السبت، أغسطس 09، 2025

المسكن الطرابلسي المعاصر: النية المعمارية في إحياء الذاكرة المكانية

 


جمال الهمالي اللافي

منذ بدايات دراستي بقسم العمارة والتخطيط العمراني بجامعة طرابلس، انصب اهتمامي على تجاوز التلقين النظري نحو تعميق فهمي للمصطلحات المعمارية وتأصيلها في سياقنا العربي. كان البحث عن مرادفات عربية لمصطلحات مثل "Intention" "النية المعمارية: هو شغف حقيقي، لأجد في النهاية أن "النية المعمارية" هي التعبير الأدق الذي يلخص جوهر فكرة التصميم. هذه "النية" ليست مجرد خطة وظيفية أو جمالية، بل هي الروح التي تسكن المشروع، القصة التي يرويها المعماري، والهدف الأعمق الذي يسعى لتحقيقه.

النية المعمارية: ترجمة للفكر إلى واقع ملموس

مصطلح "النية المعمارية" (Architectural Intention) هو مصطلح جوهري في عملية التصميم، ويعكس بعمق العلاقة بين فكرة المعماري وتجسيدها في المشروع.

ما هي النية المعمارية؟

النية المعمارية هي الهدف الأساسي أو الفكرة المحورية التي يسعى المعماري لتحقيقها من خلال تصميمه. إنها ليست مجرد وظيفة أو جمالية سطحية، بل هي الجوهر الفلسفي والتعبيري الذي يقف وراء كل قرار تصميمي. يمكن اعتبارها بمثابة "روح" المشروع أو "القصة" التي يرويها المعماري من خلال عمله.

تتضمن النية المعمارية جوانب متعددة، منها:

·     المفهوم التصميمي (Concept): الفكرة التجريدية التي ينطلق منها التصميم، والتي يمكن أن تكون مستوحاة من البيئة، التاريخ، الثقافة، أو حتى احتياجات المستخدمين.

·         الرسالة المراد إيصالها: ما الذي يريد المعماري أن يشعر به الناس أو يفهموه عند تفاعلهم مع المبنى؟ هل هي السكينة، القوة، الترحيب، أم شيء آخر؟

·         القيم الأساسية: المبادئ التي يلتزم بها المعماري في تصميمه، مثل الاستدامة، المرونة، الشمولية، أو التكيف مع السياق.

·         حل المشكلات: الطريقة التي يعالج بها التصميم تحديات معينة، سواء كانت وظيفية، بيئية، أو اجتماعية.

النية المعمارية هي التي تمنح المشروع تفرده وهويته، وهي التي تميزه عن غيره من المباني.

كيف يحقق المعماري النية المعمارية في مشاريعه؟

تحقيق النية المعمارية يتطلب عملية تصميم شاملة ومتكاملة، يترجم فيها المعماري أفكاره المجردة إلى تفاصيل ملموسة. إليك بعض الطرق التي يمكن للمعمار أن يحقق بها نيته:

1.      الفهم العميق للسياق والمتطلبات:

·         دراسة الموقع: فهم خصائص الموقع، مثل التضاريس، المناخ، الإضاءة الطبيعية، والعناصر المحيطة.

·         تحليل احتياجات المستخدمين: التعرف على متطلبات ووظائف المشروع من وجهة نظر المستخدمين المستقبليين.

·         البحث الثقافي والاجتماعي: استيعاب القيم الثقافية والاجتماعية التي قد تؤثر على التصميم وتلقيه.

2.      تطوير المفهوم التصميمي:

·         تحديد الفكرة الأساسية: بلورة الفكرة المركزية التي ستوجه عملية التصميم بأكملها.

·         رسم المخططات الأولية (Sketches): ترجمة الأفكار الأولية إلى رسومات سريعة تعبر عن التكوين العام والمساحات.

·         بناء النماذج الأولية (Models): استخدام النماذج المادية أو الرقمية لتصور الحجم، الشكل، والتوزيع المكاني.

3.      اتخاذ القرارات التصميمية الواعية:

·     اختيار المواد (Materiality): استخدام مواد تتناسب مع النية المعمارية، فالمواد الخشنة قد تعبر عن القوة، بينما المواد الشفافة قد تعبر عن الانفتاح.

·         التلاعب بالضوء والظل (Light and Shadow): استخدام الإضاءة الطبيعية والصناعية لخلق أجواء معينة وتحديد مسارات الحركة والتركيز.

·         تشكيل الفراغات (Spatial Organization): تصميم الفراغات الداخلية والخارجية بطريقة تدعم الوظيفة وتعزز الشعور المطلوب (مثل الانفتاح، الخصوصية، التجمع).

·         التفاصيل المعمارية (Architectural Details): حتى أصغر التفاصيل يمكن أن تساهم في تعزيز النية المعمارية وتعبيرها.

4.      التواصل الفعال:

·         شرح النية: يجب على المعماري أن يكون قادرًا على التعبير بوضوح عن نيته التصميمية للعملاء، المهندسين، والجمهور.

·         التحقق المستمر: مراجعة التصميم بشكل دوري للتأكد من أنه لا يزال يتماشى مع النية الأصلية، وتعديله عند الضرورة.

النية المعمارية ليست ثابتة دائمًا، بل يمكن أن تتطور وتتعمق مع تقدم المشروع، ولكنها تظل بوصلة توجه المعماري نحو تحقيق رؤيته. إنها ما يميز المعماري المبدع الذي لا يكتفي ببناء المساحات، بل يخلق تجارب ومعاني.

النية المعمارية في "المسكن الطرابلسي المعاصر": من المخطط إلى الكتلة

في سياق مشاريعي التصميمية، تجسدت "النية المعمارية" في محاولة جادة لتقديم رؤية تصميمية معاصرة للمسكن الطرابلسي التقليدي. فالمنزل الطرابلسي العريق، بكل تفاصيله وخصائصه، يمثل كنزًا معماريًا وفلسفيًا يستحق الإحياء والتأصيل في عصرنا الحالي. لم تكن النية مجرد محاكاة للشكل، بل هي فهم عميق لجوهر هذا المسكن وكيف يمكن ترجمة قيمه وخصائصه إلى حلول معمارية تلبي احتياجات الحياة المعاصرة، مع الحفاظ على الهوية الثقافية والتراثية.

