الجمعة، مارس 21، 2025

رؤيتي المعمارية

 

منزل أسامة الفرجاني- طرابلس

جمال الهمالي اللافي

        أسعى إلى تقديم رؤية معمارية إسلامية ليبية معاصرة ترتكز على إعادة إحياء العلاقة التكاملية بين المعماري الليبي والحرفي، ليس فقط كمتعاونين، بل كجزء من منظومة إبداعية شاملة. تهدف هذه الرؤية إلى إنتاج عمارة ليبية ذات بُعد مادي وروحي، تستجيب بمرونة لحاجات المجتمع الليبي المعاصر، مع الاستفادة الذكية من التقنيات الحديثة وتطويعها لصياغة بيئة عمرانية مستدامة ومتوازنة.

تركز هذه الرؤية على:

  • التفاصيل المناخية: تطبيق حلول تصميمية مبتكرة تُراعي الظروف المناخية المحلية مثل الحرارة المرتفعة وتوفير التهوية الطبيعية.
  • التنوع الثقافي المحلي: استلهام التراث الحرفي والجماليات المحلية الليبية وإعادة تقديمها بطرق إبداعية تُبرز هوية المكان.
  • الموارد الاقتصادية: الاعتماد على استخدام مواد محلية مستدامة ومنخفضة التكلفة، مما يُعزز الاقتصاد المحلي ويُشجع التنمية المستدامة.
  • المساحات المجتمعية: تصميم مساحات تعزز من التفاعل الاجتماعي، وتقوي الروابط بين أفراد المجتمع الليبي.

بالإضافة إلى ذلك:

  • التوجه الفلسفي للعمارة: تنطلق رؤيتي من قناعة بأن العمارة ليست مجرد بناء مادي، بل هي أداة للتعبير الثقافي ولإحداث تغيير إيجابي يعكس قيم المجتمع وهويته.
  • الاستدامة البيئية: أؤمن بأن العمارة يجب أن تلعب دوراً فعالاً في حماية البيئة من خلال تطبيق حلول تصميمية تعتمد على الطاقة المتجددة وتقليل الأثر البيئي.
  • العمارة التشاركية: أتبنى نهجاً معمارياً يُشرك أفراد المجتمع في مراحل التصميم والبناء، مما يعزز ارتباطهم بالمكان ويضمن تلبية احتياجاتهم الفعلية.
  • الإبداع التقني: أطمح إلى الاستفادة من التقنيات الحديثة لابتكار تجارب معمارية تفاعلية تُلبي تطلعات المستقبل وتتماشى مع الروح المعاصرة.
  • رؤية تعليمية: أضع ضمن أهدافي نقل المعرفة والخبرات المعمارية والحرفية إلى الأجيال القادمة، لضمان استمرارية الهوية الثقافية المحلية وإلهام المصممين الشباب.

الشكل ينبع من الوظيفة العاطفية

 حين سُئلت الكاتبة " إيلين غولد " عن إحدى أمنياتها الكبرى، أجابت: “أريد أن أبني بيتًا، لا يرغب ساكنوه في الهروب منه.”

تكمن حكمة هذه الإجابة في التعبير عن مفهوم “البيت” كرمز للسكينة والأمان، لا كمجرد مجموعة من الغرف المستطيلة والمساحات المزخرفة أو التجهيزات العصرية.

الإنسان بحاجة إلى أن يتحرر من العقلية التي تقدّس المظاهر، وأن يبدأ في النظر إلى الأمور من جوهرها الحقيقي. عليه أن يدرك أن البيت، الذي من المفترض أن يحميه من العواصف، لا ينبغي أن يكون هو ذاته مصدر العاصفة.

الفكر المعماري: تحولات مأمولة من الشكل إلى الجوهر


جمال الهمالي اللافي

العمارة ليست مجرد بناءٍ يصمد أمام الزمن أو يتماشى مع المتطلبات العملية للحياة، بل هي انعكاسٌ لفكرٍ عميق يُعبّر عن رؤى الإنسان تجاه بيئته ومجتمعه وحتى قيمه. المشاريع التي قدمها رواد العمارة مثل فرانك لود رايت، لو كوربوزييه، ووالتر غروبيوس لم تكن مجرد تصميمات جميلة، بل كانت تجسيدًا لنظريات معمارية أعادت تعريف العلاقة بين الإنسان والمكان.

