بالانفتاح، تتحول إلى مصدر قلق. تصبح سببًا لرفض المبيت، خصوصًا لمن يبيت بمفرده. يتراجع الزبون عن رغبته الأولى، ويطلب ما يناقضها، لأن الواقع لا يشبه الصور.

من معايشتي، لا أحد ينظر للخارج حين يكون داخل الاستراحة. الحديث، الأكل، النوم، كلها تشغلهم عن الإطلالة. النافذة إذًا ليست للمنظر، بل للضوء، وربما للشعور بأن الخارج ممكن، دون أن يكون حاضرًا.

الصورة النمطية كدافع تصميمي

في كثير من الطلبات، لا ينبع الذوق من الحاجة، بل من الصورة. الزبون لا يطلب نافذة واسعة لأنه يحتاجها، بل لأنه رآها في مكانٍ آخر، في منزلٍ أنيق، في لقطةٍ عابرة على شاشة. يريد أن "يكون مثلهم"، دون أن يسأل نفسه: هل نحن مثلهم فعلًا؟

هذه الرغبة في التشبّه لا تقتصر على النوافذ، بل تمتد إلى تفاصيل كثيرة: الألوان، الأثاث، توزيع الفراغات. لكنها في النوافذ تأخذ شكلًا أكثر حدة، لأنها تمسّ العلاقة بين الداخل والخارج، بين الأمان والانكشاف.

الزبون يطلب نافذة واسعة، ثم يطالب بحماية مشددة. يريد إطلالة، ثم يخاف منها. هذا التناقض يكشف أن الطلب لم يكن نابعًا من وعي بالبيئة، بل من انبهار بصورة. وحين تصطدم الصورة بالواقع، يبدأ التراجع، ويظهر الخوف، وتُعاد صياغة الرغبة.

الإطلالة على الهواجس

النافذة هنا ليست مجرد فتحة معمارية، بل مرآة لهواجس الداخل. كلما اتسعت، اتسعت معها المخاوف. فهي تطل على الخارج، لكنها تفضح الداخل. وتُذكّر الساكن بما لا يريد أن يُكشف.

الزبون يريد نافذة "مثلهم"، لكنه يعيش في واقع لا يشبههم. يطلب الانفتاح، ثم يطالب بالحماية. يريد أن يرى، دون أن يُرى. وهذه الازدواجية تكشف عن أثر الصورة النمطية في تشكيل الطلب، دون وعي بالبيئة المحلية.

الوظيفة الفعلية مقابل المتخيلة

من خلال المعايشة، يتضح أن الإطلالة ليست ممارسة فعلية، بل فكرة متخيلة. حين يدخل الزبون إلى الاستراحة، ينشغل بالحديث، بالأكل، بالنوم. لا أحد ينظر إلى الخارج. النافذة لا تُستخدم كما يُظن، بل تُترك كخلفية صامتة.

وهذا يعيد تعريف وظيفتها: ليست للإطلالة، بل للضوء والتهوية، وربما للشعور بأن الخارج موجود، دون أن يكون حاضرًا. النافذة إذًا ليست عينًا على الطبيعة، بل فتحة رمزية على الاحتمال.

تناقض مجتمعي بين الرغبة والرهبة

هذا التوتر لا يخص الزبون وحده، بل يعكس حالة مجتمعية أوسع: رغبة في الانفتاح على الآخر، وفي الوقت ذاته خوف من انكشاف الذات. يسعى المجتمع إلى صورة منفتحة، لكنه يرتد إلى الانغلاق حين يقترب التنفيذ. يريد أن يُشبه "الآخر"، لكنه لا يحتمل تبعات التشابه.

النافذة، في هذا السياق، ليست تفصيلًا معماريًا، بل تعبير عن صراع داخلي بين التطلع والارتداد، بين الرغبة والرهبة، بين ما يُطلب وما يُراد حقًا.

خاتمة

لهذا، لا أساير الزبون في اتساع النوافذ. أحكي له عن تجارب سابقة، لا لأقنعه، بل لأحميه من نفسه. فالنافذة التي لا تُطل، قد تكون أصدق من تلك التي تُطل على قلقٍ لا يُحتمل.

في النهاية، المعمار لا يرضي الرغبات فقط، بل يكشفها. وما يُطلب في لحظة انبهار، قد يُرفض في لحظة مواجهة. والنافذة، حين تُصمم بوعي، لا تُطل على الخارج فقط، بل تُطل على الداخل أيضًا.

أنماط البيوت التقليدية في ليبيا

المسكن الطرابلسي التقليدي المنزل ذو الفناء " الحوش " جمال الهمالي اللافي مقدمة / يعتبر(...