من خلال الصور المرفقة لمشروع "المسكن الطرابلسي المعاصر"، تتضح ملامح النية المعمارية التي توجه هذا التصميم:

1.      إحياء الفناء المركزي (الحوش) كجوهر تنظيم الفراغات:

·     في المسقط الأفقي: يُظهر المسقط الأفقي الأهمية المحورية للفناء الداخلي "الحوش". هذا الفناء ليس مجرد مساحة مفتوحة، بل هو النية الأساسية في التصميم. إنه قلب المسكن الطرابلسي التقليدي الذي يوفر الخصوصية التامة للعائلة ويسمح بدخول الضوء والهواء الطبيعيين. في هذا التصميم، تم إبراز الفناء كقلب نابض بالحياة للمنزل، يتجلى في التشجير المحيط والنافورة التي تضفي عنصر الصوت الهادئ والبرودة. النية هنا هي إعادة تعريف الوظيفة الاجتماعية والثقافية للحوش كفضاء عائلي يجمع بين الألفة والطمأنينة.

·     في الكتلة الخارجية: تُبرز الكتلة الحوش كفراغ داخلي محاط بالكتل الصلبة للمبنى، مما يعزز فكرة الحماية والخصوصية من الخارج. هذا الترتيب الكتلوي يعكس بوضوح فلسفة المسكن الطرابلسي التقليدي الذي ينغلق على نفسه ويفتح داخليًا.

2.      التأكيد على التسلسل الهرمي للخصوصية:

·     في المسقط الأفقي: يمكن رؤية النية في خلق تسلسل هرمي للخصوصية. فالدخول من الباب المدخل الرئيسي يؤدي إلى فراغات شبه عامة مثل استقبال ضيوف الرجال وجناح الضيافة، ثم تتدرج الفراغات لتصبح أكثر خصوصية كلما توغلنا داخل المنزل، وصولاً إلى غرف النوم والمساحات العائلية الخاصة. هذا التسلسل يعكس القيم الاجتماعية والثقافية في تنظيم المساكن التقليدية.

·     في الواجهة والكتلة: تعبر الواجهة الأمامية والكتلة الخارجية عن هذه النية بشكل فعال. الواجهة تبدو متماسكة وذات فتحات قليلة ومحمية (مثل الشباك الأخضر البارز)، وارتفاعها عن الشارع بما يتجاوز 2 متر، مما يقلل من الرؤية المباشرة من الشارع ويحافظ على خصوصية الفناء الداخلي والفراغات الخاصة. هذه الكتلة الصلبة هي تعبير عن "النية" في حماية العالم الداخلي للمنزل.

3.      الاستلهام من التفاصيل التقليدية بلمسة معاصرة:

يمكن ملاحظة استخدام عناصر معمارية مستوحاة من التراث الطرابلسي، مثل الأقواس والزخارف. ومع ذلك، فإن النية لم تكن الاستنساخ الحرفي، بل هي التأويل المعاصر. فالأقواس تظهر بشكل مبسط وأكثر حداثة، والنقوش تستلهم من الزخارف التقليدية لكنها تتسم بالبساطة في التعبير. الألوان الخضراء المستخدمة في الشبابيك والمشربيات تعكس نية إضفاء لمسة من الحيوية والتجديد مع الحفاظ على الهوية اللونية للمباني التقليدية.

4.      دمج العناصر الطبيعية والمستدامة والإضاءة الطبيعية:

·     في المسقط الأفقي: يُشير وجود الحديقة (في الدور الأرضي) إلى نية دمج الطبيعة داخل المشروع، بالإضافة إلى الفناء الرئيسي. هذا يعزز التهوية الطبيعية ويوفر مساحات خضراء داخلية تزيد من جودة الحياة.

·     في الكتلة: تظهر المساحات الخضراء في الفناء وعلى الشرفات، مع وجود المظلات الخضراء "التعريشات" التي تسمح بمرور الضوء مع توفير الظل. هذه العناصر تؤكد على النية في خلق بيئة مريحة ومستدامة، تعتمد على التبريد والتهوية الطبيعية، وهو ما كان جوهريًا في العمارة التقليدية.

·     تأثير الضوء: تُظهر الظلال التي تسقط على أرضية الفناء نية واضحة في استخدام الإضاءة الطبيعية كعنصر تصميمي. فالضوء ليس مجرد وسيلة للإضاءة، بل هو أداة لخلق الأجواء والتعبير عن الزمن والتغيير خلال اليوم. النية هنا هي استغلال الشمس لخلق تأثيرات بصرية جذابة تزيد من حيوية الفناء وتفاعله مع البيئة.

5.      التعبير عن الهوية الثقافية المعاصرة والمرونة الوظيفية:

·     في المسقط الأفقي والكتلة: يعكس التصميم ككل نية في تجاوز مجرد "التقليد" إلى "التأصيل". إنه لا يقدم منزلًا طرابلسيًا قديمًا، بل يقدم نموذجًا معاصرًا يعبر عن هوية طرابلسية متجددة. الكتل الواضحة والمناطق المفتوحة والمغلقة، والتفاصيل المستوحاة، كلها تعمل معًا لتحقيق هذه النية.

·     المرونة الوظيفية: على الرغم من التمسك بالجوهر التقليدي، تظهر النية في هذا التصميم أيضًا بتوفير مرونة وظيفية تناسب الحياة العصرية. تقسيم الفراغات الداخلية يسمح بتنظيم مختلف للوظائف المعيشية الحديثة. النية هنا هي خلق مسكن لا يعيش في الماضي، بل يستفيد من قيمه العميقة ليقدم حلولًا عملية ومريحة لحاضرنا.

6.      العلاقة بين الداخل والخارج والخصوصية:

تُبرز التصميم العلاقة بين الفراغات الداخلية والفناء، حيث تطل الغرف عليه لتستمد منه الإضاءة والتهوية. في ذات الوقت، يُظهر التصميم اهتمامًا كبيرًا بالخصوصية، وهي نية أساسية في المسكن التقليدي، حيث لا توجد فتحات كبيرة مباشرة على الشارع. حتى الواجهة الخارجية للمبنى تعكس عادةً انغلاقًا نسبيًا لحماية الفناء الداخلي. المساحات الخارجية المفتوحة مثل الشرفات المزروعة تبرز نية توسيع نطاق الفراغات الترفيهية مع الحفاظ على درجة من العزلة.