فرانك لود رايت والنظرية العضوية:

عندما صمم رايت منزل "فيلا الشلالات"، لم يكن الهدف فقط تحقيق التوازن بين الطبيعة والبناء، بل تقديم فلسفة تعتمد على التكامل التام بين العناصر المعمارية والطبيعة المحيطة. هذه النظرية العضوية تحدت المفاهيم التقليدية، وأرست قواعد جديدة للعلاقة بين العمارة والبيئة.

لو كوربوزييه والوظيفية الراديكالية:

مشاريعه مثل "فيلا سافوي" جسدت النظرية الوظيفية بطريقة لم تكن مجرد استجابة للاحتياجات البشرية، بل خطوة نحو التفكير في التصميم كوسيلة لإعادة صياغة الحياة اليومية. كما أن كنيسة رونشامب قدمت مستوى روحانيًا في التعبير المعماري، يظهر كيف يمكن للعمارة أن ترتقي بروح الإنسان.

والتر غروبيوس وثورة الباوهاوس:

إن مدرسة الباوهاوس لم تكن مجرد أكاديمية لتعليم الفنون والتصميم، بل كانت منصة للتغيير الثقافي. تأثيرها امتد ليشمل مختلف المجالات الفنية، من التصميم الصناعي إلى الهندسة المعمارية، مضيفةً إلى العالم فلسفة ترى في البساطة والتكامل الحل الأمثل للإبداع.

المعماري الليبي والهوية المحلية:

على المعماري الليبي أن يتجاوز التصميم السطحي، ليبحث عن العمق الفكري الذي يمكن أن يقدمه في مشاريعه. الهوية الليبية غنية بتنوع ثقافي وبيئي يمكن استثماره لإنتاج عمارة تُجسد هذه الخصوصية. يجب أن يكون هناك تأملٌ مستمر في كيفية إعادة صياغة العلاقة بين العمارة والمجتمع، بين التصميم والوظيفة، وبين الجمال والقصد.

العمارة كتغيير اجتماعي:

المشاريع المعمارية العظيمة لا تسهم فقط في تغيير المشهد العمراني، بل تُحدث تحولًا في طريقة تفكير الناس وقيمهم تجاه الفضاءات التي يعيشون فيها. العمارة الحقيقية ليست مجرد هياكل، بل أداة لتشكيل وعي اجتماعي.

وكما قال لو كوربوزييه: "العظمة ليست في الحجم ولكن في القصد." دعونا ننظر إلى العمارة كفكر ومضمون قبل أن تكون شكلًا.

 

واقع تدريس التصميم المعماري بين التحدي والابتكار: مراجعة نقدية

مدينة طرابلس التاريخية


جمال الهمالي اللافي

        يُعد التصميم المعماري مجالاً يسعى لتحقيق تكامل الأداء الوظيفي والراحة المعيشية للمستخدمين، مع تقديم حلول مبتكرة للتحديات التي تواجه المباني المعمارية القائمة، سواء السكنية أو الخدمية. ومع ذلك، تشهد مناهج تدريس التصميم المعماري في بعض المؤسسات التعليمية انحرافاً عن هذه الغايات السامية.

        تتمثل أبرز مظاهر هذا الانحراف في تركيز بعض مدرسي مادة التصميم المعماري على دفع الطلاب لإبداع تصاميم "غريبة" أو "فريدة"، متجاهلين بذلك الأهداف الأساسية للعمارة. فالعمارة ليست مجرد استعراض للأشكال، بل هي وسيلة لتلبية احتياجات الإنسان وتعزيز جودة حياته من خلال تقديم حلول مبتكرة ومستدامة. ومع ذلك، بات الشكل الخارجي للمبنى محور اهتمام مبالغ فيه، حيث يُقيَّم الطالب بناءً على غرائبية تصميمه أكثر من جودة الأداء الوظيفي لمبناه.

        هذا النهج التدريسي لا يُؤدي فقط إلى فصل المهنة عن غاياتها الإنسانية، بل يُسهم في تهميش القيم الأساسية للعمارة. كما يعكس هذا الاتجاه واقعاً أوسع يتعلق بالمهنة حالياً، لا سيما في السياق الليبي، حيث أصبح ضعف التعليم وقصوره عن تلبية احتياجات الواقع أحد الأسباب الرئيسية لتراجع جودة المخرجات المعمارية.

        إن إعادة النظر في مناهج تدريس التصميم المعماري تتطلب التوازن بين الابتكار ومتطلبات الوظيفة، مع التركيز على تأهيل الطلاب ليصبحوا معماريين قادرين على مواجهة التحديات الحقيقية بدلاً من الاكتفاء بملاحقة غرائب التصاميم. فالعمارة، في جوهرها، تسعى لتلبية احتياجات البشر بتكامل جمالي ووظيفي.

الخميس، مارس 20، 2025

للواجهة قناع: دعوة لتحرير طرابلس من فوضى العمران


        دار هذا الحوار المثري بيني وبين أستاذي العزيز أحمد انبيص (رحمه الله وغفر له)، منذ عدة سنوات، ذكّرني بها الفيسبوك اليوم، حيث تناولنا فيه قبساً من موضوع شغل تفكيره وكان دائم الحديث عنه، ألا وهو دور واجهات المباني في صياغة هوية المدينة، ومسؤولية الجميع في الحفاظ على الفضاء العام
. أحببت اليوم أن أحيي ذكراه في نفوس كل من تتلمذ على يديه بقسم العمارة والتخطيط العمراني بجامعة طرابلس.

الأستاذ أحمد انبيص: "للواجهة قناع" كان العنوان الذي استوحيتُه من الملامح المعمارية التي ميزت المدينة الإيطالية "طرابلس". خذ على سبيل المثال شارع الرشيد في سوق الحوت؛ المباني هناك تبرز واجهات تشبه القناع، مؤلفة من أقواس ذات أعمدة قصيرة مكررة بإيقاع منتظم وعدد فردي، تتوسطه مدخلٌ واضحٌ في منتصف كتلة المبنى. إنها صيغة معمارية ظاهرة أيضًا في واجهات شوارع عمر المختار، الاستقلال، وحتى مبنى الخارجية. والسؤال هنا: هل يجب أن يساهم المبنى في صياغة ملامح المدينة؟ وأن يأخذ مقياسها، لتصبح واجهته ملكًا للشارع وللناس، لا ملكًا لصاحب المبنى؟ للأسف، نرى عكس ذلك كما هو الحال في شارع عمر المختار أمام مستشفى الأطفال، حيث لم يعد الرصيف أو الفضاء العام ملكًا للجميع، بل أصبح تحت سيطرة المالك.

جمال الهمالي اللافي: قبلتُ دعوتك يا أستاذ أحمد واستوعبت فكرتك، لكني لم أفهم تصرف مالك العمارة القريبة من مستشفى الجلاء سابقًا. ربما تكون هذه مسألة قانونية تحتاج لتدخل الدولة، لتحديد حدود ملكيته وسيطرته على الموقع. فالفكرة التي طرحتها حول ضرورة أن يتحول الرواق الموجود في أي عمارة إلى ملكية عامة، فكرة تستحق التأمل. ولكن ما فائدة هذا الطرح إن لم تتدخل الدولة بفرض سيطرتها على هذه الحيزات لصالح الاستخدام العام؟

الأستاذ أحمد انبيص: لا أقصد مبنى بعينه، لكننا نتحدث عن أمثلة متعددة، مثل المباني التي تبدأ من بعد محطة البنزين في شارع عمر المختار، حيث احتلت كل الشارع والفضاء العام دون أي احترام للمحيط أو سكان المدينة. هذه أمثلة تجرنا إلى مناقشات أوسع حول مسؤولية الجميع. إنها دعوة لتحرير المدينة مرة أخرى.

جمال الهمالي اللافي:  أتفق تمامًا مع طرحك يا أستاذ أحمد. تحديد حدود المسؤولية، سواء للدولة، للملاك، أو للمواطنين، هو ما يقود إلى التوازن بين الحقوق والواجبات. هذا النظام يخلق استقرارًا وازدهارًا ويُنهي الفوضى والصراعات. تحديد مركز لكل منطقة سكنية وإعادة التخطيط العمراني بما يُخصص فضاءات عامة مثل الرواق، سيخلق بيئة أكثر تنظيماً وراحة. ولكن هل يتحمل الجميع مسؤولياتهم تجاه قرارات مثل هذه؟

الأستاذ أحمد انبيص: هذا يقودنا إلى فكرة المسؤولية المشتركة؛ أن المواطن يُسائل نفسه دائمًا عمّا يحدث حوله، يطرح الحلول ويشارك فيها. فالمدينة لنا جميعاً، وليس لأحد الحق في العبث بمخططها أو حرمان أهلها من فضاءاتها العامة.