في الختام، المسقط الأفقي والكتلة الأولية لمشروع "المسكن الطرابلسي المعاصر" يؤكدان أن النية المعمارية وراءه هي أكثر من مجرد تصميم وظيفي. إنها محاولة حقيقية لخلق تجربة معيشية تستوحي من ثراء المسكن الطرابلسي التقليدي وتراثه، مع إعادة تفسيره وتكييفه ليناسب متطلبات الحياة الحديثة. هذا المزيج بين الأصالة والمعاصرة هو جوهر "النية المعمارية" التي يسعى هذا المشروع لتحقيقها، ليصبح "المسكن الطرابلسي المعاصر" ليس مجرد مبنى، بل هو سرد معماري لهوية متجددة.

الخميس، أغسطس 07، 2025

منزلنا... ليس مجرد جدران، بل حديقة للحياة!

 


جمال الهمالي اللافي

عاش أجدادنا في "الدار" الواحدة بقناعة ورضا تام، لم يكن فقرًا، بل كان إيمانًا بالكفاية. كانت "الدار" للنوم والمأوى، أما "الحياة" فكانت في رحاب الطبيعة الممتدة.

اليوم، تتسارع الحياة وتتعقد متطلباتها، لكن هل يجب أن نفقد جوهر السعادة من أجل المظاهر؟

قصة العجوز الإيطالي من جزيرة سردينيا التي سردها علينا الصديق الأستاذ محمد العبدلي - في تعليق له على منشور بصفحتي على منصة فيسبوك، تلخص الحكمة: "البيت للنوم، والحديقة للحياة."

هذه العبارة ليست مجرد نصيحة معمارية، بل فلسفة حياة. دعانا هذا العجوز إلى بناء بيوت صغيرة، وترك مساحات واسعة حولها لتكون "حديقة للحياة". حديقة للزراعة، للرياضة، للعب الأطفال، للطيور، للفرن التقليدي، وللاستجمام.

فلماذا نصرف كل طاقتنا وأموالنا في بناء جدران ضخمة، بينما الحياة الحقيقية تتطلب مساحات خضراء؟

هذا ما دفعنا إلى إعادة التفكير في نموذج السكن. فبدلاً من تعقيد الأمر، يمكن تبسيطه:

·     منزل صغير وذكي: مساحة محدودة (كمنزل على قطعة 10×10 متر) يمكن أن توفر كل الضروريات لأسرة ناشئة. مطبخ صغير، غرفة نوم للوالدين، غرفة للبنات، ودورة مياه، مع إمكانية التوسع المستقبلي.

·         حديقة لكل منزل: دمج المساحات الخضراء مع الوحدات السكنية. حديقة صغيرة لزراعة الخضروات والأشجار المثمرة، وليست مجرد ديكور.

·         العودة للقناعة: لا يعني السكن اللائق المنزل الفخم، بل يعني المنزل الذي يوفر الراحة والكرامة، ويفتح بابًا لحياة أكثر بساطة وسعادة.

إن نموذج الاستراحة في جبال الخمس، بما يجمع بين البساطة والجمال والوظيفة، هو دليل على أن هذا الحلم ممكن.

لنتوقف عن ملاحقة الكماليات، ولنعيد التفكير في مشاريع الإسكان لتكون حلولًا واقعية للشباب ومحدودي الدخل. فبدلاً من الصرف على القرى السياحية، يمكن إعادة توجيه هذه الموارد نحو مشاريع إسكانية مستدامة، تمنح طبقة كبيرة من المجتمع "مأوى" يحقق لهم السكينة والكرامة.

واقع الحال اليوم أعاد للناس الكثير من القناعات المهجورة. والواقعية أضحت أسلوب تفكير ونمط عيش، تحتاج من المعماري الليبي تبنيها في تفكيره ومشاريعه المعمارية.

فلنصنع من منازلنا حدائق للحياة، لا مجرد جدران للنوم.


الأربعاء، أغسطس 06، 2025

كتاب "الإعلان بأحكام البنيان" لابن الرامي

 


    كتاب "الإعلان بأحكام البنيان" لابن الرامي هو أحد الكتب الفقهية الهامة التي تتناول فقه العمران والبناء في الإسلام. مؤلفه هو محمد بن إبراهيم اللخمي، الشهير بابن الرامي البناء، وهو فقيه وبنّاء تونسي عاش في القرن الثامن الهجري (الرابع عشر الميلادي).

أهمية الكتاب ومكانته:

  • جمع بين الفقه والخبرة العملية: ما يميز كتاب ابن الرامي بشكل كبير هو أنه يجمع بين الجانب الفقهي النظري والخبرة العملية في مجال البناء. فابن الرامي لم يكن مجرد فقيه، بل كان بنّاءً محترفًا، وهذا منحه نظرة فريدة وعميقة للمسائل العمرانية.
  • مرجع مهم في الفقه المالكي: يعتبر الكتاب مرجعًا هامًا في المذهب المالكي، حيث يعرض فتاوى ونوازل تتعلق بقضايا البناء والعمران في عصره، خاصة في بلاد المغرب الإسلامي (تونس وما حولها). وقد اعتمد عليه فقهاء كبار جاؤوا بعده، مثل الونشريسي في "المعيار".
  • توثيق للعمارة الإسلامية: يقدم الكتاب معلومات قيمة عن الجوانب العملية والتنظيمية للبناء في المدن الإسلامية في تلك الفترة، مما يجعله مصدرًا مهمًا للمؤرخين وعلماء الآثار والمعماريين لفهم تطور العمارة الإسلامية.
  • شمولية الموضوعات: يتناول الكتاب مجموعة واسعة من القضايا المتعلقة بالبناء، منها:
    • أحكام الجدران والأبنية: مثل ملكية الجدران المشتركة، كيفية بنائها، وما يترتب على ذلك من حقوق والتزامات.
    • نفي الضرر: وهو مبدأ أساسي في الشريعة، ويتجلى في أحكام البناء التي تمنع إلحاق الضرر بالجار أو المصلحة العامة، مثل حجب الضوء أو الهواء، أو التسبب في سقوط المباني.
    • عيوب الدور (المنازل): يتطرق إلى أنواع العيوب التي قد تظهر في المباني وكيفية التعامل معها من منظور فقهي.
    • الغروس: أحكام تتعلق بالزراعة والتشجير داخل وحول المباني، وما يترتب عليها من حقوق.
    • الأرحية (الطواحين): قضايا تتعلق بإنشاء وتشغيل الطواحين المائية أو الهوائية وما يمسها من أحكام.
  • منهجية ابن الرامي: كان ابن الرامي يورد الأقوال الفقهية المختلفة، ويُرجح بعضها بناءً على خبرته العملية وما جرى به العمل في عصره. كما كان يعتمد على ما سمعه ورآه من قضايا ونوازل في مجال البناء. ويُعرف عنه أنه كان يُشير أحيانًا بقوله: "قال المعلم"، إشارة إلى ما استقاه من خبرة أهل الصناعة.