جمال الهمالي اللافي : نعم يا أستاذ أحمد، فتحديد دوائر المسؤولية يدفع الجميع لتحمل أدوارهم. هذا التعاون هو ما يخلق النظام ويُسهم في تحقيق نهضة عمرانية شاملة. التخصيص الرشيد للحيز العمراني لصالح الناس هو جزء من مسؤولية مشتركة بين الملاك، المستخدمين، والدولة.

خاتمة:  هذا الحوار الثري يطرح قضية بالغة الأهمية تتعلق بحقوق الفضاء العام ومسؤولية كل الأطراف في الحفاظ على المدينة، ويُبرز الحاجة لتفعيل دور الدولة والمجتمع في تعزيز قيمة الفضاءات المشتركة.

الأربعاء، مارس 19، 2025

التعليم المعماري بين الشهادة والجودة: تأملات في التجربة الشخصية

بعض من المحاضرات التي ألقيتها
في أكثر من مناسبة على مدار سنوات ممارسة المهنة

جمال الهمالي اللافي

يشكل التعليم نقطة الانطلاق الأساسية في تشكيل المهارات والخبرات لأي مجال مهني. ومع ذلك، لا يُقاس النجاح في مجال التعليم بمجرد الحصول على الشهادات الأكاديمية، بل يرتبط بمستوى جودة التعليم وأخلاقيات التدريس التي تؤثر تأثيرًا مباشراً على تميّز الخريجين وقدرتهم على مواجهة التحديات المهنية.

لقد خضت تجربة شخصية تعكس هذه المفارقة بشكل واضح. خلال دراستي لقسم العمارة والتخطيط العمراني، تلقيت نصيحة من أحد أعضاء هيئة التدريس، الذي كان أيضًا مشرفي الأكاديمي. بتغيير مجال تخصصي، بحجة أنني "غير مؤهل" لدراسة العمارة. كانت هذه اللحظة بداية لمسار مليء بالتحديات، لكنها كانت أيضًا حافزاً لي لإثبات العكس. ومع مرور السنوات، أثبتت لي الممارسة المهنية أن التأهيل والتميز لا يمكن اختصارهما برأي فردي أو تقييم سريع، بل يعتمد الأمر على المثابرة والتطوير الذاتي.

الفرق بين التعليم والشهادة

يمثل الحصول على الشهادة الجامعية خطوة أساسية نحو الانطلاق المهني، لكنها ليست الهدف النهائي أو المؤشر الحاسم على الكفاءة. يمكن الحصول على الشهادات بطرق مختلفة، بعضها يفتقر إلى معايير الجودة والأمانة العلمية. لكن ما يصنع الفارق الحقيقي هو المناهج الدراسية وأسلوب التدريس. الطالب الذي يتلقى تعليماً يركز على الإبداع والتحليل والنقد البنّاء سيكون بلا شك أكثر جاهزية للمجال المهني مقارنةً بمن يكتفي بالدراسة السطحية بهدف النجاح الأكاديمي فقط.

أخلاقيات التدريس: العامل الحاسم

إلى جانب المناهج الدراسية، تلعب أخلاقيات عضو هيئة التدريس دوراً كبيراً في تشكيل تجربة الطالب. الطريقة التي يتم بها توجيه الطلاب، والتفاعل معهم بصدق واحترام، يمكن أن تزرع فيهم الثقة والطموح أو تُسبب العكس تماماً. إن الثقافة التعليمية التي تشجع الحوار المفتوح وتعزز التفكير الإبداعي تعتبر أحد أهم مقومات النجاح التعليمي.

التعليم في السياق العالمي 

        من خلال مقارنة بسيطة بين الأنظمة التعليمية في الدول المتقدمة والدول المتخلفة، نجد أن هناك فجوة شاسعة تتعلق بجودة التعليم وأخلاقياته. بينما تركز الدول المتقدمة على التعليم القائم على البحث والابتكار، تظل بعض الدول المتخلفة تعاني من التعليم التقليدي الذي يفتقر إلى الديناميكية والتجديد. هنا يظهر الفارق في التحصيل العلمي وأثره المباشر على الأداء المهني.

التعليم في الدول المتخلفة

عند الحديث عن "الدول المتخلفة"، فإن هذا التوصيف لا يأتي بغرض الإساءة بل لتوصيف حالة محددة تعاني فيها الدول من تراجع منهجي ومتكرر في مختلف المجالات، بما في ذلك التعليم. هذه الدول غالبًا ما تفتقر إلى الإرادة الحقيقية للتطوير والتنمية، وتعاني من نظم تعليمية متجمدة، تفتقد للتجديد والإبداع. مقارنة بالدول التي تسعى إلى التقدم وتبذل جهودًا كبيرة نحو التطوير، نجد أن الدول المتخلفة تكرس التخلف من خلال ممارسات وأيديولوجيات تعيق نهضتها، مما ينعكس على جودة خريجيها ومستوى كفاءتهم في المجالات المهنية.

استنتاجات شخصية ودروس مستفادة

تعلّمت من تجربتي أن العقبات التعليمية لا يجب أن تكون عائقًا أمام تحقيق الطموحات. بل على العكس، يمكن للتحديات أن تصقل المهارات وتوجهها نحو الأفضل. كما أدركت أهمية المطالبة بتوفير تعليم جيد يركز على جودة المناهج وأخلاقيات التدريس، فهي الأساس لبناء مجتمع مهني متماسك ومبدع.

 

العمارة: الفن الذي يجمع بين الجمال والعلم والهوية

المسكن الغدامسي

جمال الهمالي اللافي

     العمارة ليست الابنة العاقة للفنون الجميلة، ولا هي المرأة الناشز كما يصفها البعض. إنها الأم الحاضنة التي تمتد ذراعيها لتحتضن كل الفنون الجميلة والحرفية، بل وتمتزج مع العلوم الإنسانية والتطبيقية لتخلق كياناً فريداً من نوعه. العمارة هي المجال الإبداعي الوحيد الذي أذن به الخالق سبحانه وتعالى للإنسان أن يشابهه فيه من حيث الإبداع والخلق، دون المساس بقدسية الخلق الإلهي.

     كما نتأمل جمال خلق الإنسان وننبهر بملامحه الخارجية البديعة، دون أن ندرك ما يكمن خلفها من تعقيدات مذهلة كتفاعلاته الكيميائية ونبضات خلاياه الكهربائية، كذلك الحال مع العمارة. عندما ننظر إلى المباني، ننبهر بجمال واجهاتها وتفاصيلها الخارجية دون أن نرى المواد التي صُنعت منها، أو الهيكل الخرساني الذي يدعمها، أو الأسلاك التي تمدها بالكهرباء، أو أنابيب المياه التي تدعم حياتنا اليومية. العمارة، مثل الجسد البشري، تخفي خلف جمالها الكثير من العلوم والوظائف.

     ولكن الأمر لا يتوقف عند الجمال الظاهري؛ فالعمارة تحمل أيضاً رسالة عميقة تعبر عن تاريخ الشعوب وهويتها الثقافية. تماماً كما تميزنا ألوان البشر وأجناسهم، تُعرّفنا التفاصيل والأنماط المعمارية بأصالتنا وانتمائنا. إنها ليست مجرد بناء صامت، بل هي كتاب مفتوح يحكي قصص الأجداد ويرسم ملامح المستقبل.

     العمارة ليست سجينة في قفص الغيرة مع الفنون الجميلة، بل هي تاج الفنون الملكي. إنها تخلق حواراً بين الخطوط والألوان، وتمزج بين التقاليد والابتكار، وتجمع بين الجمال والوظيفة. على سبيل المثال، تحكي العظمة الكامنة في مسجد قرطبة في إسبانيا قصة التاريخ الإسلامي، بينما يجسد تاج محل في الهند مزيجاً من الجمال والحب والهوية الثقافية.

     وفي هذا الإطار، لا يجب أن نغفل أهمية الجانب التقني والعلمي للعمارة. فالخرسانة المسلحة، ونظم التهوية الذكية، وتقنيات التصميم المستدام كلها تبرز كيف تسهم الهندسة في إحياء العمارة وجعلها قابلة للعيش والدوام.

     كما قال المعماري لويس سوليفان" : الشكل يتبع الوظيفة."  هذا المبدأ يجسد دور العمارة ليس فقط كفن، بل كعلم يخدم الإنسان والمجتمع. وعليه، عندما نعشق جمال الواجهة، يجب أن نتأمل أيضاً العمق الذي يقف وراء هذا الجمال.

     لذلك، دعوة لكل قارئ: انظر من حولك. تأمل المباني التي تعيش فيها وتراها يومياً. خلف كل واجهة قصة، خلف كل جمال كمال. العمارة ليست مجرد مشهد بصري، بل هي حياة تنبض بالفن والعلم معاً.

أنماط البيوت التقليدية في ليبيا

المسكن الطرابلسي التقليدي المنزل ذو الفناء " الحوش " جمال الهمالي اللافي مقدمة / يعتبر(...