أثر الكتاب على الفقه المعماري الإسلامي:

"الإعلان بأحكام البنيان" يُعد حجر الزاوية في فقه العمران الإسلامي، لأنه:

  • ساهم في تطوير مفهوم "فقه العمران": حيث أظهر كيف أن الشريعة الإسلامية لم تقتصر على الجوانب التعبدية والشخصية، بل امتدت لتشمل تنظيم المجتمع والحياة العمرانية بكل تفاصيلها.
  • وفّر إطارًا قانونيًا للممارسات العمرانية: كانت أحكام البنيان في الإسلام بمثابة قوانين منظمة لعمليات الإنشاء والتخطيط العمراني في المدن الإسلامية.
  • ربط بين النظرية والتطبيق: يعتبر نموذجًا رائدًا في الربط بين المعرفة الفقهية والخبرة التقنية، وهو ما نفتقر إليه في كثير من الأحيان في العصر الحديث.
  • مصدر لفهم العرف العمراني: يعكس الكتاب العرف والتقاليد التي كانت سائدة في تنظيم العمران، والتي كانت تتوافق مع الشريعة وتخدم المصلحة العامة.

باختصار، كتاب "الإعلان بأحكام البنيان" لابن الرامي ليس مجرد كتاب فقهي تقليدي، بل هو وثيقة تاريخية ومعمارية وقانونية قيمة، تسلط الضوء على العلاقة العميقة بين الشريعة الإسلامية والعمران، وتُظهر كيف أن الفقه الإسلامي كان ديناميكيًا وقادرًا على مواجهة التحديات العملية للحياة اليومية.

المصدر: المساعد الافتراضي Gemini

الأحد، أغسطس 03، 2025

العمارة الليبية: نحو سيمفونية حسية تعزفها الحياة

 


جمال الهمالي اللافي

لطالما شغفني التساؤل عن ماهية العمارة الحقيقية. هل هي مجرد كتل صامتة وهياكل وظيفية تؤوينا من عوامل الطبيعة؟ أم أنها تتجاوز ذلك لتصبح تجربة حسية متكاملة تنبض بالحياة، تخاطب الروح وتُثري الذاكرة؟

في خضم هذا التأمل، أستحضر مقولة المعماري دانيال ليبسكيند: "العمارة يجب أن تجعلنا نشعر بالاختلاف، وإذا لم يحدث هذا فالهندسة ستكون كافية. ولسنا بحاجة للعمارة". هذه المقولة تضعنا أمام حقيقة أن العمارة ليست مجرد علم وتقنية، بل هي فن عميق يلامس الوجدان. يرتبط هذا الفهم، في ذهني، بعلاقة العمارة بالموسيقى. فكل من الفنين، على اختلاف وسائلهما، يتقاطعان في مفاهيم جوهرية مثل الإيقاع، الانسجام، والتوازن. فالموسيقى تُصاغ من تتابع نغمات وإيقاعات متناغمة تتكشف في بُعد الزمان، مُشكلة هيكلاً سمعيًا معقدًا. في المقابل، تُبنى العمارة من خلال تنظيم الكتل والفراغات والعناصر، مُشكلة هيكلاً بصريًا ومكانيًا يتجلى في بُعد المكان. هذه القواسم المشتركة هي التي دفعت فلاسفة مثل يوهان فولفغانغ فون غوته ليصف العمارة بأنها "موسيقى مجمدة"، أو فريدريش شيلينغ ليراها "موسيقى صامتة".

ولكن، وعلى النقيض من فكرة العمارة الجامدة أو الصامتة التي قد توحي بها هذه التشبيهات، أرى أن العمارة الحقيقية يجب أن تُعزف وتُسمع، أن تسكنها الحياة بأصواتها التي تمنحها الروح. إن تجربتي الشخصية في مطار روما عام 1983، حيث حُفر في ذاكرتي إيقاع جميل ومنتظم لخطى فتاة في صمت الليل، ليعود صداه في وعيي بين الفينة والأخرى، تُعزز قناعتي بأن الصوت هو بعد حيوي في العمارة، لا يقل أهمية عن الأبعاد البصرية أو الوظيفية. هذا الصوت لم يكن مجرد ضجيج؛ كان لحنًا يحكي قصة ويُضفي حيوية على فراغ بدا صامتًا ومملًا.

العمارة الحسية: أكثر من مجرد شكل

المبنى ليس مجرد شكل بصري يمكن رؤيته وتصويره؛ إنه مساحة تُختبر بجميع الحواس. لكي تصبح العمارة "حية" وتتجاوز كونها مجرد "مقبرة صامتة"، يجب أن نستكشف ونُعزز جوانبها الحسية المتعددة:

·         الصوت: لحن الحياة وإيقاعها:

يُعد الصوت العنصر الأكثر قدرة على بث الروح في الفراغ المعماري، مُحوله من هيكل صامت إلى بيئة نابضة بالحياة. الأصوات، سواء كانت نابعة من الطبيعة أو من البشر، تُشكل "المشهد الصوتي" للمكان وتُضفي عليه روحًا فريدة وتجربة لا تُنسى:

o        أصوات الطبيعة:

§     خرير مياه النوافير والبرك: لا يبعث على الهدوء والاسترخاء فحسب، بل يُشكل خلفية صوتية متواصلة تُعطي إحساسًا دائمًا بالانتعاش والسكينة، خصوصًا في بيئاتنا الحارة.

§     زقزقة العصافير وتغريدها: تُشير إلى وجود حياة فطرية غنية، وتُعزز الشعور بالبهجة والاتصال بالطبيعة، لتصبح موسيقى طبيعية تُصاحب فصول اليوم.

§     حفيف أوراق الأشجار مع نسمات الهواء: يخلق إيقاعًا ناعمًا ومتغيرًا يُعبر عن حركة الهواء وتفاعل المبنى مع بيئته، ويُذكرنا بالتغيرات الموسمية ودورة الحياة، مُضفيًا على المكان موسيقى طبيعية دائمة التجدد.

o        أصوات البشر: تُعد هذه الأصوات جوهر الحياة في الفراغ المعماري، فهي بصمات الوجود الإنساني التي تملأ المكان:

§     وقع الأقدام: يمكن أن يتحول إلى إيقاع منتظم أو غير منتظم، يُعبر عن ديناميكية الحركة الإنسانية ونشاطها. في الممرات الطويلة أو القاعات الكبرى، يصبح وقع الخطى جزءًا من لحن المكان.

§     ضحكات الأطفال ولعبهم: تُضفي على الفراغ بهجة وحيوية لا تُضاهى، وتُذكرنا بالنمو والمستقبل الذي يحتضنه المكان. هي طاقة لا تنضب تُبعث في الجدران.

§     أحاديث البشر ونقاشاتهم: سواء كانت حوارات هادئة أو نقاشات حيوية، تُعكس التفاعل الاجتماعي والنشاط اليومي. حتى عناد الأطفال البريء مع والديهم، يضيف نكهة خاصة وواقعية للفراغ.

§     هذه الأصوات مجتمعة تُحول الفراغ من هياكل جامدة إلى بيئات تتنفس وتنبض بالحياة، تُحفز الذاكرة وتُعزز التجربة الإنسانية، لتصبح الفراغات المعمارية مسرحًا تُعزف عليه سيمفونية الحياة اليومية بكل تفاصيلها.

·     الرائحة: ذاكرة المكان العطرية: روائح النباتات العطرة في الحدائق (مثل الياسمين أو الفل)، عطر التراب بعد المطر الذي يُنعش الروح، أو حتى رائحة القهوة الطازجة أو الشاهي في إفطار صباحي أو رائحة الخبز الشهي الخارج تواً من فرن البيت، كلها تُساهم في خلق "ذاكرة شمية" للمكان وتُعزز من هويته وتفرده. هي بصمة غير مرئية تُثبت المكان في أذهاننا وتُعيدنا إليه.

·     الملمس: لغة المواد الصامتة: ملمس المواد المستخدمة في البناء (خشونة الحجر المحلي، نعومة الرخام، برودة المعدن في المقابض، دفء الخشب في الأثاث، أو حتى نعومة الرمال في الفناء) تُقدم تجربة حسية غنية عند التفاعل المادي مع المبنى. كل مادة لها قصتها التي ترويها من خلال إحساسنا بها، وتُثري تفاعلنا مع المكان.

·     الإضاءة: إيقاع اليوم والفصول: استخدام الضوء الطبيعي وتوجيهه بذكاء لخلق تأثيرات وظلال متغيرة على مدار اليوم والفصول يُضفي على الفراغ حيوية ويُغير من مزاجه. الإضاءة الصناعية، بتنوعها ودرجاتها، تُكمل هذا الدور لتُشكل إيقاعًا ضوئيًا يُناسب الأنشطة المختلفة على مدار الساعة، ويُبرز تفاصيل العمارة.

·     الحرارة والرطوبة: راحة الجسد والروح: الإحساس بالبرودة المنعشة في فناء داخلي صيفي مُظلل، أو دفء غرفة مشمسة في الشتاء، كلها جوانب تُعزز الراحة الحسية وتُشكل العلاقة بين المستخدم والفراغ. تصميم يُراعي هذه العناصر يُساهم في خلق بيئة مُريحة وصحية، تُقلل من الحاجة للطاقة وتزيد من جودة الحياة.

الأثر النفسي والاجتماعي للعمارة الحسية

إن الاهتمام بالجوانب الحسية في العمارة يتجاوز مجرد الجماليات ليلامس الأثر النفسي والاجتماعي على ساكني الفراغ. عندما تُصمم العمارة لتُخاطب جميع الحواس، فإنها تُساهم في خلق بيئات:

·     تُعزز الرفاهية: الفراغات التي تُقدم تجربة حسية غنية ومُريحة تُقلل من التوتر، تُحفز الإبداع، وتُعزز الشعور بالانتماء والأمان. الأماكن الصاخبة جدًا أو الصامتة جدًا، الباردة أو الحارة بشكل مفرط، أو التي تفتقر للتنوع الحسي، يُمكن أن تكون مُرهقة وتُقلل من جودة الحياة.

·     تُنمي الإحساس بالمكان: عندما نتفاعل مع مكان ما بحواسنا المتعددة، فإننا نُكوّن رابطًا أعمق معه. الأصوات المألوفة، الروائح المميزة، والملمس المريح للجدران، تُساهم في بناء "هوية المكان" في أذهاننا، وتجعله أكثر من مجرد نقطة جغرافية، ليصبح جزءًا من ذاكرتنا وكياننا.

·         تُشجع على التفاعل: العمارة التي تُفكر في الصوتيات بشكل جيد يُمكن أن تُعزز التواصل بين الأفراد. فناء داخلي يُضخم ضحكات الأطفال، أو مقعد مريح في حديقة تسمح لك بسماع حفيف الأوراق، كلها تُشجع على التجمع والتفاعل الاجتماعي، وتُعزز من نسيج المجتمع.

تحديات العمارة الحسية في السياق الليبي المعاصر

في سياقنا الليبي، أرى أن الوعي بهذه الأبعاد الحسية المتكاملة للعمارة، بما في ذلك البعد الصوتي، ليس من أولويات المعماريين أو المجتمع بشكل عام في التصميم المعاصر. غالبًا ما ينصب التركيز على الجانب الوظيفي والجمالي البصري، مُتجاهلين الدور العميق الذي يمكن أن تلعبه هذه الجوانب في إثراء التجربة الحياتية للمستخدم.

إن العمارة الليبية المعاصرة مدعوة اليوم لإعادة اكتشاف "موسيقى الحياة" في تصاميمها. هذا يتطلب منا كمعماريين ومخططين، وبالتعاون مع المجتمع، إعادة التفكير في كيفية:

·     دمج العناصر الطبيعية: يجب أن تصبح الحدائق، الساحات الخضراء، وعناصر المياه (مثل النوافير والبرك) جزءًا لا يتجزأ من التصميم المعماري والتخطيط الحضري. هذه العناصر ليست فقط جمالية أو بيئية، بل هي مصادر طبيعية للأصوات التي تُحيي الفراغات وتُضفي عليها ديناميكية مسموعة.

·     التصميم الصوتي الواعي (Acoustic Design): يجب أن نولي اهتمامًا أكبر لكيفية ارتداد الأصوات داخل الفراغات. استخدام المواد المناسبة لامتصاص أو عكس الصوت، وتصميم أحجام الفراغات بطريقة تُعزز "المشهد الصوتي" المرغوب (سواء كان للهدوء والتأمل أو للنشاط والتفاعل)، كلها جوانب حيوية. فالمعماري يجب أن يُصبح "موزعًا" للأصوات داخل تصميمه، يوجهها، ويُضخم ما هو مرغوب فيه، ويُقلل من الملوثات السمعية.

·     التشجيع على التفاعل البشري: تصميم مساحات مرنة ومفتوحة تُشجع على اللعب، الحركة، والتواصل، مما يسمح لأصوات الحياة البشرية - كضحكات الأطفال وأحاديث الكبار ووقع أقدامهم - بأن تتردد وتملأ المكان. يجب أن تُوفر العمارة مساحات تُصبح فيها هذه الأصوات جزءًا طبيعيًا ومرحبًا به، لا مجرد ضجيج.

·     إعادة إحياء العمارة التقليدية: كثير من عناصر العمارة الليبية التقليدية، مثل الأفنية الداخلية (الحوش)، كانت تُساهم بشكل طبيعي في خلق بيئات صوتية وحسية غنية. هذه الأفنية، بحجمها وتصميمها، كانت تسمح بصدى الأصوات الخافتة، وتُشجع على التجمع، وتُوفر مأوى من صخب الشارع، مما يخلق بيئة سمعية فريدة. كما أن استخدام المواد المحلية كالحجر والطوب كان يُساهم في عزل جيد للصوت وتوفير بيئة حرارية مريحة. يمكننا استلهام هذه المبادئ وتكييفها مع العمارة المعاصرة.

خاتمة: عمارة حية تتنفس وتتفاعل

إن العمارة في ليبيا، كما في أي مكان آخر، لا يجب أن تكون مجرد إجابة صامتة على الحاجة للمأوى؛ بل يجب أن تكون بيئة حية، مسرحًا للحياة بكل ما فيها من أصوات وحواس وتجارب. إن العمارة التي لا تحرك الحواس الخمسة لدى الإنسان، وبإيقاع الحياة اليومي، وبتتابع الزمن والفصول الموسمية، لهي عمارة ميتة وإن أفلحنا في تجميلها.

إن تفعيل هذه الجوانب الحسية سيُحول مبانينا ومدننا إلى أماكن لا تُرى فحسب، بل تُسمع وتُشم وتُلمس وتُحس، لتُصبح بذلك سيمفونية متكاملة تعزفها الحياة وتخلدها الذاكرة. أرى أن تحقيق ذلك يتطلب جهودًا مُشتركة: من مناهج التعليم المعماري التي يجب أن تُركز أكثر على التجربة الحسية المتكاملة، إلى المعماريين الممارسين الذين يجب أن يُصبحوا أكثر وعيًا بالبعد الصوتي والحسي لتصاميمهم، وصولاً إلى المجتمع الليبي نفسه الذي يجب أن يُقدر ويدعم هذه الأبعاد في الفراغات التي يعيش فيها ويتفاعل معها. هذه هي الخطوات العملية نحو عمارة ليبية أكثر إنسانية، أكثر حيوية، وأكثر جمالاً في جميع أبعادها. 

السبت، أغسطس 02، 2025

منازل الجنة في ليبيا: استغلال الأرض لراحة الأسرة واستدامة البيئة

 


جمال الهمالي اللافي

يسعى هذا المقال إلى اقتراح تحول جذري في فلسفة التصميم السكني في ليبيا. بدلاً من السعي نحو بناء منازل واسعة وكبيرة، يدعو المقال إلى تبني نهج يركز على الدمج الاستراتيجي للمساحات الخضراء، مثل الحدائق والأفنية الداخلية، ضمن الاستخدام الكلي للأرض. هذا النهج لا يعكس تفضيلاً جمالياً فحسب، بل يمثل عودة إلى مبادئ التصميم التي تتسم بطبيعتها بكونها أكثر استدامة، وأكثر فعالية من حيث التكلفة، وأكثر ملاءمة للرفاهية النفسية، وهو أمر بالغ الأهمية في بيئة ليبيا الحارة والجافة.

تحديات السكن الحديث وعبء المساكن الكبيرة

تتجه التطلعات السكنية المعاصرة غالبًا نحو تشييد منازل كبيرة، مدفوعة بتصورات المكانة الاجتماعية أو الرغبة في الراحة. لكن هذا السعي يتجاهل الآثار طويلة المدى والأعباء الخفية المرتبطة بهذه الخيارات. فالمنازل الكبيرة تفرض أعباءً مالية ونفسية كبيرة؛ تتطلب استثمارًا أوليًا أعلى، وتكاليف صيانة وإصلاح جارية أعلى، واستهلاكًا هائلاً للطاقة للتدفئة والتبريد، مما يؤدي إلى ارتفاع فواتير الخدمات. هذه الضغوط المالية المستمرة تؤدي إلى إجهاد نفسي كبير يمكن أن يؤثر سلبًا على رفاهية الأسرة وصحة الأطفال ونموهم. على الرغم من أن هذه المنازل تُبنى لتوفير مساحة واسعة، إلا أن الضغط المالي قد يؤدي بشكل متناقض إلى الاكتظاظ. يصبح الدافع المجتمعي لامتلاك "منازل كبيرة" مصدرًا للتوتر وعدم الاستقرار المالي، مما يستدعي إعادة تقييم لمعايير تصميم المنازل نحو الاستدامة والقدرة على تحمل التكاليف والرفاهية الحقيقية.

"منازل الجنة": إلهام من التراث لـ "السكينة"

يستلهم المقال من عمل فيتوريا ألياتا "منازل الجنة"، الذي يصف المنازل العربية والإسلامية التقليدية بأنها "جنات" توفر الهدوء والخصوصية في بيئة خارجية قاسية. يعكس التصميم الداخلي المغلق لهذه المنازل قيم الخصوصية والحشمة الإسلامية. كما يساهم دمج نوافير المياه والأشجار والنباتات في خلق أجواء فردوسية تعزز الشعور بالسلام والراحة، أو ما يُعرف بـ "السكينة" (سكينة). يؤكد هذا المفهوم أن المنزل المثالي، خاصة في المناخات الحارة، هو الذي يصمم "جنة" داخلية، مكتفية ذاتيًا وهادئة لساكنيه، بدلاً من التركيز على المظهر الخارجي أو الحجم المطلق.

الفناء والحديقة: حلول معمارية وبيئية خالدة

تُعد الأفنية والحدائق عناصر معمارية وبيئية متعددة الفوائد، خاصة في المناخات الحارة. الأفنية تعزز التهوية الطبيعية وتوفر إضاءة طبيعية وفيرة، وتقلل بشكل كبير من استهلاك الطاقة وتكاليف التبريد والتدفئة. كما أنها توفر واحة منعزلة وخاصة للأنشطة المنزلية، مما يزيد من المساحة المعيشية القابلة للاستخدام دون زيادة البصمة الكلية للمبنى. يساهم دمج النباتات الوارفة والأشجار المنتجة وميزات المياه في الأفنية والحدائق في تحقيق الاكتفاء الذاتي للأسرة من المنتجات الطازجة، ويقلل من الاعتماد على الأسواق الخارجية، ويضيف قيمة اقتصادية ملموسة.

الفوائد النفسية والاجتماعية للمساحات الخضراء

إن مفهوم "السكينة"، الذي يمثل السلام الداخلي والهدوء، يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالمنزل كملاذ للراحة. يتجلى هذا المفهوم في التصميم التقليدي للمنزل الإسلامي بأفنيته وميزاته الطبيعية. يرتبط التعرض المباشر للمساحات الخضراء بانخفاض مستويات التوتر، وتحسين الوظيفة المعرفية، وتقليل أعراض الاكتئاب. تُعزز هذه المساحات التماسك الأسري بتوفير منطقة خارجية آمنة وخاصة للتفاعل الأسري، وتدعم القيم الثقافية للخصوصية والنظافة. الاستثمار في المساحات الخضراء يُظهر كاستراتيجية فعالة من حيث التكلفة لتحسين الصحة العقلية، مما يخفف من الآثار السلبية لضغوط الإسكان الحديثة.

الملاءمة للواقع الليبي: إحياء التراث من أجل مستقبل مستدام

اعتمدت العمارة الليبية التقليدية، مثل بيت الفناء (الحوش)، تاريخيًا على تصاميم متكيفة مع المناخ المحلي والقيم الثقافية. ومع ذلك، أدت التحديثات إلى التخلي عن هذا النموذج لصالح تصاميم مستوحاة من الغرب، والتي غالبًا ما تتجاهل قضايا الخصوصية والتكيف المناخي. يدعو المقال إلى إحياء مبادئ العمارة الليبية التقليدية، ليس كتراجع حنيني، بل كخطوة تقدمية وعملية لإنشاء منازل تعطي الأولوية للراحة الداخلية والخصوصية والاتصال بالطبيعة، وتوفر استجابة ثقافية وبيئية سليمة للتحديات المعاصرة.

توصيات لتصميم منزل مستدام ومريح

لتحقيق بيئة سكنية مستدامة ومريحة في ليبيا، يُوصى بالآتي:

·         إعطاء الأولوية للمساحات الخضراء: تخصيص جزء كبير من الأرض للحدائق والأفنية الداخلية بدلاً من تعظيم مساحة البناء.

·     تطبيق التصميم المستجيب للمناخ: توجيه المنزل لتحقيق التهوية الطبيعية والإضاءة المثلى، واستخدام مواد البناء المحلية ذات العزل الحراري الفائق، ودمج ميزات التهوية المحسنة والمياه المبردة.

·     اختيار النباتات بعناية: اختيار الأنواع المحلية والمقاومة للجفاف، واستخدام زراعة طبقية لتوفير الظل والخصوصية، والتركيز على النباتات المنتجة لتعزيز الاكتفاء الذاتي.

·     إعطاء الأولوية للخصوصية والسكينة: تصميم التخطيط الداخلي ليعطي الأولوية للخصوصية، واستخدام معالجات حدود مناسبة، والحفاظ على مستوى عالٍ من النظافة.

·         التكامل المتناغم بين الحداثة والتقاليد: دمج تقنيات البناء الحديثة مع المبادئ التصميمية التقليدية لإنشاء منازل فعالة تكنولوجيًا وأصيلة ثقافيًا.

تُحدد "الرفاهية" الحقيقية في التصميم السكني بقدرة المنزل على توفير بيئة باردة، وخاصة، وهادئة، وصحية تعزز رفاهية الأسرة وتقلل الضغط المالي. هذا يدعو إلى تحول في طلب المستهلكين وقيم السوق نحو حلول سكنية أكثر وعيًا بالتصميم، ومسؤولية بيئيًا، ومناسبة ثقافيًا، مما يؤدي إلى تطوير مجتمعات أكثر مرونة وتناغمًا.


نحو إنسان ليبي قوي: البيئة أساس البناء لا الانهيار

 


جمل الهمالي اللافي

إن الحديث عن بناء "إنسان ليبي قوي" لا يمكن أن ينفصل، بأي حال من الأحوال، عن البيئة التي يترعرع فيها ويعيش. هذه حقيقة جوهرية، يؤكدها علم الاجتماع وعلم النفس البيئي، ومع ذلك تبقى للأسف الشديد، إما مغيبة أو مُستهزأ بها في خطابنا المجتمعي، على الرغم من أن إدراكها ضروري لتحقيق أي نهضة حقيقية. إنها لبنة أساسية في صرح التنمية البشرية، وإغفالها يعني بناء كيان ضعيف مهدد بالانهيار.

حقيقة مُرّة: تدهور البيئة العمرانية والطبيعية ومسؤولية الدولة

شهدت مدننا الليبية تحولات عمرانية جسيمة خلال العقود الماضية، غالبًا ما تمت تحت ذريعة حل أزمة السكن، لكنها أسفرت عن نتيجة كارثية: تدمير للنسيج العمراني الأصيل وتشويه للبيئة الطبيعية. استُبدلت هذه البيئات بعمارات أسمنتية كئيبة تفتقر لأدنى مقومات الجمال أو الروح الإنسانية، وأدت إلى انتشار الضوضاء والتلوث، وغياب المساحات الخضراء والجمالية البصرية. هذه البيئة المصطنعة ليست مجرد مشهد قبيح؛ إنها آلة صماء تعمل على تدمير النفس البشرية بصمت. فالبيئات الحضرية القبيحة والمكتظة والمفتقرة للعناصر الطبيعية تؤدي إلى ارتفاع مستويات التوتر والقلق، وتدهور الصحة العقلية، وفقدان الشعور بالانتماء، كما تسهم في تفشي السلوكيات السلبية وضعف الروابط المجتمعية.

تفاقمت هذه المعضلة بشكل كبير بسبب غياب المخططات العمرانية المدروسة من طرف الدولة، وتخليها عن مسؤولياتها في هذا الشأن الحيوي. فبدلاً من صياغة رؤى شاملة للمدن تستوعب النمو السكاني بطرق مستدامة وإنسانية، وجدنا أنفسنا أمام مخططات عشوائية ومكتظة أفرزتها سياسات غير مدروسة. هذه المخططات تفتقر بشكل فادح للبنى التحتية اللازمة لمواكبة الكثافة السكانية المتزايدة، ولا تُعنى بتوفير مشاريع معمارية سكنية منسجمة تراعي الجانب الجمالي والنفسي، ناهيك عن الإهمال التام للمساحات الخضراء التي تعد متنفسًا حيويًا للسكان. هذا الفراغ التخطيطي وغياب تحمل المسؤولية في رسم مستقبل عمراني مستدام، هو ما أنتج بيئات سكنية تعكس الفوضى والضيق، وتضعف من قدرة الفرد على التكيف والازدهار. إن الدولة، بمؤسساتها المعنية بالتخطيط والتنمية، تتحمل مسؤولية مباشرة في تدهور هذه البيئات وفي بناء عمارات لم تكن أبدًا جزءًا من رؤية متكاملة لمدن قادرة على احتضان أجيال قوية ومستقرة.

شرخ في البناء المعرفي: تجاهل الجذور الحقيقية

المفارقة تكمن في أن هذه الحقائق ليست خافية على المتخصصين. علماء الاجتماع وعلماء النفس في كل أنحاء العالم يقرون بأن البيئة هي حاضنة السلوك البشري. ولكن في جامعاتنا وكلياتنا ذات الصلة، يبدو أن التركيز ينصب على دراسة النتائج المدمرة أكثر من دراسة أسبابها الجوهرية. فطلاب علم الاجتماع يُرسلون لدراسة المساجين في السجون، وطلاب علم النفس يُرسلون لمعاينة الحالات في مستشفيات الأمراض العقلية. هذا التركيز على "التشخيص بعد وقوع الكارثة" يطمس الرؤية الشاملة التي تؤكد أن بيئة سليمة ومُصممة بعناية يمكن أن تكون الوقاية الأولى من هذه المشكلات.

إن هذا التجهيل المعرفي المتمثل في تجاهل الرابط الوثيق بين البيئة وصحة الإنسان النفسية والجسدية هو عقبة كبرى أمام أي تقدم. فالجذور الحقيقية لمشكلاتنا المجتمعية والنفسية لا تكمن فقط في الأفراد أو الظروف الاقتصادية، بل تمتد لتشمل البيئة المحيطة التي تشكل وعينا وسلوكنا.

نحو حلول جذرية: بناء بيئة تصنع الإنسان القوي

لصناعة إنسان ليبي قوي، لا بد أن نبدأ بإعادة بناء بيئته، وهذا يتطلب مقاربة شاملة ومتكاملة:

1.   التخطيط العمراني المستدام الموجه بالإنسان: يجب أن تتبنى البلديات والمؤسسات المعنية فلسفة تخطيط عمراني تضع الإنسان في جوهرها. هذا يعني تصميم أحياء سكنية تحترم الخصوصية وتوفر المساحات المشتركة، وتراعي الجمالية، وتدمج المساحات الخضراء، وتُشجع على المشي والتفاعل الاجتماعي. يجب التوقف عن سياسة العشوائية والتركيز على الكثافة المفرطة التي تخنق الروح وتضيق الخناق على حياة الناس.

2.   حماية البيئة الطبيعية وتجذيرها: الطبيعة ليست ترفًا، بل هي ضرورة قصوى للصحة النفسية والعقلية. يجب حماية سواحلنا، صحارينا، غاباتنا، ومساحاتنا الطبيعية، وتضمينها بشكل عضوي في التخطيط العمراني، وتسهيل الوصول إليها. غرس الأشجار في الشوارع، إنشاء الحدائق العامة، والمساحات الخضراء في كل حي هو استثمار مباشر في صحة المواطن.

3.   إصلاح المناهج التعليمية: يجب أن تعكس مناهجنا الجامعية في كليات الهندسة، التخطيط العمراني، علم الاجتماع، وعلم النفس هذه الحقائق. يجب أن يُعلّم الطلاب ليس فقط كيفية بناء المنشآت أو تحليل الظواهر الاجتماعية، بل كيف تُصمم وتُبنى بيئات تعزز الصحة النفسية والجسدية، وتُشجع على الإبداع، وتُنمّي حس الانتماء والمسؤولية المجتمعية. يجب أن تكون دراسة تأثير البيئة على الإنسان جزءًا أساسيًا من تكوينهم المعرفي.

4.   التوعية المجتمعية بأهمية البيئة: يجب إطلاق حملات توعية مكثفة تثقف المجتمع بأهمية البيئة المعمارية والطبيعية في تشكيل شخصية الإنسان. عندما يدرك الأفراد أن نوعية حياتهم وسلوكيات أبنائهم ترتبط بشكل مباشر بجودة المكان الذي يعيشون فيه، سيتغير سلوكهم وتزداد مطالبتهم ببيئة أفضل.

إن بناء إنسان ليبي قوي لا يبدأ من الفراغ، ولا يمكن أن يُنجز بمعزل عن بيئته. إنها رحلة تتطلب وعيًا جماعيًا، وتخطيطًا مستقبليًا، واستثمارًا حقيقيًا في بيئاتنا المعمارية والعمرانية والطبيعية. عندها فقط، يمكننا أن نرى أفرادًا أكثر صحة نفسية، وأكثر إنتاجية، وأكثر احترامًا لأنفسهم وللمجتمع من حولهم، قادرين على بناء مستقبل أقوى لوطنهم.

أنماط البيوت التقليدية في ليبيا

المسكن الطرابلسي التقليدي المنزل ذو الفناء " الحوش " جمال الهمالي اللافي مقدمة / يعتبر(...